وفي فروع هذا كله وأصوله، وما نزَّل الله فيه من بيانه وقوله، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عياناً، وسمعتم نداه إعلاناً، وكلا لو رأيتم لعمركم إذاً لأبصرتم، ولو أبصرتم إذاً لاغتنمتم، ولكنكم نظرتم بأعين عميّة، وسمعتم القول فيه بآذانٍ دوية، ودبرتم الأمر فيه بقلوب سقيمة، غير بريَّة من أدواء الأهواء ولا سليمة، فآثرتم ذميم ما حضركم، على كريم ما غاب عنكم، وما عجل إليكم ولكم، على ما قَصَرَ علمُه دونكم، كما قال الله تبارك وتعالى: ?يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ? [الروم:7]، وكذلك فلم يزل العُتَاة الجاهلون، أما لو نظرتم إليه بأعيان جليَّة، وسمعتم القول فيه بآذانٍ سويّة، ودبرتم الأمر فيه بقلوب حَييَّة، لعلمتم أنكم من الدنيا في إدبار حثيث، ومن الآخرة في إقبال غير مكيث، فكأن ليلَكم ونهاركم في مرورهما بكم، وكرورهما عليكم، قد وقفا بكم على آجالكم، وأفرداكم عن غرور آمالكم، وكشفا عنكم أغطية أبصاركم، فحسر رأيكم إن لم يرحمكم ربكم.

الانسان المغرور
فيا ويل المغرور من نفسه، المخطئ لسبيل حظه، من أي يوميه يُشغل؟! بل من أي حاليه يغفل؟! أيوم رجوعه إن عُمِّر إلى أرذل عمره؟! وحاله حين يصير عَيال عِياله وأسير منزله وداره، أم عن يوم وروده داراً لم يتخذ بها منزلاً؟! ولم يُقدِّم إليها من صالحٍ عملاً، أم لأي يوميه يفرغ أَلِيَوم حَبرةٍ، يتبعها عَبرةٌ؟! وفرحة، يعقبها ترحة، وزخرفٍ يعود حطاماً، وفخر يحول بواراً، أم ليوم شغل لما فرغ منه؟! وتفرغ لما أُمر بالاعراض عنه، واحتقارٍ لما نعي إليه فراقه، وَحِرصٍ على لزوم ما هو مُفارقه، كأنه لا يستحيي مِن حمدِه لمذموم، وركونه من الدنيا إلى ما لا يدوم، واستبطائه لغير دار خلوده، وتكذيبه بفعله لما يزعم من محموده.

فيا عجباً كل العجب كيف ركن إلى ما ذمَّ مختبره؟! وكيف استفرغه الفرح بجمع ما هو شاخص عنه؟! وكيف تعَقَّبه الأسف على فوات ما لا يدوم له؟! وكيف يثق بما ينفد على ما يبقى؟! وكيف يُغفِلُ _بما هو فيه من النصب لمواتاة دنياه_ ما يلقى؟! مع علمه ويقينه بأنه لا يبلغ منها غايةً إلا دعته إلى غاياتٍ، فمتى إن لم يَرْفض الدنيا يستريح من حاجة فيها تدعو إلى حاجات؟! ومتى يقضي شغلاً إذا هو فرغ منه فقضاه؟! عرض له أكبر منه فطلبه وابتغاه.

ففكروا رحمكم الله وانظروا، تعلموا إن شاء الله وتبصروا، أنه ليس لكم من سراء دنياكم، وإن طالت صحبتها إياكم، إلا كطرف العيون، فهي للجاهل المغبون، من ذي دناءة أو لوم، أو فاجر عميٍّ ملعون، قد صارت الدنيا كلها له، فليس يأخذ أحدٌ منها إلا فضله، فقدرته _وإن لَؤُمَ ودنا، و كان فاجراً معلناً، على كثير من كرائم النساء، ونفيس المراكب والكساء_ قدرة الأبرار، وأبناء الأحرار.

والدنيا أعانكم الله فيما خلا، وإذ كانت تضرب لفساد أهلها مثلاً، وإنما كان يمسخ أهلها وأنسها، فمسخت الدنيا اليوم نفسها، فلم نترك _والله المستعان_ مِن ذكرنا لها زينة ولا بهجة، وعادت الدنيا كلها غرقاً ولجة، فأمورها اليوم كلها عجائب، وكل أهلها في مكالبتها فمغتر دائب.

وقد بلغني أن عيسى بن مريم صلى الله عليه، كان يقول لمن يحضره ولحوارييه: (بحق أقول لكم أنه لا يصلح حبُّ ربِّين، وما جعل الله لرجل في جوفه من قلبين، لا يصلح حب الله وحب الدنيا في قلب، كما لا تصلح العبادة إلا لربٍ)، وكان يقول صلى الله عليه: <بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وكذلك فحب الله _ولا قوة إلا بالله_ فعاصم لأهله من كل سيئة>.

أفيرجو من آثر الدنيا على الله أن يكون مع ذلك لله ولياً، هيهات هيهات أطال من آثر الدنيا، عنانَ عمله الغيُ والهوى، فجمحت به نوازغ الغي المردي، وعتت به مطايا الهوى المضل المغوي، حتى أحلته دار الندامة ولاتَ حين مندم، ثم أسلمته من الحيرة إلى شر مَسلَم، فما ينكشف عنه قناع غرةٍ، ولا يتيقظ من نومِ سكرةٍ، رانت على قلبه بوادر أعمال السيئة، وفِتنُ دهرِه المضلة المعمية، فقاده أهل الدنيا، وأعنق به قائد الهوى، ومنَّتْه نفسه بالاغترار طولَ البقاء، وأسرعت الغفلة في أيامه بالفناء، وكذبته نفسه في أي حين وأوان، وفي أي حالٍ -رحمكم الله- ومكان، حين لا رجعة ينالها، ولا إقالة يُقالها، وعند معاينته الأهوال، وما لم يخطر له ببال، مِن هتكِ ستور السوءآت، وهو في حالِ أحوج الحاجات، إلى ما كان تركه فقراً وبلاء، وغيره هو الخفض والغناء: ?يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ? [غافر:18]، ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ () يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ? [النور:24 ـ 25]، يومٌ خافَتْه رجال فمدحهم الله وزكّاهم، وأحسن على مخافتهم له ثوابهم وجزاهم، فقال سبحانه فيهم، وفي حسن ثنائه _بمخافتهم له_ عليهم: ?رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ () لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ? [النور:37 – 38]، ويقول سبحانه: ?يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ

تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ? [الأنعام:158]، ويقول سبحانه: ?يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ () إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ () وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ () وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ? [الشعراء:88ـ91]، ?يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ? [المطففين:6]، ?إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ? [الأنبياء:106].

فرحم الله امرأً، أحسن لنفسه نظراً، فرفع عن الوناء ذيله، واغتنم من الله سبحانه تمهيله، فحسر عن ذراع، وشمر بإجماع، وانتبه عن وسن غفلة الغافلين وإن لم يشعروا، وتيقظ من نوم جهل الجاهلين وإن لم يسهروا، فعلم أن من رحمة الله بنا، وحسن معونته لنا على أنفسنا، أن جعلنا نسقم ونتغير ونبتلى، بمثل ما يُرى من تغيُّرِ أحوال الدنيا، في فناء ليلها ونهارها، وما يُغتذى به في برها وبحارها، من كل مأكولٍ، أو لباس نسج معمول، أو غير ذلك من ألوان فتونها، وما سخر الله من ضروب ماء عيونها، فنبهنا بذلك كله، وبما أرانا من تغيره وتَبدُّله، من قصر مدة آجالنا، وعلى أنه لا بقاء ولا دوام لنا، ولو جعلنا ندوم أبداً أو نبقى، لما جعل بين الدنيا والآخرة فرقاً، ولكان مَنْ عتا الخليقَ ببقائه بادعاء أخبث الدعوى، ولما امتنع من العاتين ممتنع من سهوٍ ولا هوى.

النفس
ولكنه سبحانه عرَّفنا أنفسنا وفناها، وألهم كل نفسٍ منها فجورها وتقواها، فجعل فجورها غياً وتقواها هدى، وجعلنا تبارك وتعالى نموت ونفنى، لنستدل بالموت وتصاريف طبائع الخلق، على حكمة تدبيره لنا في الفطرة والصنع، وليدعونا خوف الفناء، إلى طلب حياة البقاء، وجعلنا تبارك وتعالى من جزأين اثنين نفس وجسد ثم ألف بينهما بلطيف تدبيره، وأحكم تركيبهما بأحسن تصويره، فجعلهما بعد تباينهما شخصاً واحداً مكملاً، وجعل لبقائه وأيام حياته مدة وأجلاً، ثم أمره بعد كموله فيه، برشده وحضِّه عليه.

فإنْ نفسه سمعت له وأطاعت، وأجابت إلى ما دعا إليه فسارعت، رشد عند الله واهتدى، وفاز من الله بثوابه غداً، وإن نفسه عصته والتَوَتْ عليه وأبت، ما دعي إليه من الرشد فغوت، ولم تعتصم بالله، ولم تذكر رحمة من الله، ضل عند الله فعطب، وهلك في القيامة وعُذّب، فنفس المرء إذا لم ترشد له فشر صاحب، ودعَّاةٌ إلى كل هلكة ومعائب، لأنها لو لا عصمة الله لها في خطاياها أبداً كرارة، ولصاحبها إلى ما حرم الله أمّارة، كما قال يوسف صلى الله عليه: ?وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [يوسف:53]. وكما قال شعيب صلى الله عليه في توفيق الله ومعونته له على عبادته، وحسن نظره وعصمته، ولما كان عليه من رعاية حق الله وأمره من إرادته: ?إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88].

فمن خالف نفسه في خطاياها، ومال مع الحق عليها، لم يضرره لها هوىً ولا أمر، ولم يدخل عليه منها خطأ ولا ضرر، ومَن قَبِلَ عن نفسه ما تأمره به من سوٍّ، كانت نفسه له أعدى من كل عدوٍّ.

وقد بلغني أن بعض الصالحين كان يقول: محاربة المرء لنفسه بمخالفته، يثبت فيها طلب ثواب الله وطاعته.

الصبر
واعلم أنه ليس يسلك سبيل مرضات الله إلا من أيده الله بروح الهدى، وأن ليس يُوصَل إلى سبيل مرضاته جل ثناؤه بالمنى، دون أن يحمل النفس عليها، ويصبر لأمر الله وحكمه فيها، كما قال الله سبحانه: ?لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً? [النساء:123]، وقال سبحانه: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ? [البقرة:214]، ويقول سبحانه: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ? [آل عمران:142]، وفي مثل ذلك من ابتلاء القائلين، ما يقول رب العالمين: ? الم () أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ () وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ? [العنكبوت:1-3].

التقوى
فتأهبوا رحمكم للبلوى، وانتهوا إلى ما أمرتم به من التقوى، ونَقُّوا قلوبكم من دنس الدنيا وإيثارها على الله كيما تنقى، وطيبوها بالبر والتقوى وكونوا مع مَن برَّ واتقى، فمتى ما تكونوا مع أولئك، تنجوا بإذن الله من المهالك، ويكن الله جل ثناؤه معكم كما قال لقوم يسمعون: ?إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ? [النحل:128].

التفكير
واعلموا وَلِيَكم الله أن من أبواب التقوى ومفاتحها، وأقوى ما تَقَوَّى به مَن رَشَدَ بإذن الله على قبول نصائحها، حسن الفكر في الدنيا وفنائها، وتقلُّب سرَّآئها وضرآئها، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة، ومن دونهم من الخلق جميعاً عامة، فإنكم رحمكم الله إن تفكرتم _فتروا بعين الفكر وتبصروا_ تعلموا أنهم جميعاً منها وإن اختلفت أحوالهم في السراء والضراء، في مضامير بأقدار أحوالهم فيها من السعادة والشقاء.

وقد ينبغي لمن سلك سبيل مرضات الله وآثرها، وعظَّمها بما عظمها الله به من رضوانه فوقَّرها، أن يتحفظ من نفسه فيها، ويجمع كل أشغاله ولا قوة إلا بالله إليها، فإنه لو تفرغ لخدمة بعض ملوك الدنيا، لَحَقَّ عليه الاجتهاد في بلوغ الغاية القصوى، فكيف بمالك الملوك إذا برز لعبادته، ونابذ في الله عدوه من الجن والإنس بمحاربته، فليتحرَّز _مَنْ سلك سبيل ولاية الله ومرضاته، ومن يريد القيام بما أوجب الله عليه من فرض حقه وطاعته_ من السقط والخلل، وليستيقظ من الغفلة والزلل، وليتيقظ وليعرف قدر ما يعرض لأهل ذلك من البلوى والفتنة، وما ينصب له وفيه من المباينة، وعلم بلواها وفتنها فيجوز في مواطن العزم والشدة، ولا يصبر عند نزول البلوى المؤكدة، فإن ذلك إذا كان منه كذلك، فليس له به حول، ولا لمن صار إليه إلى الله به وصول، وإنما وصفت لكم هذا فيها، لكيلا يقدم مقدم عليها، إلا بعد علمه بهذا منها، وفهمه لهذا من الخبر عنها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تم نصف الكتاب.

واعلموا أن القلوب كالآنية المصدوعة، فيما تنازع إليه من غرائزها المطبوعة، فإن لم يُرهم مصدوعها، لم يصح مطبوعها، على بنية اعتداله، فيما فطرها الله عليه من كماله، فزُمُّوها بالعلم بكتاب الله وتنْزيله، والوقوف على محكم تأويله، ففي ذلك لها تقويم وتعديل، وهداية ونور ودليل، على منهاج خالص الطريق المسايرلها في حب الله وطاعته، وما أوجب الله على العباد من أثرته وعبادته، وبكتاب الله يتجلى عن القلوب ظُلَمُ الحيرة، وبلطيف النظر فيه يُدرِك حقائقَ العلم أهل البصيرة، وبسبل الله فيه المطَّرِقَة، تكون هدايات المتقين في الثقة، من نيل الغايات القصوى، وبلوغ الدرجات العلى.

وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص، أن الإلطاف في النظر، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم، وسدوا ثلمة عيبه في سرائركم.

واعلموا أن البحر لا يجاز يقيناً بتَّا إلا بمعبرَ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح في الحرب فكيف بالعيِّ المغتر، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى، إلا وقد تحصّن بالعلم والبصر والنظر، الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر، فلا تَدَعُوا _رحمكم الله_ حسنَ النظر في الأمور، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.

واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه، وأضوأ ضياء نوره ومصابيحه، إخلاصُ العمل لله، وصدقُ التوكل على الله، وسبب الطريق إليها، وعون من أراد مما فيها: (حسن الفكر في الدنيا وفنائها، وتقلب سرآئها وضرآئها، وفي حال جميع مَن فيها من ملوك الأمم خاصة، ومَن دونهم من الخلق جميعاً عامة، فإنكم إن تفكرتم فتروا، بعين الفكر وتبصروا، أنهم جميعاً منها وإن اختلفت حالهم [في السراء والضراء، في مضامير بأقدار أحوالهم] فيها من السعادة والشقاء)، فقد غشيهم من همومها كأمثال الجبال، ورمت بهم من غمومها في مثل لجج البحار، فالملك في شُغلٍ من ملكه، والمملوك في سطوة مالكه، والمكثر من إكثاره، والمُقلُّ من إقلاله.

أحوال الخلق في الدنيا
ولن يحاط بوصف أحزانها، وأوجاع غموم سكانها، ويَحِق بذلك منزل سريع زواله، قليل ما تمتع بالراحة فيه نُزَّاله، بأْسآؤه أبداً فيه متداركه، ونجاة أهله فيه مهلكة، وغمومهم فيه متراكبة، وهمومهم به مكتسبة، فلا الغني يخلو من غم الجمع وكدّه، ولا الفقير ينجو من الكد فيه بجهده، يسعى الغني فيه خوفاً من العدم، ويكد الفقير طلباً للمغنم، فجدة الغني فيه فقر، ومغنم الفقير منه خسر، يخاطرون لذلك في أهوال البحور، ويركبون لطلبه كل باب من أبواب الفجور، فأقرب ما يكونون من السرور به، أقرب ما يكونون من الغم بسلبه.
فكم في الدنيا من غريق في لجج البحار؟! وكم فيها ولها من مبتلى بقتل أو أسارٍ؟! وكم لطالبها، وإفراطه في حبها، من ميتٍ غريب نآءٍ عن الولد والأوطان، بين غُتم لا يعرفونه، وطماطم من السودان ينكرونه، لم يبكه هنالك ولده ولا قرباه، ولم تأسف عليه كما أسف عليها دنياه، بل تخلَّوا جميعاً منه، وأعرضوا سريعاً عنه، فَوَرِثُوْهُ غَير حامدين له فيما جمع، وأسلموه إذ مات لما عمل وصنع، ولعل قائلاً منهم أن يقول: ما كان أفحش حرصه وإيعاثه، أو قائلاً منهم يقول: ما أقل أو ما أكثر تراثه، تلعُباً بذكره، وتفكهاً في أمره.

فأعرضوا هذا _رحمكم الله_ على قلوبكم لأن ينجلي لكم إن شاء الله ما فيها عن الدنيا من العمى، وانظروا إلى من زالت عنه القدرة من أبناء الملوك والعظماء، كيف صاروا إلى الضعة بعد الرفعة، والضيق بعد مضطربهم من السعة، بل انظروا بعد هذا كله، إلى من كان هذا أكثر شغله، ألم تروا غلطهم في مسالكهم، ومرتطمهم في مهالكهم، فاعتبروا بهم قبل أن تغرقوا في بحرهم، وتقعوا في مهالك أمرهم، وآثِرُوا سبيل أحباء الله على كل سبيل، واستدلوا بما كان لهم على سبيلهم من دليل، فإن سبيلهم فيه، وعونهم كان عليه، ما خالط فكرهم، وأحيوا به في الفكر ذكرهم، من نعيم الآخرة الدائم المقيم، وما أعد الله لمن حآدَّه من العذاب الأليم.

ففكروا _رحمكم الله_ كما فكروا، تبصروا إن شاء الله من فضل سبيلهم ما أبصروا، وفوِّضوا أموركم في ذلك كلها إلى الله، واعتصموا في ذلك كله بالله، فلا تَدَعُوا فيه يقظة الجدِّ والاجتهاد، بعد التوكل على الله ربكم فيه والاعتماد، وابذلوا لله فيه كل جهدٍ، وأخلصوا له منكم في كل قصد، فإنكم إن تفعلوا _ذلك له، وتقصدوا فيه ما يجب فعله_ تَوَلاكم الله فيه فعصمكم، وكفاكم به مهمكم، ولا تحدثوا أنفسكم بعد أن يمن الله عليكم بهذه النعمة، وبعد الدخول منكم في هذه السبيل المكرمة، بالخروج ما بقيتم منها، ولا بالإعراض أبداً ما حييتم عنها، ولكن وطِّنوا نفوسكم على احتمال صعاب الأمور فيها، ولا تخافوا _ولا قوة إلا بالله_ تخويف مَن خوَّفكم عليها.

واعلموا أنه لن يكون أحد في فعله خلصانياً، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله ولياً، إلا بعزمه على طاعة الله وإقدامه، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه، فاعزموا على التقوى عزمَ مَن يوقن بفضلها، تكونوا بإذن الله من أوليائها وأهلها، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله، تكونوا من السابقين بالتقوى إلى الله، فقد نبهكم الله لها وأيقظكم، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم.

2 / 4
ع
En
A+
A-