قال الفقيه صالح بن سليمان في صفة مرغم وشأنه: أنه كان رجلاً صوفياً فارق قومه وهم رؤساء ظلمة فسقة، فأنكر عليهم وهو لا يقرأ ولا يكتب، وكان يسمع قائلاً يقول له ولا يراه يتقدم إلى جهة يحصب، ويظهر الحق فيها، وبلده قريب من نعمان وصاب فتقدم إلى بلاد يحصب، ودعا من أجابه إلى حرب الباطنية، وأكره اليهود على الإسلام أو القتل(1)، وكنا نؤويه وينفر الناس عنه حتى ظهر أمره واضطربت البلاد وادعت القوم مالم يدعه من المعجزات وكذبوها له، وحدثت أشياء من الله تعالى من الكرامات عوينت وشوهدت منها أنه جمع له حزماً من قصب الذرة وأحرقت، ثم خلع ثيابه وتزمَّل بثوب واحدٍ وتمرَّغ فيها وتقلب فيها فما حرق هو ولا ثوبه، وكل علَّة تحدث غير قويَّة إذا مسح على صاحبها عوفي فاشتهر ذلك منه في اليمن كله، فتقدمت إليه وكتبت إليه يلقاني إلى (شحم)(2) فالتقينا في قريَة شحم فطلب مني أبايُعه فذكرت له أهل البيت - عليهم السلام- وما يجب على الخلق من حقهم وراجعته في مسائل الخلاف بيننا وبين المجبرة فتبرى من اعتقادهم واعترف بفضل أهل البيت، فطلبت منه البيعة للإمام الناصر محمد بن المنصور(3) فبايعني له على أنه ناصر ومعين وخادم ثم بايعته بعد ذلك على الغُزّ وهم حطوط في الحقل وصاحب المحطة عمر بن رسول في ثلاثمائة وستين فارساً منتقاة مختارة، وسمعتُ من يحكي عنه أنه طلع من اليمن الأسفل بهذه الخيل وثلاثة(4) عشر ألف راجل، فكسرهم الله وثبت الأمر بيني وبين
__________
(1) في (ب): ثُمَّ يعرض الزيدية.
(2) لعلها: شَحَمَّر بتشديد الميم: قرية في عرض جبل بني مُسَلَّم، غرب مدينة يريم بمسافة 20 كيلو متراً. سكنها في أول القرية السابع الهجري مرغم الصوفي الحميري. كان من كبار الصوفية في عصره، وكان يلقب بالعبد الصالح، ناهياً عن الظلم العسف والجبروت، إلى أن قُتل بعد سنة 622هـ. (معجم المقحفي ص، ص 775).
(3) في (ب): المنصور بالله.
(4) في (ب): وبثلاثة عشر ألف.
مرغم، وكتبت إلى قبائل العرب كلها أطلب منهم الإعانة وأشراف البلاد وشيعتهم فلم يجبني أحد من الأشراف، وأجابتني العرب، وكانت محطتنا في قرية شحم والغز في شق الجبل مما يلي شحم، وكنا نلتقي للحرب ولسواها وهم يطمعون بالمصالحة ولم نفعل، وألقى مرغم أمره كله بيدي ولم يكن له خبره بالناس ولا مخالطتهم، وساعدتني يحصب وغيرها من العرب، وما شعرنا إلا والشيخ راشد بن مظفر الهرش السنحاني قد أقبل مغيراً من صنعاء ناصراً للغز، وكان مستهيناً بالناس، ووصل بخمرٍ أهداها، وكان وصوله نهار السبت وسقاهم(1) يوم الأحد وحملهم على الطلوع لحربنا نهار الاثنين، وقد رفعنا محطتنا من قرية شحم التي في الوادي إلى رأس الجبل، فلما طلعوا /181/ بخيلهم ورجلهم قصدوا حصن البياض، فلم يحسنوا منه حيلة، وقد أمرنا العسكر بحربهم في جناب الوادي، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا، ومنح الله أصحابنا أكتافهم وظهورهم فقتلوا من الغز أربعين فارساً من جيادهم وأمرائهم وشجعانهم، والشيخ راشد رمي ورجم حتى سقط هو وفرسه وقتل معه عربي وحبشي، وأخذ أصحابنا جمالهم وأثقالهم وقتل من قتل، ولو تبعوهم لأخذوا محطتهم إلا أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وكان يوم الثلاثاء، ورجعنا إلى محطتنا الأولى، ونزلت إلى الحقل، ووقف مرغم في المحطة فتسايرنا في قاع الحقل ما بيننا وبينهم إلا مشوار فرس، ما علمت أن فارساً أقبل منهم نحونا، وكان الشيخ راشد قد لزم قوماً من بني سيف من يحصب فلح على مشائخ يحصب على أني أعود إلى المحطة بالعسكر ويتقدمون يخرجون أصحابهم بخطاب فساعدتهم وحط الغز في (الصنميّة)، وأقبلت قبائل مدحج إلينا فتقدمنا إلى دار الضيف وحاربنا حصن يريم، وفيه رتبة للغز، ولمَّا قتل الشيخ راشد والغزّ أقبلت الأشراف والشيعة وقبائل العرب من كل جهة وحططنا في دار الضيف ونقل السلطان محطته إلى تحت باب حصن ذروان، فقصدناهم نهار الاثنين ثامن قتل راشد،
__________
(1) في (ب): فسقاهم نهار الأحد.
فأخذنا محطتهم وسمعت من يقول: إن فيها مائتي خيمة وثلاثين خيمة، وما بقي لهم جمل ولا دابة أكثر من قريب مائة رأس خيل وبغال، فسقط في يد السلطان، ثم عدت المحطة وصدرت في الحال لذمار، فأخذتها وأقمت فيها وفي حصن هران وشحنت فيها الطعام ، ووقف مرغم في المحطة على ذروان في منكث، ووصل إليه مشائخ مدحج ومعه فقهاء وقضاة، وظنوا عند مرغم شيئاً من العلم، فوجدوه أميّاً فنفروا عنه، ونفروه فصدر هارباً إلى بلاده وصالحوا السلطان وأنا مقيم في ذمار وديارها حتَّى أغار حسن بن رسول من صنعاء بمائتي فارس، وكنت في قرية صنعاء ونحوها، فلما استقر أمر الغز على صنعاء كاتبني الفضل بن غانم أني آخذ مغارب ذمار وأترك الأشراف من النصرة فلم أجبه على شيء منها.
ثم وصلت كتب الفقيه صالح بن سليمان يستنهض الأمير الناصر لدين الله محمد بن المنصور، ويستزعجه فكتب إليه الناصر أبياتاً هي مثبتة في ديوانه منها:
لا تلمني على الوقوف فإني ... غير وانٍ إن قَلَّتِ الأخيارُ
فأجابه الفقيه صالح بن سليمان الحويث الخمري بقصيدة منها:
كيف لومي أبيت يوم ذوي العد ... ل وهذى قدور حرب تفارُ
كيف لومي وقد منحت المواضي ... والعوالي ما تحيمي(1) المختارُ
كيف لومي والأرض ترجف خوفاً ... لمواضيك بدوها والقرارُ
كيف لومي وفي حريت معار ... وجهاد وفي حرارى معار
لك من بيشةٍ إلى باب صنعا ... ومن مأربٍ إلى البحر دارُ
كيف لومي وكل نزلاء خطب ... فلها في يديك قتل معارُ
كيف لومي وأحنف وابن هندٍ ... وإياس لو شاهدوا أعمارُ
كيف لومي ولم يضع مذ سللت الـ ... ـبيض دين ولا أضيع ذمارُ
/182/
كيف لومي وبين جنبيك للعلـ ... ـم وللحلم والذكاء بحارُ
كيف لومي وقد تياسر(2) بالفتـ ... ـح حصون البلاد والأمصارُ
كيف لومي والخيل مثل صقور ... ببلاد العذا لها أوكارُ
كيف لومي وقد وعدت بيومٍ ... فيه نقع كأنه الإعصارُ
__________
(1) في (ب): ما يحتمي به المختار.
(2) في (ب): تباشر.
والمواضي في الهام والمح رارٍ ... والقنا في الكلا لينقم ثارُ
ولتحيي الهدى ويقمع ضد ... وتقضي بمكَّة الأوطارُ
كيف لومي وقد جلا قولك الريـ ... ـب كما أوضح الظلامَ النهارُ
فاصطبار الكريم للضيم إلا ... ريثما يستعد خزي وعار
إن يحاورهمُ فعما قريبٍ ... يغل من حتفه الحوار خوارُ
أو يحاورهم(1) فما ذو لسانٍ ... يابن بنت النبي منه حوارُ
خضعت حولك الملوك فأصبحـ ... ـت لديهم كالموت ما فيه عارُ
فأقم سوق بيع نسوَة قومٍ ... عاهرات فسوقهن البوارُ
وأقم دين جدَّك المطهّر بالسـ ... ـيف جهاراً حتى متى ذا السرارُ
كيف لومي فتىً ملائكة اللـ ... ـه إلى باب حده زُوّارُ
يخدمون النبي والآل منه ... بضعة أنت أنت منها الخيارُ
إن يكن لي لديك ودٌّ وحقٌ ... قرَّ منه فوق النجوم قرارُ
فودادي والله غير معارٍ ... لو تعار النفوس والأعمارُ
ودكم واجبٌ ولا من عقبا ... ه نعيم عقبى الشناءة نارُ
إن نفسي تفدي الأمير وعرضي ... دون عرض كالشهد حين يشارُ
ولطيمان بيت وزيادا ... زين فض الختام عنها البحارُ
إن أبياتك التي ألبستني(2) ... حُلَّة فهي لي شعار دثارُ
أنطقتني كمثل يرمعة(3) الأمعر ... جاورتها الدراري الكبارُ
أو كما قيل قرَّبوا الخيل تحذى ... فثنى رجله إلى القوم فارُ
فتعمد(4) لجهدي الاعتذار ... دمت تقفو مرادك الأقدارُ
__________
(1) في (ب): تحاورهم.
(2) في (ب): لبستني.
(3) في (ب): برمعة.
(4) في (ب): فتغمد.
قال صالح بن سليمان: وأمَّا قصة هذا الشعر والأبيات التي هي جواب لها فإن الأمير الناصر لمَّا عزم على محاربة عسكر الغز، وخالفه على ذلك السلاطين بنو شهاب أهل (بيت ردم)، وأمر إليهم بالمال والرجال وأجلب سلطان اليمن إليهم(1) بعسكره ودارت رحى الحرب بينهم، وقد كتب - عليه السلام- إليَّ أن افتح علَى الغز حرباً يشغل خواطرهم وأنا في بلاد مقرى(2)، وكان الشيخ راشد بن مظفر الهرش السنحاني قد بنى فيها حصنين خيران وكهلال(3)، وكان ولده الرياحي(4) في كهلال(5) ورتبه في خيران فجمعت من /183/ أمكنني من أشراف مقري وشيعتها وقبائلها وحصرنا خيران في جهة (خبان) وأقمنا في حصاره خمسين يوماً، فأخذناه وأخربناه، وكنا قد لزمنا حصن كهال وفيه الرباحي بن راشد في قوم كثير، فحصرناهم حتى كدنا نأخذهم، والشيخ راشد زعيم الغز في محطة بيت ردم، فسعى في الصلح والدخول للأشراف فيما أحبوا وغرضه الغارَة علينا، فما شعرنا ونحن في وطيس الحرب إلا بالخيام مضروبَة والعساكر مغيرة ونحن نراهم والرباحي وأصحابه لا يرونهم، فأمرت من دخل بيننا وبينهم في صلح باقي ذلك اليوم، وهو وقت العصر ثم طلعوا إلى حصنهم كهال وعدنا إلى محطتنا، فصدرنا(6) منها الأول، فالأول ووقف معي أجواد من حضر في آخر الناس، ولم يعلم الرباحي وأصحابه بغارة الغز حتى استقروا في الحصن، وقد تعبوا من الحرب والحصار، فنزلوا لاحقين للناس، وقد صدروا وصدرنا(7) إلى ناحية بلادنا بلاد (الأصابح)، ولم يكن للغز عليها قدرة، فكتبت إلى الأمير عز الدين أعاتبه، فكتبت الأبيات ثم أجبتها، فهذه قضيتها وهي قبل قضيَّة(8)
__________
(1) في (ب): وأجلب سلطان اليمن بعسكره إليهم.
(2) مُقري: زِنَةَ معطي، هو الاسم القديم لما يدعى اليوم (مغرب العنس) من بلاد ذمار. (معجم المقحفي. ص 1616).
(3) في (أ): كهلان.
(4) في (ب): الرباحي.
(5) في (أ): كحلان.
(6) في (ب): وصدرنا.
(7) في (ب): وقد صدر وصدرنا إلى ناحية.
(8) في (ب): قصة.
مرغم بمدَّة، وقصَّة مرغم في سنة ثلاث وعشرين وست مائة.
صالح بن سليمان الآنسي [ - ]
العلامة الفاضل الكبير صالح بن سليمان الآنسي، ذكره في تحفة الأهدل في علماء الزيدية.
صالح بن عبد الله القاسمي [960هـ - 1048 ه ]
السيد العلامة الكبير نصير الأئمة وظهيرها، وصدر مجالسهم وكبيرها، العابد(1) المجاهد صالح بن عبد الله المعروف بابن مغل القاسمي - قدس الله سره -.
قال سيدنا العلامة أستاذ الإسلام حافظ المذهب أحمد بن سعد الدين - أعاد الله من بركته -: هو صالح بن عبد الله بن علي بن داود بن القاسم بن إبراهيم بن القاسم بن إبراهيم بن الأمير محمد ذي الشرفين: كان إماماً محققاً وعابداً متألهاً، له عناية بالخير على أنواعه - رضي الله عنه - مولده في رجب سنة ستين وتسعمائة في بلدة حبور من جهة ظليمة في الحصب، منها ببيت يعرف ببيت الحداد، وكانت وفاته - رضي الله عنه - يوم الثلاثاء تاسع رجب الأصب، عام ثمانيةٍ وأربعين [وألف عن ثمانٍ وثمانين](2) بشهارة حرسها الله، وقبره عند قبر جده ذي الشرفين متصلاً قبره من جهة الشرق بقبر ذي الشرفين - عليهم السلام-. انتهى ما وجدته مقيداً بخطي عن أستاذي المذكور(3)، وكنت رأيت بخطه، وسمعت من لفظه ما هو أبسط من هذا في لقب هذا السيد الجليل، وطال ما ذكره شيخنا في مقام التعجب من عبادته وصبره، واستمراره على وظائف(4) الطاعة، قال: كان الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد وجعل مقامه في الديوان في أي جهة، كان الإمام - عليه السلام- إذا نزل ببلدة، وفرش الديوان الذي هو للحفل فرش للسيد في جانب منه، وقد أمر الإمام السقاء الذي يحمل الماء أنه يبادر عقيب النزول يحمل الماء إلى قرب المحل، فإذا نزلوا آوى السيد إلى قطعة فراشه(5) في الديوان، وفتح كتابه للرقم والدرس
__________
(1) في (ب) زيادة: المتأله.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب) زيادة: عادت بركتُه.
(4) في (ب): وصائف الطاعة.
(5) في (ب): في جانب الديوان.
والتلاوة(1)، فإذا برز الإمام في ليل أو نهار كان السيد - عادت بركاته - هو المتولي للكتابة في غالب الحال لجليلها ودقيقها.
قال سيدنا - رضي الله عنه -: ,إن نسيت شيئاً لا أنس قيامه في السحر وأنا مضطجع وهو قائم يصلي بصوتٍ خفيٍّ كأنما يلقي على صدري ماء(2) مخلوطاً بالثلج، وحكى له كرامة قد قيدها سيدنا بخطه ولم أجدها فيما قيدت عنه، وهو أنه كان القاضي في صناعة الكتابة ما يخرق العقول في السرعة مع جودة وحسن وألفاظ دريّة ووفاء بالمقاصد كما علم ذلك كل أحد، فكان يكتب في الوقت الواحد /184/ مالا يظنه ذو همَّةٍ فأصيب في يمينه بألمٍ قطع الناظرون أن ذلك من العين التي نطقت السنَّة أنها حق، ولم يزل ألمها ينتابه ويقعده ويصحب ذلك ألم شديد(3) فقبضها السيد - عادت بركته - وقرأ عليها أم الكتاب، فكأنما سل الألم منها سلاً - ولم يعاود القاضي حتى مات.
قلت: وحظي - رضي الله عنه - بصحبة الإمام الناصر الحسن بن علي وصحبة الإمام(4) المنصور بالله وصحبة الإمام(5) المؤيَّد بالله، وفي جميع أيامه هو واحد الكفاة، وبآخرة من أيامه انقطع بمنزله، ودخلت إليه متبركاً به في شوال سنة إحدى وأربعين وألف، ودعا لي وبرَّك. وقد كانت تنوبه غفلة مع كبر السن، فكان إذا عرض عليه الشعر المستجاد والكلم الفائق اهتزَّ له فقد يعرض عليه شيء من شعره يستجيده ويستحسنه ولا يعرف أنه له.
قلت: وأخبرني شيخي القاضي الأديب الحفظة صاحب المكارم حفظ الله أحمد(6) بن سهيل قاضي الهجر أنه رآه في المنام بعد موته - رحمه الله - وكأنه قد حاول كتابة كتاب عن أمر الإمام فأدرك من بعض الحاضرين أنهم تغامزوا بأنه قد كبر وهرم ولم يثبت الكتابة ويجدها فقال في الحال:
__________
(1) في (ب): للرقم أو الدرس أو التلاوة.
(2) في (أ): يلقى على صدري ماء مخلط بالثلج.
(3) في (ب): وجع شديد.
(4) سقط من (أ): المنصور بالله.
(5) سقط من (أ): المؤيد.
(6) في (ب): حفظ الله بن أحمد سهيل.
يعيبون يا رب أني هرمتُ ... وما عيبهم لي ولكن لك
لأنك يا رب أهرمتني ... وأيام عمري نقضين(1) لك
ولم يكن القاضي - أبقاه الله - يحفظ هذا الشعر، وكان - رحمه الله - فيما بلغني كثير التمثل بقوله:
لما عدمت وسيلة ألقى بها ... ربي تقي نفسي أليم عذابها
صيّرت رحمته إليه وسيلة ... وكفى بها وكفى بها وكفى بها
وهو شعر مسموع، وبلغني أن السيد رآه في النوم أيضاً وهو من قبل هذا معروف للناس لا لهُ - رحمه الله تعالى - وله شعر عظيم المقدار بليغ العبارة والأسلوب جزل الصناعة عليه مسحة من شعر أبي فراس وأضرابه، ولم يحضرني عند الرقم إلا قصيدته التي تناقلها الناس وعرفها العام والخاص يتجرَّم للإسلام وينوح على الكَرم والكرام(2):
ضاع الوفاء وضاعت بعده الهممُ ... والدين ضاع وضاع المجد والكرمُ
والجور في الناس لا تخفى معالمهُ ... والعدل من دونه الأستار والظلمُ
وكل من تابع الشيطان محترمٌ ... وكل من عبد الرحمن مهتضمُ
وليس تلقى بهذا الدار مؤتمناً ... في نصحه لك إلا وهو متَّهَمُ
آذانهم لسماع الفحش واعيةُ ... وعن سماع الذي يُنجي بها صممُ
يشاهدون ضلالاتٍ بأعينهمْ ... وإن تجلى لهم وجه الصواب عموا
الغدرُ والمكرُ والأضغانُ طبعهمُ ... والزورُ والبغيُ والبهتانُ نطقهمُ
والزَّمرُ والطارُ والدانات ديدنهمْ ... كذلك الرقص والتصفيق والنغمُ
أحكامهم في أمور الدين منبعها ... آراؤهم وكتاب الله بينهمُ
كأن آل رسول الله عندهمُ ... لم يفرض الله في القرآن ودهمُ
لا يعرفون لهم حقاً بلى عرفوا ... لكنهم تركوا الحق الذي علموا
إذا دعاهم إمام الحق ما سمعوا ... وإن أجابوا فلا سعيٌ ولا قدمُ
/185/
إن صالحوا نقضوا أو عاهدوا نكثوا ... أو ناصحوا خدعوا أو عوملوا ظلموا
وجملة الأمر أن القوم ليس لهم ... على الحقيقة لا عهد ولا ذممُ
__________
(1) في (أ): تقصير.
(2) في (ب): وهي على رويَّ قصيدة أبي فراس - رحمه الله - المتقدمة.
لو اهتدوا بايعوا سفن النجاة أولي ... الأمر الذين هم للناس معتصمُ
لكنَّهم قلدوا الأهوا فما سلموا ... واستدرجتهم على هذا نفوسهم
لذاك ذلت جميع العرب وانخدعتْ ... واستحكمت فيهم الأوغادُ والعجمُ
وصيّرتهم سواماً لا رعاة لهمْ ... والراع إن غاب يوماً ضاعت الغنمُ
وقد رُوي أن تسليط الأعاجم لا ... يأتي على العرب إلا من فسادهمُ
أشكو إلى الله من هذا وأسأله التـ ... ـوفيق للرُشد فهو الحاكم الحكمُ
يا أيها الناس خافوا الله واتبعوا ... مرضاته وأنيبوا لا أبا لكمُ
لعل أفراجه تأتي إذا صلحت ... نيّاتكم وأزحتم ما يشينكمُ
ولُذتم بالذي نرجو بأن له ... عناية بسناها تهتدي الأممُ
الأرْوعُ الماجدُ الميمونُ جانبه ... الكيّسُ الفَطِنُ العلامةُ العَلَمُ
مؤيّد الرأي من أبناء حيدرةٍ ... ماضي العزائم ما في بأسه سأمُ
سهل الشمائل محمود الفضائل مأ ... مون الغوائل من يشفى به الألمُ
إنا لنأمل أن يحيا الزمان به ... ويشرق الحق والإسلام يبتسمُ
وتمتلي الأرض عدلاً بعد أن ملئت ... جوراً وأحوال هذا الناس تنتظمُ
فقد رأيناه أهلاً للزعامة والـ ... ـبرهان فيها جلي ليس ينكتمُ
وما بقي شخصه فالجرح مندملٌ ... والكسر منجبرٌ والصدع ملتئمُ
وكل آل رسول الله قد علموا ... بأنه الغيث أمّا أصحت الديمُ
وأنه نور هَديٍ يُستضاءُ به ... وأنه فيهم الصمصامة الخذمُ
يا سيدي يا أمير المؤمنين ويا ... من شأن همَّته تدنو لها الهمم
كيف البقاء وأهل البغي في دعةٍ ... ونار جورهم في الأرض تضطرمُ
أليس ذكركم أوهى قواعدهم ... فبعد عزمكم لا شك ينهدمُ
فاصدع بأمرك إن الهمَّ منفرجٌ ... على يدَيك وحبل الجور منصرمُ
وآية الفتح قد لاحت علامتها ... والناصر الله لا الأجناد والخدمُ
وثق بربك في كل الأمور فما ... أمَّلت منه تعالى فهو منبرَمُ
ولا يصُدَّنك عن عزمٍ مكارههم ... فإنه يتلاشا ثمَّ ينهدمُ
وصاحبُ الحق غلاّبٌ وإن كثرتْ ... أعداؤه فهي عند الصدق تنهزمُ
قد كان في يوم بدرٍ ما علمت به ... وأيد الله من بالحق يلتزمُ
وخيَّب الله أهل الكفر وانهزمت ... طوائفُ الشرك واشتَّت جموعهمُ
/186/
هذا وأنفع ما لازمت صحبته ... بعد التقى النصح ثم الحزم يلتزمُ
والعزم إن كان إمكان ومقدرة ... والصفح إن لاح ممن قد أسا ندمُ
قلت: وله أشعار واسعة، ولمَّا توفي - عادت بركاته - رثاه سيدنا العلامة أحمد بن سعد الدين - رحمه الله تعالى - فقال:
أجدك مات العابد المجتهدُ ... ومن فيه للخيرات والبر مقصدُ
ومن كان ذا قلب سليم مطهرٍ ... ووجه تقي نوره(1) يتصعدُ
إذا ما ادْلهمَّ الليل واحلولك الدجى ... سمعت دوي النحل منه ترددُ
يراوح ما بين الجبين وجبهة ... ويتلو مثاني ربه وهو يسجدُ
ويقسم وهو البر بالله ربه ... لشيبة حمدٍ لا يزال يحمدُ
وقد قبضتها كفه من يمينه ... على ثقةٍ من ربه لا يفندُ
لئن أنا لم أنقذك من حر ناره ... وما فيه للعاصين منه توعدُ
لقد ضل سعيي والمعاذ بربنا ... وليس إذاً جدي النبي محمدُ
قلت: لمح سيدنا إلى ما أخبرنا به - قدس الله سره - قال: كان السيد عادت بركاته يقبض على لحيته وهي بيضاء نقيَّة ويقول: والله يا هذه لأبالغنَّ في نجاتك من النار وإلا فلست من ولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو كما قال:
بقيَّة آل المصطفى ووصيه ... وشيخهم العلامة المتفردُ
وحافظ آثار الأئمة والهدى ... وكتبهم والدرس فيهن يشهدُ
خطيبهم الوعاظ غير منازع ... ومفتيهم بالحق يهدي ويرشدُ
فدين دعاة الحق حافظ حقهم ... وعهدهم والحق بالحق يعضدُ
نعم جاء أمر الله جلَّ جلاله ... وليس لنا عمَّا قضا الله مسند(2)
فسمعاً وطوعاً ربنا وولينا ... ونحن لك اللهم ذا العرش أعبدُ
ومرجعنا طراً إليك وحسبنا ... ثوابك ذو نرجو وإياك نعبدُ
قضيت علينا الموت حتماً وإنما ... قضيت رضا يا بر يا متحمدُ
وهي طويلة وختامها:
__________
(1) في (ب): أنواره تتصعدُ.
(2) في (ب): مسند.