[حديث شراء التمر]
وأما حديث بلال في شراء التمر، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)) فليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى ليبتاع بثمنها سلعة أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعاً فإنها ربا، وهي بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا هل هو صحيح أو فاسد، وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى استدلال بهذا الحديث؛ فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة.
الوجه الثاني: إن الحديث ليس فيه عموم؛ لأنه قال: ((وابتع بالدراهم جنيباً)) والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمراً بشيء من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزم له فلا يكون الأمر بالمشترك أمراً بالمميز بحال، نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاماً لها على سبيل البدل، لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب، فقوله بع هذا الثوب لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ولا بكذا وكذا ولا بهذه السوق أو هذه، فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممثلاً من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود، إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنقد البلد ولا غيره، ولا بثمن حال أو مؤجل، فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلاً، لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها، واللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفي، ولا إثبات، ومقصود الشارع صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها شراء التمر الجيد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيداً، أو لم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط.
[قصة يوسف مع أخيه]
وأما استدلالهم بأن الله سبحانه وتعالى علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه، فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل فإن المحتجين بذلك لا يجوزون شيئاً مما في هذه القصة البتة، ولا تجزها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به ولا يسوغه بوجه من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاء لإخوته، وعقوبة لهم على ما فعلوه به، ونصراً له عليهم، وتصديقاً لرؤياه، ورفعاً لدرجته، ودرجة أبيه، وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف عليه السلام على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق، وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنه بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف عليه السلام حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك.
نعم، لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا شبهة له أيضاً على هذا التقدير فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه.
[الروايات الدالة على تحريم الحيل]
وماروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار الصريحة في تحريم الحيل بعضها عامة وبعضها في جزئيات متعددة يحصل من مجموعها العلم بتحريم الحيل التي يتوصل بها إلى استباحة ماحرم الله ورسوله فمن ذلك ما روي من لعن المحلل والمحلل له.
[حديث الربا]
وروى الحاكم في السفينة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أكلة الربا يبعثون يوم القيامة على صورة الكلاب وعلى صورة الخنازير)) لأجل حيلتهم في الربا كما مسخ قوم داود عليه السلام حين أخذوا الحيتان بالحيلة، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن أكل الربا بالحيلة، وفي أعلام الموقعين عنه صلى الله عليه وآله وسلم ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فاستحلوا محارم الله بالحيل)) .
[ضرورة مطابقة السنة]
وفي أمالي أبي طالب عليه السلام: أخبرنا، أبي، أخبرنا عبد الله بن أحمد، أخبرنا أبي، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا عبد الله بن داهر، عن عمرو بن جميع، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غيرصلاة، وقراءة القرآن في غير صلاة أفضل من ذكر الله، وذكر الله أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصيام، والصيام جنة من النار، ثم قال: لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولاعمل ولا نية إلا بإصابة السنة)).
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا الأزجي، أخبرنا المفيد، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا خالد بن عبد، عن نافع بن يزيد، عن زهرة، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قرآن في صلاة أفضل من قرآن في غير صلاة، وقرآن في غير صلاة أفضل مما سواه من الذكر، والذكرأفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصيام، والصيام جنة حصينة من النار، والإيمان قول وعمل، ولا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة)).
وفي صحيح البخاري: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التميمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة )) قد رواه الهادي عليه السلام والمؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد مرسلاً وهو في الشفاء، وأصول الأحكام والانتصار، ورواه في الجامع الكافي، ثم قال: وعن علي عليه السلام مثل ذلك، وأخرجه أبو داود وابن أبي شيبة، وابن جرير وصححه في مواهب الغفار السيد العلامة عبدالله بن الإمام الهادي القاسمي.
[حديث بيع الشحوم]
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وانتفعوا بثمنها)) رواه في الشفاء.
وفي العلوم حدثنا محمد قال: حدثنا سفيان، عن أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، عن جابر قال: قام رجل فقال: يارسول الله ما ترى في شحوم الميتة فإنه يدهن بها السقا، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن اليهود لما حرم الله عليهم شحومها أخذوها فجملوها وأكلوا ثمنها)) قال أبو أسامة: جملوها يعني أذابوها، والحديث رواه في الشفاء، وأخرجه الجماعة.
وفي العلوم: حدثنا محمد قال: حدثنا أبو عمار المروزي، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي الزبير قال: سمعت جابر ابن عبدالله يقول: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي إبلاً تنفق أفأبيع شحومها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)) الحديث في الشفاء.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه أحمد، وأبو داود، وهو في الجامع الكافي، والحديث دليل على تحريم الحيل وإبطالها، وأنه لا يجوز التوصل إلى ما هو في ذاته كأثمان الشحوم حلال بالحيل، والذرائع المحرمة.
[حديث الخل]
وعن علي عليه السلام: ((كلوا خل الخمر ما فسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم)) رواه علي بن موسى الرضا في الصحيفة.
ولما نزل تحريم الخمر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإراقتها وكان في الجملة خمر ليتيم فا ستأذنه وليه في أن يجعلها خلاً فمنع من ذلك وأمر بإراقتها.
[أقوال الإمام علي عليه السلام عن الحيل]
وماروي عن أمير المؤمنين عليه السلام من التحذير من الحيل وأهلها، فمن ذلك قوله عليه السلام: (لقد صرنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة مالهم قاتلهم الله قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين) رواه في نهج البلاغة، الكيس بفتح الكاف وسكون الياء المثناة من تحت: الفطنة والذكاء، والحُوَّل القُلَّب بضم الحاء المهملة والقاف وتشديد الواو واللام: الذي قد تحول وتقلب في الأمور وجربها، والانتهاز :المبادرة إلى الفرصة واغتنامها، والحريجة: التقوى.
وقال عليه السلام في عهده للأشتر:(ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن القول بعد التوثقة) رواه في النهج وهو نهي عن الحيل؛ إذ هي مبنية على العلل والتأويلات المخالفة للظاهر.
وقال عليه السلام بعد كلام ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: ((يا علي إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهيه فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع)) فقلت: يارسول الله بأي المنازل أنزلهم عند ذلك بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((بمنزلة فتنة)) رواه في النهج، والأهواء الساهية: الغافلة، والسحت: الحرام.