قال ابن أبي الحديد: وهذا الخبر مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رواه كثير من المحدثين عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((إن الله كتب عليكم جهاد المفتونين)) وساق الرواية إلى أن قال: فقلت: يارسول الله لوبينت لي قليلاً، فقال: ((إن أمتي ستفتتن من بعدي فتتأول القرآن وتعمل بالرأي، وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه، وتغلب كلمة الضلال، فكن حلس بيتك حتى تقلدها...)) الخبر بطوله.
ومن كلامه عليه السلام للخوارج وهم مقيمون على إنكار حكمه: (ألم تقولوا عند رفعهم للمصاحف حيلة، وغيلة، ومكراً، وخديعة، إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا واسترجعوا إلى كتاب الله، فالرأي القبول منهم، والتنفيس عنهم، فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوله رحمة، وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم وعضوا على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى نعق ناعق إن أجيب أضل، وإن ترك ذل) رواه في النهج، والناعق: المصوت.
وفي كلامه عليه السلام دليل على أنها مهما علمت إرادة الحيلة والخداع فإنه لايترتب على الظاهر شيء من أحكام الشرع التي يقصد بالحيلة إثباتها أو سقوطها، وكلامه عليه السلام في هذا المعنى كثير.
[إجماع الصحابة على تحريم الحيل ]
حكاه ابن القيم وتقريره على ماذكره في أعلام الموقعين أنها قد وقعت وقائع متعددة في أوقات متفرقة تدل على تحريم الحيل من ذلك:
أن أمير المؤمنين عليه السلام، وابن عباس وعثمان، وابن عمر أفتوا أن المرأة لاتحل بنكاح التحليل، وخطب بتحريم ذلك عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لا أوتى بالمحلل والمحلل له إلا رجمتهما، وأقره سائر الصحابة، وروي أن ابن مسعود، وأبي، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، وابن عمر نهوا المقرض عن قبول الهدية من المقترض، وجعلوا قبولها ربا، وحرم ابن عباس، وأنس، وعائشة مسألة العينة، وأفتى علي، وعثمان، وأبي بن كعب وغيرهم من الصحابة أن المبتوتة في مرض الموت ترث، ووافقهم سائر المهاجرين والأنصار من أهل بدر وبيعة الرضوان ومن عداهم.
قال: وهذه وقائع متعددة، والعادة توجب اشتهارها، وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تضبط أقوالهم، وتنتهي إليهم فتاواهم، ومع هذا إنه لم يحفظ الإنكار من أحد عليهم، وإذا كان هذا قولهم في إبطال الحيلة فيما ذكر فماذا يقولون في التحيل لإسقاط حقوق المسلمين بل لاسقاط حقوق رب العالمين.
هذا حاصل كلامه في أعلام الموقعين قال فيه: إن تقرير إجماعهم على تحريم الحيل وإبطالها أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغيره مما يدعى فيه إجماعهم.
واعلم أن كل مادل على سد الذرائع ومنعها فهو دال على تحريم الحيلة، وأدلة سد الذرائع كثيرة كتاباً وسنة، ووجه دلالة هذا الوجه على منع الحيل أن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلته، وأن الحيل مبنية على الهوى، والكتاب والسنة ناطقان بتحريم اتباع الهوى، وأجمع العترة (عليهم السلام) على تحريم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى، رواه الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الإرشاد، ولا شك أن الحيل لا يطلب بها إلا الأخف، والأخف لايطلب إلا اتباعاً للهوى غالباً.
وما ذكره الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم وجعله من طريقة القياس ولفظه: ومن القياس أن يقال كل فعل توصل به إلى مخالفة الشريعة، وميل بها عن أسرارها التي جعل الله لإختلاف الأحكام فهو باطل؛ لقوله تعالى: ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ?[القصص:50] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فمن أحدث في ديننا هذا ماليس فيه فهو رد عليه)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس منا من غش مسلماً أوضره أو ماكره)) ولأن إسقاط الحقوق إضرار بأهلها، ومما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا ضرر ولاضرار في الإسلام)) قال: وهذا دليل على أن ليس في الإسلام حكم يثبت به الضرر والإضرار.
هذا ماتيسر جمعه عن الحيلة وضرورة اجتنابها، والابتعاد عنها، وقد توسع في الكلام عنها السيد العلامة علي بن محمد العجري رحمه الله تعالى، وذلك في الجزء الثاني من كتابه مفتاح السعادة.
وقد نقلت بعضاً مما أورده هنالك، وما هذه إلا تنبيهات للمسلم، والمؤمنون وقافون عند الشبهات.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين.