ومن شيوخ القاضي سعيد العلامة السنحاني الآتي ذكره - إن شاء الله - والسيد الإمام العالم عبد الله بن أحمد المؤيدي وله معه /149/ النادرة الآتية: فإن القاضي - رحمه الله - شبيه السجايا بعامر الشعبي - رحمه الله - ومن تلامذته كبراء أهل الإقليم، ومنهم إمام الوقت المتوكل على الله - أيده الله - تروَّى من معين علومه، وروى منها الكثير الطيب، ولا يزال يعطر المجالس بذكره، فإنَّ القاضي - رحمه الله - كانت سجاياه نبويَّة، وأخلاقه علويَّة، كان لأصحابه كأحدهم يمازحهم ولا يقول إلا حقاً، وقد كان الإمام المتوكل على الله تتلمذ للعلامة الضيائي عامر بن محمد الصباحي والقاضي عامر - عادت بركاته - كثير الصمت والتهيب على الطلبة، وكان يوصي بذلك ويقول: الطالب إذا أمليت له مسألة وعاودك فيها على الصواب فاقبل الحق بوجهٍ لا يفهم الطالب أنك قد أخطأت يقل أدبه، فإن الطالب كالمعز(1) لا تقر في أماكنها، فلمَّا مضت مدّة والإمام يقرأ في البحر على شيخه القاضي (سعيد)(2) اقتضى الحال ترحل القاضي (سعيد)(3) فقال للإمام - عليه السلام- على من تقرأ في غيبتي؟ قال: على القاضي (عامر)(4)، قال: ما أحسن هذا، لكنَّها لا تطمئن نفسي حتَّى تقرؤوا (في حضرتي)(5) لأعرف أسلوب القراءة، ففعلوا، والقاضي سعيد حاضر يسأل الإمام عن مواضع من مباحث القراءة، فاستحسن ما سمع وما رأى، واطمأنت نفسه، ولمَّا أخذوا في القراءة على القاضي عامر بسط لهم أخلاقه وجرأهم على المباحثة والمعاودة بينهم للبحوث والتخطئة والتصويب حتى توجّع إليه من ذلك القاضي صلاح الذنوبي - رحمه الله - وكان جامعاً لعلوم الاجتهاد، فقال له كلاماً معناه: التصويب لما فيه من شحذ الهمم كما جرت عادة الطلبة الكلفين بالعلم سيما من الزيدية، فإن حالهم كما قال المتوكل على الله
__________
(1) في (ب): كالمعجزة.
(2) مشكل عليه في (ب).
(3) مشكل عليه في (ب).
(4) مشكل عليه في (ب).
(5) في (ب): إلا وأنا حاضر.
شبيه بموسى(1) مع الخضر لا يسكنون على أمر حتى يتحققوه، وفي أيام القراءة على القاضي سعيد - رحمه الله - رأى القاضي من بعض الطلبة المشاركين في القراءة تقبض واستحياء فتكلم القاضي أيضاً بما يجريهم على المباحثة، فطالت مجالس القراءة المذكورة، فكان القاضي عادت بركته يقول: أنا السبب فتحت لكم أبواب القول، لو تركتكم(2) مثل عامر مضينا في القراءة، وكان مع هذا كل الطلبة تنشرح صدورهم بهزله وجده.
__________
(1) في (ب): شبيه بحال موسى.
(2) في (أ): قدتكم.
ومن تلامذته أولاده العلماء الكبار، ولقد أنجب - رحمه الله - فإن بنيه هم العيون الناظرة منهم شيخنا القاضي أحمد بن سعيد الماضي ذكره، ومنهم حاكم المسلمين علي بن سعيد الآتي ذكره، ومنهم من نسأل الله إمتاع المسلمين به وجيه الإسلام عبد القادر بن سعيد فإنه كما قال إمامنا المتوكل على الله: حافظ المذهب، وهو من أهل الورع وطيب الطويّة بحيث يقل نظيره، ومنهم الفاضل الرئيس محمد بن سعيد - عافاه الله- فقيه في الفروع، له مكانة في الرئاسة، إلا أنه كلف بالزهد والتخلي، ومنهم العلامة المهدي بن سعيد عارف حازم، وكان أبوه يتوسم فيه الكمالات، وكان صادق التوسم، روى عنه أنه كان يتوسم في كل أحد(1) من أولاده شيئاً فما كذب ظنه، ومما شاع عنه أنه لمَّا أراد أولاده الحج في أفراد ثلاثين وألف، وكان الحاج يومئذٍ محتاجاً إلى الحزم فأوصاهم بوصايا منها أنه قال لهم: اخف ذهبك ومذهبك وذهابك، وقال لهم: متى احتجتم إلى صلاة الجماعة فليؤمكم علي بن سعيد، ومتى احتجتم الفتيا فليفت أحمد بن سعيد، ومتى احتجتم إلى ترميم معاشكم ونظم حالكم فالمهدي، وإن احتجتم الخصام والدفاع بالجد فالقاضي أحمد بن عامر، وهو الذي قد أسلفت ذكره في باب الهمزة، فإنه كان /150/ على(2) جلالة علمه ونباهة شأنه مقداماً رئيساً(3)، له سطوة، وأمره في ذلك ظاهر لو لم يكن إلا خروجه من بين جنود الأروام، وقد ربطوه كتافاً، وذلك أن الأروام غزو القضاة إلى هجرة شوكان في صباح عيد الفطر فصبَّحوهم، فأمَّا المهدي بن سعيد فسلَّ السلاح بغير اختيار منه، لذلك أخذ الجنبية وبعض العكسر الجهاز، وكانت في يده مسلولة، فارق(4) العسكر الذين في المسجد وفرَّ بعضهم إلى الصرح، فانغلق الباب، فلم يمكنه النفوذ إلى الصرح، قال: ولو نفذ إليه لم يخلص لكثرة العسكر، فعاد إلى طاقة في المجلس(5) فخرج
__________
(1) في (ب): واحد.
(2) في (ب): مع.
(3) في (ب): الرائس.
(4) لعلها: ففرق.
(5) في (ب): المسجد.
منها، فكان ذلك سبب نجاته والحمد لله، حكى هذا عن نفسه، وأمَّا القاضي أحمد وجماعة من الفقهاء، فوقعوا في أيديهم فأخذوا في الطريق إلى قرب صنعاء [وأراد الموكل به أن يشرب من بريكة قريب صنعاء](1)، فأعطى الحبل المربوط به القاضي من يحفظه له حتى شرب فجذبه من يده وفرَّ هارباً، ولحقته الخيل والرجل فصعد الجبل ناجياً والحمد لله، وكان الرجل الموكل به قد انتقوه منهم لما شاهدوا من كمال خلق القاضي الدال على قوّته وسرعة عدوه فلحق الموكل به وحصلت مع الحاضر منهم روعَة وفاتهم بالجد، وأمَّا بقيَّة الفقهاء فحبسوا وشدد عليهم، ومنهم من دخل (السويس) وناحية مصر وخرج على حال عجيب.
__________
(1) سقط من (أ).
عدنا إلى ذكر أولاد القاضي، ومنهم العلامة النجيب الحوَّلُ القلَّبُ يحيى بن سعيد، هو الآن مدرس بصعدة مع كمال واسع، ومنهم عبد الله قاضي كامل الصفات فقيه عارف، وللقاضي أولاد غير هؤلاء نبهاء فقهاء، إلا أن هؤلاء الذين ذكرناهم يستحق كل واحد منهم إفراد ترجمة، وكلهم يروي عن والده المذكور، ومن التلامذة الأجلاء عبد الرحمن بن المنتصر، عالم الشيعة ورئيسهم، وسيأتي - إن شاء الله - ذكره، وكانوا يقرؤون على القاضي بكحلان وفيهم من هو حري بأن يكون أستاذاً لولا جلالة القاضي سعيد كما يقال: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فاتفق أن القاضي سعيد غاب الحلقة، فاستناب الفقهاء للتدريس عبدالرحمن بن المنتصر المذكور، فدرسهم يوماً ثم حضر القاضي، فكان لا يزال يتلهف على فوت ذلك المعشر، وهذه نكتة ظريفة، وكانت حالاته - رحمه الله - غريبة، ومن ملحه ما وعدنا به عند ذكر شيخه السيد عبد الله بن أحمد، وفي ذكرها تأديب وأحماض، حكى لنا الأصحاب الذين قرؤوا عليه - عادت بركته - أنه لما وقف عند السيد عبد الله للقراءة علق السيد المذكور بالقاضي لما رآه من جودة فهمه وكماله، فكان يعده العين الناظرة في الحضرة،
فاتفق أن القاضي احتاج إلى تعريف الدولة بأمرٍ لأنه خرج من عمّالهم من آذى من يتعلق بالقاضي، فأنهى ذلك إلى السيد عبد الله، واستعان به، فرأى السيد - رحمه الله - أن صيانة مثل القاضي وإزالة الظلم متوجهة، وإن دخل على الظلمة، فدخل إلى صاحب الأعمال الخزرجي أو المحرقي، غاب عني، فلما أخبر المذكور بقدوم السيد - رحمه الله - منسه شيئاً، ثُمَّ فتح الكلام تلقاه بالإكرام وأنزله في الصَّدر من المجلس وتصاغر له، ثم أحضر طعاماً لم يذق السيد - رحمه الله - منه شيئاً، ثم فتح الكلام في شأن القاضي وإن هذا رجل الزمان ووحيده، عالم خطير ممن ينبغي أن يرعى ويحتشم من تعلق به، وأطال في هذا المعنى، وهو - رحمه الله - لا يعرف اسم القاضي سعيد؛ لأنه اشتغل بكماله عن سؤاله عن اسمه، فلمَّا سمع المحرقي أو الخزرجي تلك الصفات اشتغل بالسؤال عن الاسم، فقال: صدقتم ومن سيدنا هذا؟ فقال السيد - رحمه الله -: وما تعرف اسم سيدنا؟ فقال: لا، ثم قال له السيد مرَّة أخرى: أما تعرف اسم سيدنا؟ فكررها كالمنكر لجهالة المذكور لاسم القاضي، ففهم القاضي سعيد النكتة /151/ وكان إياس وقته فقال: يا مولانا، ما أدراه بسعيد بن صالح الهبل، فقال السيد للمذكور: ما تعرف سيدنا هذا سيدنا سعيد بن صلاح الهبل، وكانت أعجوبة مع السيد والقاضي، وكان للقاضي من الذكاء ما يعجب له، وكان السيد العلامة محمد بن عز الدين المفتي - عادت بركاته - يتعجب من ذكائه.
ومن أعاجيبه - رحمه الله - أنه حضر بعض المدعيين في مقام القاضي عامر - رحمه الله - بشهادة رجل من عتاة العرب أهل الشنآن والظلم، فاحتاج المشهود عليه إلى جرحه وعواقب ذلك الجرح من الجارح مخوفة مع ضعف السلطان يومئذٍ، فقال المشهود عليه: عندي جرح هذه الشهادة، وسأل القاضي سعيد عن الجرح وهو في الحضرة فتجاهل القاضي سعيد - رحمه الله - عن الرجل الشاهد، وقال: ومن هذا فلان؟ فقال الشاهد: نعم يا سيدنا(1) لا إله إلا الله بعد العهد بك لنا منك من يوم فعلت كذا وكذا، فقال: نعم يا سيدنا يذكر له قضية لا تستنكرها القبائل من قتل أو غزوٍ أو نحوه، فلم يزل القاضي يذكره بالعهود وهو يقر ففهم القاضي عامر ومن حضر، وقال القاضي عامر: يكفي هذا يا سعيد أو كما قال. وله من هذا المعنى أشياء، وكان لا يمتنع عليه باب مرتج بل يفتح الأبواب جميعاً وما عرف الوجه في ذلك، وكان إذا أمسى بحصن(2) سعدان بشهارة وقام في الليل فتح جميع الأبواب وخرج فقال الإمام - عليه السلام-: أما فتح باب الحصن فهو خلل، وكانت وفادته - رحمه الله - إلى الإمام إلى بلاد الأهنوم أحسبه إلى بلاد (سيران)، فأجله الإمام وأعطاه عمامته، وتنقل في البلاد للعلم والجهاد، ثم سكن صعدة بأولاده وعاد شهارة، وبها كانت وفاته - رحمه الله - توفي في نهار الأحد تاسع وعشرين من شوَّال سنة سبع وثلاثين وألف، وقبر بالسرار من شهارة، وقبره مشهور مزور - أعاد الله من بركته، وبارك في عقبه - فإن في الدرجة الثالثة من عقبه فضلاء علماء بارك الله للمسلمين فيهم(3).
__________
(1) في (ب): قال لاء لاه إلا الله.
(2) في (ب): في حصن سعدان.
(3) في الأصل يوجد بعد هذه الترجمة ترجمة سعيد بن حثيم الهلالي، وقد تقدمت.
سعيد بن عطاف بن قحليل [ - 1023 ه ]
الفقيه الفاضل الكامل سعيد بن عطاف بن قحليل - بالقاف بعدها حاء مهملة - القداري - بالقاف بعدها دال مهملة بعدها ألف بعدها راء مهملة ثم ياء النسبة - عالم كبير وأجاز لإمام زمانه مجدد الألف الإمام الأعظم المنصور بالله القاسم بن محمد - عليهما السلام- وكان من أهل الفضل والزهد والورع، ولم يكن نسبه في بني القداري إنما نسب إليهم للمصاهرة، وهو من بلدٍ في بني الدولابي، تسمَّى هجرة الميو - بكسر الميم بعدها ياء مثناه تحتية مفتوحة مخففة - وتوفي في الثاني والعشرين من المحرَّم سنة ثلاث وعشرين وألف وقبر ببيبت القداري، ومن شيوخه السيد العلامة القاسم بن محمد العلوي، وفي أصول الدين السيد المطهر بن محمد بن تاج الدين والفقيه الوردسان.
سعيد بن علي الشهابي [ - ق 8 ه ]
إمام أهل الطريقة العالم الفاضل سعيد بن علي الشهابي - رحمه الله - قال في الصلة: العالم الفاضل الزاهد العابد سعيد بن علي الشهابي الساكن بثلا، كان من علماء الشريعة وفضلاء أهل الطريقة من تلامذة إبراهيم الكينعي، بلغ معه الزهد غاياته، والورع نهاياته، وأحرق قلبه الخوف حتى الموت حكى لي - رحمه الله - أنه تزود من مكة إلى صعدة صاعاً من قليّ الشعير، وجمع حجارة على ظهره المبارك في ثلا، وعمر بها مسجداً كبيراً، وزاد آخر وزاد مئذنة، وزاد خانكات وهو الآن مسجد مقصود مهاجر للصالحين والعابدين والزاهدين، وقبره ثمة مشهور مزور /152/
وببركته وسرِّه، وقوفات فتح الله بها لهذين المسجدين في حياته وبعد وفاته ما يسُد، والله أعلم حال من يقف فيه، ويقصده من الصَّالحين وذوي التقوى واليقين، وروى لي الأخ الصّالح يحيى بن أحمد الصنعاني، وكان من تلامذة إبراهيم الكينعي، قال: قلت: لسيدي هل رأيت في عمرك الخضر؟ قال: كنت في ثلا فدخل عليّ رجل عليه سيما الصالحين، ومنظر الخائفين، له شيبة وضيّة فسلم علي، وصافحني وقال لي: أتأذن لي أن آكل من هذا العيش؟ فقلت: نعم، فقال: أتأذن لي أن أشرب من هذا الكوز؟ قلت: نعم، فأكل ثلاثة لقمات وشرب ثلاث أنفاس، فقلت: من أين أنت؟ فقال: من الغرب أتيت من زيارة الفقيه محمد بن أحسن السودي - نفع الله به - فخرج معي وتنبهت ولم أشك أنه الخضر.
سعيد بن منصور الحجي [ - 791 ه ]
الفقيه العالم العابد سعيد بن منصور الحجي - رحمه الله - قال في الصلة: كان فاضلاً عابداً زاهداً أنفق أكثر ماله على إخوانه المسلمين، والفقراء والمحتاجين، وكان يتخذ الضيافات العظيمة للسادات والعلماء، ويفكههم بأنواع الطيبات واللذات، فجزاه الله عنا وعنهم خيراً. انتهى
قلت: ورأيت بخط الفقيه الزاهد علي بن طاهر بن سعيد بن علي بن منصور بن حنظل الخولاني الزيدي - رحمه الله - أنه توفي لأربع خلون من شهر ربيع الأول من شهور سنة إحدى وتسعين وسبعمائة - رحمه الله -.
قلت: وهو الذي بنى المشهد المشهور الذي أشبه جنة المأوى بجربة الروض يماني صنعاء، فإنه عمره في محبّة صديقه وأخيه في الله وسيده الإمام الكامل عدل أهل الأرض المهدي بن القاسم بن المطهر الزيدي نسباً ومذهباً - أعاد الله من بركته - قال في الصلة في ترجمة السيد المهدي: واتخذ عليه مودة في الله ومعينة على طاعة الله وعونه على مآربه(1) كلها حبيب آل محمد وولي صالحي أوانه عن يد عفيف الدين ذي الدين القويم، والقلب السليم، والإحسان العميم، والورع المستقيم، سعيد بن منصور الحجي مشهداً بالآجر والقضاض على قبره، ودفن بالقرب منه حاتم - رحمه الله - وبعده الفقيه الإمام شحاك الملحدين، وناظورة المسلمين، إبراهيم بن علي الغرازي - رضي الله عنه وأرضاه -.
__________
(1) في (ب): على حماريّة.