الكتاب : تحقيق الأمل في التحذير من الحيل
جمعه :السيد العلامة الولي
محمد بن عبدالله بن سليمان العزي
حفظه الله تعالى

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين.
وبعد..
فهذا بحث موجز وهام عن الحيل وخطرها في حياة المسلم، قام بجمعه فضيلة شيخنا السيد العلامة الولي محمد بن عبد الله ابن سليمان العزي حفظه الله تعالى؛ حيث وله نظرة خاصة في مجمل الحيل يدعو إلى اجتنابها، ويحذر من مغبة الوقوع فيها.
والحقيقة أن الحيل مكروهة بالإجماع غالباً، والمؤمن الصادق في إيمانه هو من وقف عند الشبهة، وتجنب الوقوع فيها عملاً بالأحوط، وسداً للذريعة، فالوقوع في الشبهات كالوقوع في الحرام، أو كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
وما وصف الله تعالى التابعين للمتشابه من آياته بالزائغة قلوبهم إلا لكونهم لم يستعملوا عقولهم في إرجاعها إلى المحكم منها ابتغاء الفتنة، واتباعاً للشبه الموصلة إليها.
ومن أراد الالتفاف على الأحكام الشرعية الواضحة بتحريم حلال، أو بتحليل حرام بمجرد شبهة واهية، أو حيلة مشبوهة مصيره مصير من سبق؛ لأنه توه نفسه، وتجاوز حده، وقد أغنانا الله بحلاله عن حرامه، وفتح لنا أبواباً واسعة في الفقه الإسلامي تعالج جميع قضايانا في الحياة بجميع أشكالها، وأنواعها التعبدية والشخصية، والإجتماعية، والعائلية، والإقتصادية، والسياسية، وكلها مبنية على منهج ميسر ومتوازن لا يحتاج إلى حيلة متحيل، أو تشريع مشرع.
وهذا المنهج العظيم لا يحمله إلا عدول الأمة من أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم الكرام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) .

وهذا هو ما أكد عليه الله في كتابه بقوله: ?كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ?[آل عمران:79] فالربانية مطلوبة وضرورية، ولا يستقيم العلم إلا بها، والمنهجية الوسطية ضرورية كذلك، ولا يمكن تحقيقها إلا بالإبتعاد عن معاول الهدم المذكورة في الحديث: التحريف الداعي إلى الإفراط، والانتحال الداعي إلى التفريط، والتأويل الداعي إلى إثارة الفتن، وبلبلة الأفكار.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
وكتب:
عبد الله بن حمود العزي
6ربيع الثاني 1422ه .

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين.
وبعد..
اعلم أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار بما هو أنفع لنا، وذلك بما شرعه لنا من الحق والمباح النافع، ونحن نعلم علماً لا شك فيه أن الحيل التي تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه، وندب إليها لما فيها من التوسعة والفرج وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما تركت من شيء يُقرّبكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا تركت من شيء يُبعدكم عن النار إلا وقدحدثتكم به، تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) فهلا ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها كما حض على إصلاح ذات البين، بل لم يزل يحذر عن الخداع والمكر والنفاق، ومشاغبة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل، ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات، وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداءً، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها، ولكن ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة في غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، فهذا مما تصان عنه الشرائع فضلاً عن أكملها شريعة.

[أقسام الحيل]
فالحيل أقسام:

أحدها: الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى محرم في نفسه، فمتى كان المقصود بها محرماً في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجرظالم آثم، وذلك مثل احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف، واحتيال البائع على فسخ البيع، واحتيال المشتري على الفسخ، والمؤجر والمستأجر، والراهن ونحو ذلك، فهو من كبائر الإثم، وأقبح المحرمات.

الثاني: ما هو مباح في نفسه، لكن يقصد الحرام صار حراماً كالسفر ليقطع الطريق ونحو ذلك فهاهنا المقصود حرام، والوسيلة في نفسهاغير محرمة، لكن لما توصل بها إلى الحرام صارت حراماً.

الثالث: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل لكن لا تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه، فهذا محرم؛ لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وقد حملهما على ذلك، وكذلك لو كان له عند رجل دَيْنٌ فجحده إياه وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف أنه لم يودعه، أو كان له على رجل دَيْنٌ لا بينة له به، ودين آخر به بينة لكنه اقتضاه منه فيدعي هذا الدَّين ويقيم به بينة وينكر الاستيفاء، أو يكون قد اشترى منه شيئاً فظهر به عيب تلف المبيع به فادعى بثمنه فأنكر أصل العقد وأنه لم يشتر منه شيئاً أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئاً فجحد نكاحها بالكلية فهو حرام؛ لأنه كذب ولا سيما إن حلف عليه ونحو ذلك.

الرابع: من الحيل أن يقصد حل ما حرمه الشارع أو سقوط ما أوجبه بأن يأتي بسبب نصبه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود فيجعله المحتال المخادع سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه، وهذا حرام من جهتين من جهة غايته، ومن جهة سببه.

[ الغاية والسبب]
أما غايته فإن المقصود به إباحة ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإسقاط ما أوجبه، وأما من جهة سببه فإنه اتخذ آيات الله هزواً، وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، ولا قصده به الشارع، بل قصد ضده فقد صار الشارع في الغاية والحكمة والسبب جميعاً، وقد يجعلون الحيل من الدين وأن الشارع جَوَّزَ لهم ذلك التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرم وإسقاط ما أوجبه، ثم إن هذا يتضمن نسبة الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة أن تصير العقود الشرعية عبثاً لا فائدة فيها فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التي شرعت لها، بل لا غرض له في مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه فجعلها سترة وجُنَّة يتستر بها من ارتكاب ما نهي عنه صرفاً، ومن الاحتيال: الاحتيال لحل ما هو حرام في الحال كالحيل الربوية وحيلة التحليل.

القسم الخامس: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه فهو صائر إلى التحريم كما إذا علق طلاقها بشرط محقق تعليقاً يقع به أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك.

القسم السادس: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب فيحتال حتى يمنع الوجوب كالاحتيال على إسقاط الزكاة بتمليكه ماله قبل مضي الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك، وكالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعاً للضرر عن الشريك قبل وجودها أو بعده، والاحتيال على أخذ حقه أو بعضه، أو بدله بخيانة، إما أن يجحده دينه كما جحده أو يخونه في وديعته كما خانه، أو أن يغشه في بيع كما غشه، أو يسرق ماله كما سرقه، أو أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلماً وعدواناً أو غرراً وخداعاً، أو عبثاً...

[عبرة]
نعم، لو نفع أصحاب الحيل التحيل لما مسخ الله تعالى اليهود قردة وخنازير، ولم يعاقب الله تعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرمها ليلاً لئلا يحضرهم المساكين.

[شبهات وردود]
وأما تمسكهم بقول الله تعالى لأيوب: ?وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ?[ص:44] فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول لأنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه؛ لأن هذا إنما يجري في حق المريض كما ورد في الحديث بعثكال يسقط عنه الحد.

[قصة أيوب مع زوجته]
وأما قصة أيوب فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه، فلما لقيها الشيطان وقال لها ما قال أخبرت أيوب عليه السلام بذلك فقال: إنه الشيطان، ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذوراً خفف عنه بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة، وامرأة أيوب معذورة لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان فلم تكن تستحق العقوبة فأفتى الله نبيه أيوب أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر بيمنه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقاب.

1 / 3
ع
En
A+
A-