ومع هذا فهو الثابت لحصار صنعاء فإنه كان الموليان الحسن والحسين ابنا الإمام بحدّه، وهو في الجراف يشن الغارة، ويصابح الأروام ويماسي، وافتتح مدينة (أبي عريش) بعد منازلة لجنود الأروام، وغزا إلى (السراة) وجهات (المنبر) غزوات عدَّة، وكان منصوراً في جميع ذلك، وكان يحف به من السادات والعلماء من يفرد لهم التراجم، وتزين بذكرهم الأوراق مثل مولانا صارم الدين حامل لواء العلوم، وإمام منطوقها والمفهوم.
إبراهيم بن محمد بن عز الدين:
إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين فإنه جبل من جبال الحلم، وبحر من بحار العلم، يفزع إليه في العظائم، وقد صنف للإسلام كتباً عديدة (كشرح الكامل(1) المسمَّى بالروض الحافل) وشرح (الهداية المسمَّى بتنقيح الأنظار) من أجلّ كتب الإسلام قدراً، يخرج في أربعة أجزاء كبار، وله منسك منظوم، (وله القصص الحق المبين في البغي على أمير المؤمنين)، وله في كتابه المصحف العثماني موضوع أو موضوعان، وغير هذا - كثر الله فوائده - وله شعر وبلاغة، وطرائقه كلها حميدة في زهده وعلمه ومواظبته على الصالحات، وكالسيد الرئيس صدر العترة صلاح بن علي بن عبد الله بن الحسين المؤيَّدي رجل فاضل نبيه فاضل(2) جليل القدر، شرح الكافل بشرح عظيم، وكان تعلقه بأصول الفقه أكثر من تعلقه بغيره، وكان رئيساً كاملاً.
__________
(1) في (ب): كشرح الكافل.
(2) في (ب): رجل نبيه فاضل جليل القدر.
صلاح بن أحمد بن عز الدين
وكالسيد البليغ بديع الزمان صلاح الملة صلاح بن أحمد بن عز الدين المؤيَّدي رجل كأنما خلق للأدب(1)، من أعذب الناس ناشئة، وأرقهم حاشية، حافظاً للآداب حريصاً على الوظائف، وهو مجيد الشعر، وبينه وبين السيد الصلاحي مفاكهات وأدبيات قد فاتت علي بعد إطلاعي عليها وحرصي على حفظها فالله المستعان، من ذلك ما حضرني عند الرقم لهذه، وأظنني لا أثبت ألفاظه على صفتها، لكني رأيت إثباتها ليكون سبباً - إن شاء الله - لتثبيتها، وأخبرني سيدي صلاح الدين صلاح بن أحمد بن عز الدين - أسعده الله - قال: كنت أقرأ في المطوّل على سيدي الصلاحي أنا والسيد العلامة الهادي بن عبد النبي بن حطبة في بلاد الشام جبال العر وصور ونحوها، لم يحضرني الآن اسم المحل فمرَّت بنا لفظة في المطول في قوله تعالى: ?..فَتَشْقَى? [طه:117] (2) فحصل التردد ما الثابت في النسخ؟ فسألت مولانا الصلاحي: ما الذي في نسخته؟ فقال: /198/ أما عندي فيشقى، وقد كانت تقدمت عتابات بيننا وشكايات إليه في أمور، فقلت له: نعم، أما عندي فتشقى فتغيظ السيد الصلاحي، وكان حاد المزاج وترك محل القراءة، وقال: لا خير لي في حضور من لا يرعى مجلس الأدب أو كما قال، فقمنا من المحل، ولم أتفق به بعد ذلك، فجاء إليه - أعاد الله من بركته - طعام على يد خادم من خدامه يعتاد صنعَة الطعام، فأراه حضوري فكتب:
رُبَّ طعامٍ حَسُنَتْ ألوانهُ ... قد جاءنا على يَدَي ممنطقِ
يأكل منه شابعٌ وجائعٌ
__________
(1) في (ب): للآداب.
(2) كذا في (أ) و (ب).
وترك بياضاً، وقال للأصحاب: الصنو صلاح بن أحمد بن عز الدين - عافاه الله - سيكتب هنا: ويستوي فيه السعيد والشقي، فلما وصل الرسول كتبت ذلك بديهة، ثم كتب بعد ذلك: نقي جد عجلاً قد جاءني، وترك بياضاً وقال: سيكتب الصنو صلاح، يا حبّذا ذاك الحثيثُ والنقي. وللسيد صلاح بن أحمد معاني حسنة ومقاطيع فائقة وسلك مسلك الأدب على شروطه ويعجبني إيداعه لصدر قصيدة بن الفارض، فإنه قال - ولله دره -:
وصغيرة حاولت فض ختامها ... من بعد فرط تحنن وتلطفُ
وقلبتها نحوي فقالت عند ذا ... قلبي يحدثني بأنك متلفي
وهذا معنى يهتز له اللبيب وقائل: هذا في الزمان غريب، وله في السيد الصلاحي ووالده مراثي مشجية.
مطهر علي الضميري
ومن جملة أهل الحضرة العلامة الحافظ بهاء الدين مطهر بن علي النعمان الضمدي، وكان من صدور العلماء ووجوه الزمان، وقوراً حافظاً للشريعة وآدابها، وكان لا يفارق الحضرة إلا قليلاً، وبينه وبين السيد الصلاحي مفاكهات، وللفقيه مطهر(1) مسائل في الاعتقاد جانب بها أهل المقالة - رضي الله عنهم - وقد كان السيد الصلاحي كاد أن يتلقى بعض ما عنده بقبول ثم عادا بعد ذلك إلى بعض التنافر بعد أن استفحل علم السيد، وعظم تحقيقه، وتعاودا بعد هذا إلى الوفاق إلا أنه لم يتيسر لهما الاجتماع، بل جاء الفقيه من وطنه ليعزي السيد الصلاحي بوالده، فلما وصل (الحدب) - بالحاء والدال مهملتين - بلغه خبر موت السيد - رحمه الله - فكان كما قال في كتابه: لما وصلت الحدب، انسل عليّ البلاء من كل حدب. وكان بينهما مراجعات واجتمعا في بعض الأيام، فحررا مسألة حررها الفخر الرازي، وقالا: نوردها على القاضي العلامة أحمد بن يحيى بن حابس - رحمه الله - فوفدا إلى بيت القاضي أحمد فأجلهما، وأنس بمقدمهما، فذكرا له المسألة. فقال: هذه مسألة لا جدوى للخوض فيها إلا مع الإنصاف، فقالا: أجل الإنصاف متوجه، ونحن - إن شاء الله - فاعلوه، فلما أخذ عليهما الوثيقة في الإنصاف جلَّى المسألة أبهى تجلية، فقاما من المجلس فقال الفقيه مطهر: أما أنا فما عندي إلا الإنصاف قد علمته من كلام القاضي وتوضح لي الحق فلا غضاضة في الرجوع، وقال المولى الصلاحي بمثل هذا، لكنه عظم عليه ما قد نوّه به من إشكال المسألة وتصوره أنه لا سبيل إلى حلها، فتوجَّه القاضي لحلها في بديهته فاستحيا وتعب، ولَمَّا رحل إلى العلامة مفتي اليمن السيد محمد بن عز الدين - أعاد الله من بركته - وقرأ عليه (المطول) و(جامع الأصول) و(الدامغ) و(الغايات) و(شرح بن بهران) على الأثمار ازداد علمه وواصله العلماء وأذعن له كل أحد، وكان /199/ يسميه السيد محمد بن عز الدين بالبحر، وعاد إلى صعدة بعد
__________
(1) في (ب): المطهر.
هذه الرحلة الأخيرة، وهو يقول: كنت أظن مذهبنا الشريف لم يعتن أهله بحراسة الأسانيد لأحاديثه، فتحققت ومارست الكتب فوجدت الأمر بخلاف ذلك، ولقد كنت في بعض المذاكرات استضعف حديثاً من أحاديث أهل المذهب، ثم بحثت فوجدته من خمسة عشر طريقاً كلها صالحة ثابتة على شروط أهل الحديث، وعمل - رحمه الله - في هذا قصيدة فائقة رأيته تجرَّم فيها من ميل الناس عن علوم آل محمد وهي من غرر القصائد، بل كان السيد العلامة محمد بن عز الدين - رحمه الله - يقول: هي من أفضل ما قال.
محمد بن عبدالله
ومن جملة من كان في حضرته الشريفة السيد الأديب الفاضل الذكي محمد بن عبد الله بن علي(1) بن الحسين، سيد جليل، فاضل نبيل، حريص على الطاعة مواظب على أنواعها، متواضع، حسن الأخلاق، يعز نظيره، وهو من أذكى الناس.
وكان يسميه السيد الصلاحي المعري لتوقد فهمه ويلقبه بالحكيم، ونقل عنه السيد الصلاحي مسائل من ذلك أنه استشكل السيد - رضي الله عنه - ما روى الوائدة والموءودة في النار فإن الرازي جعل الموءودة هنا الطفلة المستخرجة بالعرك من البطن، وهذا مشكل على قاعدة العدل.
__________
(1) في (ب): محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله.
قال السيد محمد بن عبد الله: ليس المراد بالموءودة الطفلة بل المعروكة وهي الحامل، فالمعنى حينئذٍ العاركة والمعروكة في النار، وهذا لا غبار عليه، فإن المعروكة تستحق النار لتمكينها العاركة وغير هذا، وأخبرني السيد عز الدين - أسعده الله - قال: قد كان الصنو الصلاحي - رحمه الله - أخبرني أن ابن حجر العسقلاني الشافعي ذكر أن الاستثناء في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم)) مدرج في قوله غير فحفظت هذا ورويته عنه ، فدارت المسألة بعد موته - رحمه الله - في حضرة المولى العلامة محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين - أعاد الله من بركته - فرويت هذا ونسبته [إلى من نسبه] إليه(1)، وهو ابن حجر، فطلب التلخيص فلم يوجد بعد كثرة البحث شيء من ذلك، فافترقنا، وفي النفس شيء، فلما كنت في المنام رأيته - رضي الله عنه - فقال لي: رويت عني كذا وكذا ولم تجده فلعله توهم فيك متوهم فقلت: نعم، فقال: هو في نسخة التلخيص في المحل الفلاني في الصفح الفلاني، وعين المحل، فلما أصبحت وجدته كما قال كأنه أرانيه عياناً، وعلى ذكر هذه الرؤيا أذكر ما أخبرني به السيد عز الدين أيضاً قال: كان بعض الشيوخ من الأعراب أهل التقوى والتمسك بالأمور الجلية من الشرع يحضر محضر الصنو صلاح الدين فيذكر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويخبر بأشياء فيرتاب السادة الحاضرون في خبره، بل ربما قربوا من التصريح برد ما يحكيه فجاء يوماً إلى السيد صلاح الدين، وقال: يا مولانا قد رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال لي: يا فلان، تردد الجماعة في خبرك وقولك أنك رأيتني، فقال: نعم يا سيدي، فقال له: اذهب - إن شاء الله - إلى الولد صلاح بن أحمد وأخبره بكذا وكذا، وقل له: قال لي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أمارة صدق هذه الرؤيا أنك رأيته هذه الليلة بصفة كذا وكذا وقال لك كذا
__________
(1) سقط من (أ).
وكذا وكذا، قال الشيخ: فقد رأيت هذه الرؤيا يا مولاي أن تصح الإمارة صحت رؤياي وإلا لم أعد إلى ذكر شيء.
قال السيد صلاح الدين: بلى والله صدق صدق حديثك وصدقت /200/ رؤياك رأيته - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الليلة بصفة ما ذكرت.
وكان مجلس السيد الصلاحي محط الرحال للفضلاء معموراً بالمكارم، ينافس فيه أهل الهمم، ولقد رأيته في بعض الأيام خارجاً إلى بعض المنتزهات بصعدة، فسمعت الرّهج وقعقعة المراجعة مع حركة الخيل من محل بعيد، فوقفت لأنظر فخرج في نحو خمسة وثلاثين فارساً إلى منتزه بئر رطفات، وهم يتراجعون في الطريق بالأبيات(1)، ومنهم من ينشد صاحبه الشعر، ويستنشده، وكان هذا دأبه، وكان كلفاً بالعلم، كان إذا سافر فأوّل ما تضرب خيمة الكتب فإذا ضربت دخل إليها ونشر الكتب والخدم يصلحون الخيم الأخرى، ولا يزال ليله جميعه ينظر في العلم، ويحرر ويقرر مع سلامة ذوقه الذي ما يوجد لها(2) نظير، وكان مع هذه الجلالة يلاطف أصحابه وكتابه بالأدبيَّات والأشعار السحريَّات، فكلهم راوٍ من معين آدابه، من ذلك ما كتبه إلى السيد العلامة الجليل الحسن بن أحمد بن محمد الجلال - عافاه الله تعالى -:
أفدي الخيال الذي قد زارني ومضى ... ولاح مبسمه كالبرق إذ ومضا
نضَا عليَّ حساماً من لواحِظه ... فظلْتُ ألثم ذاك اللحظ حين نضا
وحين ودّع مشغوفاً به دنفاً ... ألقى من الصبر أثواباً له وقضا
فليته دام طول الليل يصحبني ... بطيفه وشفى(3) من حبه الغرضا
أحببت كل لطيفٍ في محبته ... وكل وهمٍ على قلب الشجي عرضا
حتى لقد شغفت نفسي بجوهرهم ... وصرت من أجل هذا أشتهي العرضا
وكيف لا أشتهي طول(4) الخيال وقد ... وافى خيال كريم زار حين قضا
قضى عليّ بإنشادي وأخبرني ... بأنه لقديم العهد ما نقضا
ذاك ابن أحمد زاكي الأصل من قصرت ... عنه المصاقع حتى بذهم ومضا
__________
(1) في (ب): الأدبيات.
(2) في (ب): له.
(3) في (ب): وسقى.
(4) في (ب): طيف.
ومن كسا الروضة الغنَّاء بهجتها ... بخلقه وحبا الهندي حسن مضا
يا سيداً وطئ الجوزا بأخمصه ... اسمع مقال فتى ذكراك ما رفضا
في كل وقتٍ له ذكرى تهيجه ... حتى إذا سعر الهيجاء زار وضا
إني بعثت بها غراء صادرة ... عن خاطرٍ من عوادي الدهر قد مرضا
أبغي رضاك إذا أسعدت طبعك في ... إنشادها وخيار الصحب رام رضا
فأجابه السيد العلامة الحسن بن أحمد وهو ممن استعبد البلاغة، وسحب ذيل التيه على سحبان ومرَّغ بتراب العجز ابن المراعة:
قد لاح سعدك فاغتنم حسن الرضا ... من أهل ودك واستعض عما مضا
لما بعثت لهم بطيفك زائراً ... تحت الدُّجى ولفضلهم متعرِّضا
بعثوا عليك كتائباً من كتبهم ... هزموا بها جيش اصطبارك فانقضا
لكنها أبكار أفكار لو ان ... البدر قابلها بليلٍ ما أضا
/201/
درر كست زهر الدراري رونقاً ... ثم اكتست ما للصوارم من مضا
لمَّا أقامت للوفاء شرائعاً ... نصبوا لها بالطرس ثوباً أبيضا
وأتت إليَّ فبت ألثم صدرها ... حتى تناثر عقدها وتنقضا
وحكت فرائده فرائد أدْمعٍ ... أرسلتها مزناً لبَرقٍ أومضا
من نحو أحباب تناءت دارهم ... عنا فعوضنا النوى ما عوضا
لكن محبتهم بقلبي دائماً ... ما والمهيمن عنه يوماً قوضا
فلهم ضلوعي منحنى وعقيقهم ... في مقلتي وبمهجتي لهم غضا
من كان يعرض عن أحبَّة قلبه ... بعد الفراق فإنني لم(1) أعرضا
ولو ان طيفهمُ شفا لكنَّهم ... بخلوا بذاك وناظري ما أغمضا
رحلوا وما رحلوا عن القلب الذي ... ما زال إشفاقاً عليهم ممرضا
فاستوطنوا الصّهوات ثم تظللوا ... تحت الرماح وكل سيفٍ منتضا
سيما صلاح الدين صفوة أحمد ... غيث الوجود ورأس آل المرتضا
طعان أفئدة الصفوف إذا دجا ... ليل العجاج وحار فرسان الفضا
وإذا أغار بفيلقٍ هو رأسهم ... نحو الكريهة هاله صرف القضا
يابن الأئمة والملوك ومن له ... شرف به شرف الزمان وقُرِّضا
وافى كتابك معلناً بأخوَّةٍ ... وبأن ودك لي غدا متمحضا
__________
(1) لعلها: لن.
ويقول ذكرى ما نقضت وإنني ... لجميلِ ذكرك دائماً لن أنقضا
واستخبر الطير الذي وافاك هل ... أعرضت عن ذكراك أم لم أعرضا
ولقد تعاطاني الجواب ولست من ... فرسان ميدان غدا لك مركضا
هيهات ما العيس الفواضل في الفضا ... تجري مع الخيل العراب فتنهضا
والبحر ما وشل يباري موجَه ... فاعذر فقد حملتُ أمراً مبهضا(1)
ولو ان حقك لم يكن مستعظماً ... لغفلت عن رد الجواب المقتضا
لاعن قلا بل صار دهري نائماً ... عن نصرتي ولشغلتي متيقضا
ولقد غفرت له سوى شحط النوى ... وزرا جناه لطهره قد انقضا
بأبي رمَى وبأسرتي مرمى به ... فترى الفؤاد مقطعاً ومقرّضا
عاينت سبعة أشهر من عهدهم ... والدمع يجري في الخدود مفضضا
فإذا ترى نقصاً فذلك أصله ... ولقد جعلتك للصلاح(2) مفوَّضا
ومن جملة ما كتبه العلامة الفقيه مطهَّر بن علي إلى السيد الصلاحي بأبي عريش:
إن كان أحبابنا بالهجر قد طابوا ... قلباً فسيَّان أعداءٌ وأحبابُ
وهل يريد بك الأعداء أقتل من ... هذا المصاب الذي من دونه الصابُ
/202/
شدوا المطايا غداة البين فانزعجت ... نفسي كأنَّ غرابَ البين أقتابُ
وثارت العيس بالأضعان راعية ... يوم النوى فاستوى راعٍ ونعَّابُ
لله روحي وقلبي بعد بعدهمُ ... ورحمة لعيُوني غبَّ ما غابوا
فالروح طير والقلب قد فتحت ... سماؤه فهو يوم البين أبوابُ
والعين كالعين من بعد الرحيل فما ... ينفك من جفنها فيضٌ وتسكابُ
وكل جارحة مجروحة بسكا ... كين الفراق كأن البينَ قصَّابُ
أحبابَنا إن نأت عنَّا دياركمُ ... وقوَّضت من خيام الوصل أطنابُ
فالقلب قد ضربت فيه خيامكمُ ... ومالكم عند طول الدَّهر إضرابُ
وكيف أسلو أخلاءَ الصفاء وقد ... شبوا الجوَى ولمحض الود ما شابوا
وإن أهل جنان الخلد في غرفٍ ... مبنيَّةٍ تحتها نخل وأعنابُ
لهم فواكهُ مما يشتهون ومِنْ ... صافي الشراب أباريقٌ وأكوابُ
__________
(1) في (ب): منهضاً.
(2) في (ب): في الصلاح.
يطوف غلمانهم بالراح بينهمُ ... وعندهم قاصراتُ الطَّرْفِ أترابُ
وكل ذلك لا يسليهمُ أبداً ... عن اجتماع بإخوانٍ لهم طابوا
وأقرأ على عذلي القرآن ما(1) سمعوا ... في الريح والطور والتطفيف ما عابوا
فأجابه السيد الصلاحي - رضي الله عنه -:
ما طبت من بعد أصحابٍ لنا طابوا ... نفساً ولا آب نومي بعد ما غابوا
فالقلبُ والعينُ والأحشاءُ بعدهمُ ... لها خفوقٌ وتسكابٌ وتلهابُ
والصبرُ والوجدُ والأشواقُ قد فُتِحَتْ ... وأُغلِقَتْ مُذ نأوا من تلك أبوابُ
أقمارُ تَمٍّ غدا في القلب برجهمُ ... إذاً يكن(2) لهمُ في الطرف حسَّابُ
ومنها:
يا عاذليَّ دعاني بعد بعدهم ... وأقصرا عذلاً أدناه إطنابُ
فما على فاقد الإخوان إن هتكت ... من صبره أدباً وأعن ذاك أبواب
وهل يعوض عنهم شادن غنج ... كلاَّ ولا قاصرات الطرف أرتاب(3)
ومنها:
وحدثانَي عن صحبٍ نأوا فنأتْ ... عنا علومٌ وأخلاقٌ وآدابُ
لا أوحش الله منهم إنهم نفرٌ ... ما إن يناط بهم شينٌ ولا عابُ
إن غار إخواننا فالدمع بعدهمُ ... ما غار بل هو في الخدَّين سَكَّابُ
ومن شعره - رحمه الله - في التضمين:
بأبي وردة على الخد حمر ... اء لها في القلوب أي اشتعالِ
لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني لحِرها اليوم صالي
وله - رحمه الله -(4):
وفتاة جنسوها إذا(5) مشت ... بفتاة قلت ذا التجنيس خطي(6)
أرسلت من ليل هدبٍ أسهماً ... وسهام الليل قالوا ليس تخطي(7)
أبرزت شرطاً بخدٍ ناعمٍ ... فحبتني علماً من فعل شرْطِ
/203/
قدحت نار جوًى إذ نهضت ... فاعجبوا يا رفقتي من أي(8) سقطِ
ولوت حين سألنا جيدها ... ثم قالت حين أعطوا لستُ أعطي
__________
(1) في (ب): القرآن يستمعوا.
(2) هكذا في (أ)، ولعل الصواب: إن لم يكن، كما جاء في (ب)، أو إذ لم يكن ظن في (ب) أيضاً.
(3) لعلها: أتراب.
(4) زيادة في (ب): تعالى.
(5) لعلها: إذ أو إن.
(6) في (ب): حظى.
(7) في (ب): تخطى.
(8) في (ب): أي.