وللشيخ مصنفات عدة، منها (كتاب حافل في مناقضات أهل المنطق)(1)، ومنها (الفائق في الأصول) (2)، ومنها (التبيان) (3) في الكلام، ومنها (الكاشف لذوي البصائر في إثبات الأعراض والجواهر) (4)، ومنها (العشر الفوائد) (5)، ومنها (كتاب المقصود في المقصور والممدود) (6)، وجواب القاضي الرشيد المسمى (بتقريب البعيد من مسائل الرشيد) (7)، والقاضي الرشيد المذكور هو أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير الغساني الأسواني المصري، يلقب بالرشيد، وكنيته أبو الحسن، مولده (بأسوان)، وهي بلدة من صعيد مصر، وخرج منها إلى مصر فأقام بها واتصل بملوكها في آخر أيام بني عبيد، ومدح وزراءها، وتقدم عندهم، وكان شاعراً كاتباً فقيهاً نحوياً لغوياً عروضياً مؤرخاً منطقياً مهندساً عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم، وأنفذ برسالة إلى اليمن، ثم قلد قضاة اليمن ولقب بقاضي القضاة، ولما استقر بها سمت نفسه إلى رتبة الخلافة فسعى فيها وأجابه قوم، وسلم عليه بها وضربت له السكة وكتب على أحد وجهي السكة: قل هو الله أحد، وعلى الوجه الآخر: الإمام الأمجد أبو الحسن أحمد، ثم قبض عليه ونفذ مكبلاً إلى قوص، وجرت عليه أمور عظيمة وأهوال كثيرة، ثم اتصل بالسلطان صلاح الدين بن أيوب في قدومه إليه من سكندرية(8)، وقاتل المصريون معه، ولم يزل شاور وزير
__________
(1) لم أجد له نسخة خطية.
(2) الفائق في أصول الفقه لم أجد له نسخة خطية.
(3) التبيان لياقوتة الإيمان وواسطة البرهان، قيل: جمعه عن أبي الفضيل عباس بن شروين مخطوط في 241 ورقة بالمكتبة الغربية بالجامع برقم (219) كلام صورة بمعهد المخطوطات وأخرى بمكتبة عبدالله الوزير في السد.
(4) لعله كيفية كشف الأحكام والصفات عن خصائص المؤثرات نسخ خطية كثيرة منها نسخة بمكتبة السيد محمد بن عبدالعظيم الهادي.
(5) لم أجد له نسخة خطية.
(6) ذكر له الحبشي نسخة خطية بمكتبة الفاتيكان.
(7) لم أجد له نسخة خطية.
(8) في (أ): سكندر.

بني عبيد يطلبه حتى ظفر به فقتله شنقاً وضرباً(1)، سنة ثلاث وستين وخمسمائة ولقي من رجال الزيدية عليان بن سعد وجماعة من الزيدية، وأورد عليهم، وراجعهم، وكانوا فقهاء لا يتمسكون من الإجابة إلا بأقوال الأئمة، فحضر نشوان بن سعيد، وقال له: هؤلاء فقهاء مذهبنا، لكن أنا أتولى جوابك، فلم يزل يراجعه حتى أفحمه، وكان ذلك الاجتماع بنجران، وكان بين الرشيد وبين الحسن الرصاص - رحمه الله - مراجعات، وكتب إلى الشيخ أبياتاً سأله عنها وأجابها بأحسن جواب، ولم يزل يرتفع شأن الرشيد حتى وصل زيد بن الحسن البيهقي - رحمه الله - فتضاءل، وصغر، وتشوق إلى ديار مصر، وكتب إلى أخيه والجواب الذي ذكرناه أولاً عن الشيخ الحسن بمسائل الرشيد لم يكن موجهاً بها إلى الشيخ الحسن بل إلى العلامة زيد بن عطية - رحمه الله - وكان عمر الشيخ الحسن يوم الإجابة تسع عشر سنة، وكان تصنيفه في الأدب وهو ابن أربع عشرة سنة وفي الكلام /56/ وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات عن ثماني وثلاثين سنة في يوم الاثنين من شوال سنة أربع وثمانين وخمسمائة سنة، وقبره في هجرة سناع تحت قبر القاضي جعفر خارج المشهد من جانب الشرق - رحمه الله - فمولده على هذا في حدود ست وأربعين، قالوا: قدم إلى القاضي بهجة الإسلام حافظ العلوم شحاك الملحدين جعفر بن أحمد - عليه السلام- وهو غلام بذؤابة، والقاضي الرشيد المذكور اختلط بالسلطان حاتم بن أحمد، وامتزج به محمد بن أحمد صنو السلطان لتوغله في الباطنية، فإنه عالمهم وشاعرهم، وأما السلطان فقد سبق ذكر حاله وحال أخيه أسعد، ومن جملة ما قال محمد بن أحمد صنو السلطان في كتابه كتاب التصريح
ديني ودين الرشيد متحد ... ودين أهل العقول والحكم
__________
(1) في (ب): صلباً.

والقاضي الرشيد هو الذي اعتنى للسلطان حاتم بعمارة دار بصنعاء يشبه القاهرة بمصر، ولم يكن في اليمن مثله، وأخربه الإمام أحمد بن سليمان - عليهما السلام- (لما دخل صنعاء، وأخرج حاتماً عنها، ولعل الإمام الناصر - عليه السلام-)(1) ضاهاه بالمعقلي الذي بناه بظفار، فإنه من عجائب البنيان، وفيه يقول الواثق - عليه السلام-:
وما بنت المقاول من(2) ظفار ... كأبنية الفواطم في ظفار(3)
يريد بنا والفواطم هو هذا المعقلي، وهو بناء غريب الشكل تام الصنعة، وما بنت المقاول وهم أقيال حمير في ظفار يحصب، وهو من أنيق البناء لا تفي بوصفه العبارة، والله أعلم.
الحسن بن محمد بن إبراهيم [ - ق ه‍ ]ت
الفقيه العلامة الكامل الحسن بن محمد بن إبراهيم بن محمد (4)بن يوسف بن محمد بن عبيد بن يزيد بن مزهر الحوالي، هو أخو المبارك جد العلامة علي بن أحمد الأكوع - رحمهم الله - كان صاحب علم ومعرفة بالنجوم والحساب طائلة واسعة، وتزوج ذو الشرفين - رحمه الله - أخته بشهارة(5)، وماتت عنده، ثم تزوج بأختها، والله أعلم(6).
الحسن بن محمد النحوي [ - 791 ه‍ ] (7)
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (ب): في.
(3) في (ب): كما بنت الفواطم في ظفار.
(4) في (ب): ين إبراهيم بن محمد بن يوسف.
(5) سقط من (أ).
(6) ووالده محمد بن إبراهيم، كان من أعيان عصره، هاجر من صنعاء إلى شهارة فكان من أعوان ذي الشرفين، وبها توفى، انظر سيرة الأميرين الجليلين 12، 58، 60، وما بعدها.
(7) انظر عن مصادر ترجمته ومؤلفاته الطبقات الكبرى ق3 ج1 ص236 ترجمة 193، وأعلام المؤلفين الزيدية ترجمة 330.

الحسن بن محمد النحوي - رحمه الله تعالى - هو شيخ الزيدية وعالمهم، ومفتي الطوائف وحاكمهم، الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد سابق الدين بن علي بن أحمد بن أسعد بن أبي السعود بن يعيش النحوي الصنعاني اليمني المذحجي العنسي - رحمه الله - علامة تعطو له أعناق التحقيق، عبّادة تلحظ إليه أحداق التوفيق. قال في حقه صاحب الصلة: وأما الفقيه حسن بن محمد النحوي فهو شيخ شيوخ الإسلام، مفتي فرق الأنام، مؤسس المدارس في اليمن، محيي الشرائع والسنن، طبق فضله الآفاق، وانتشر علمه وفاق، ومضت أقضيته وأحكامه في مكة ومصر والعراق، وبلاد الشافعية لا يعاب ولا يعاق، كانت حلقته في فقه آل محمد تبلغ زهاء ثلاثين عالماً ومتعلماً في حلقة واحدة، فشيوخ بلاد مدحج وآنس والمغرب وصنعاء وذمار وحجة والشرف والظاهر وبعض شيوخ الشافعية بحقل يحصب هم درسته وتلامذته وهو شيخهم، وله تصانيف رائقة ومسائل في الفقه لائقة، وأنظار منورة واجتهادات مسطرة، علماء العصر والأوان عاكفون عليها ومواضبون على درسها، وهي ستة مجلدة مفيدة جداً، منها كتاب /57/ في التفسير سماه (التيسير) (1)، ومنها كتاب في علم المعاملة(2)، كان لا يفارق كتبه في أكثر الحالات، وكان يقول: ذكر الصالحين وكراماتهم جلاء للقلوب.
قلت: ومن مصنفاته (التذكرة الفاخرة) (3) كتاب حافل الفوائد(4) كما قال السيد يحيى بن المهدي الحسيني، أظنه مصنف الصلة المذكور، ولعله إنما سقط اسم التذكرة في تعداده لمؤلفات الفقيه حسن، وهي أشهر مصنفاته.
__________
(1) التيسير في التفسير مخطط في (229) ورقة برقم (22) تفسير المكتبة الغربية جامع صنعاء.
(2) لم أجد له نسخة خطية.
(3) التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة، كتاب شهير، منه 17 نسخة في مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير وخمس نسخ في مكتبة جامع شهارة ونسخ كثيرة، انظر كتابنا مصادر التراث في المكتبات الخاصة في اليمن وهو تحت التحقيق.
(4) لعلها: بالفوائد.

حوت هذه الأوراق أسنى المسائلِ ... فبخ لها من بغية للمسائلِ
فيا سائلي عنها إليك فإنها ... تُبين سمات الشيء عند التناضلِ(1)
فلا تغترر(2) بالصخر في كبر حجمها ... فما حجر الياقوت مثل الجنادلِ
أكب عليها كي تنال مفاخراً
... إذا شئت أن تزها(3) بها في المحافلِ
وتعلو على العليا برغم مراغم ... وترقى محلاً فيه كبت المناضل
ففيها من الدر النظيم قلائد ... صنيعة نبراس تقي حُلاحلِ(4)
هو الحسن النحوي من سار ذكره ... وحل من العلياء أعلى المنازلِ
لعمرك ما جاء الزمان بمثله ... بعصرك يا هذا ولا في الأوائلِ
وممن قرض لها الحسن العدوي - رحمه الله - فقال: أنفذ نظام الإعجاز في سلك فرائدها ووسم بحكم التلخيص على أنوف شواردها، وأظهر على رؤوس الأشهاد ستارها، وشيد في دست التدريس منارها، حتى استقلت من التهذيب على أتم(5) قواعدها، فاعجب لها(6) من مشيدة وشائدها، الصدر النبيل والحبر الجليل، المغترف من يم الفقه ومعينه والخاطم لنوادر مسائله بيمينه، شرف الدين وبغية المسترشدين(7) الحسن بن محمد بن الحسن النحوي:
تصنيف نضرتها علماً وأتحفها ... حلماً وصادقها سمئاً فلا ترقُ
بحر خضم وقاموس لمسألة ... في شطه موجات الفقه تختفقُ
نبراس مدرسة فكاك معظلة ... حلاّل مشكلة إن ضاقت النطقُ
في العلم تذكرة من عالم جمعت ... في الشرع ما هو في الآفاق مفترقُ
الأشرف الحسن النحوي حاكمنا ... علامة اليمن الصمصامة اللبقُ
جازاه ربي عن الأقوام مغفرةً ... فإنهم بالتزام الفقه قد وثقوا
صيغت لنا كهلال الأفق مبتلجاً ... إذا دجى من دياجير الدجى غسقُ
إن الشريعة بحر مزبد لجب ... هذي سفينة نوح فيه تخترقُ
__________
(1) في (ب): التفاضل.
(2) في (ب): تغتر.
(3) لعلها: تزهو.
(4) حُلاحل: الْحُلاحل بالضم، السيد الشجاع. (القاموس المحيط ص908).
(5) في (أ): أم.
(6) في (ب): بها.
(7) في (ب): وداعية الشيعة المبرزين.

إلى آخر الأبيات، وسيأتي آخرها [إن شاء الله تعالى](1) في ترجمة محمد بن الحسن المدحجي تلميذ الفقيه حسن(2) وأستاذ العدوي، والعدوي(3) هذا هو صاحب تخميس قصيدة الصفي الحلي وأظنه صاحب (العباب)، وسيأتي ذكره، وذكره(4) غيره من أهل بيته.
قلت: وفيها كتاب (السبق) ليس للفقيه الحسن بل لتلميذه الفقيه يوسف بن أحمد فإنه ألغاه. قال الفقيه يوسف /58/: وقد وضعت فصلاً في ذلك(5)، وعرضته على الفقيه الحسن - رحمه الله تعالى - وقال: من تأليف السيد (……)(6) وللفقيه الحسن - رحمه الله - (تعليق اللمع) (7)، وقد كان رجع عنه كما حكاه الفقيه يوسف.
قلت: لكنه أجازه للفقيه العلامة أحمد بن محمد قرين الإمام الناصر وصاحبه، ولعل هذا رجوع عن الرجوع، فإنهم صرحوا أنه بعد الرجوع، وذكر القاضي العلامة أحمد بن يحيى بن حنش - رحمه الله - أن للفقيه حسن على اللمع تعليقين أحدهما المسمى (بمنتهى الغايات)، وهو الكبير، والآخر يسمى (بالروضة). قال: وله كتاب اختصره من (الانتصار)، وله تعليق الحفيظ(8)، وقد قال(9) بعض شيوخنا - أيده الله -: إنه المرجوع عنه لا تعليق اللمع، وهذا الذي ذكره(10) الفقيه يوسف بن أحمد. وله كتاب (منتهى الآمال في مشكل الأقوال) كتاب لطيف الحجم، لكنه مفيد في بابه.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) في (ب): الحسن.
(3) سقط من (أ): والعدوي.
(4) لعلها: وذكر.
(5) في (ب): وقد وضعت في ذلك فصلاً.
(6) فراغ في (أ) و (ب).
(7) انظر مخطوطاته هامش 5 ج1 ق3 من الطبقات ص 338.
(8) يوجد شرح الحفيظ ليوسف بن محمد الأكوع قال الحبشي مخطوط بمكتبة الإمبروزيانا رقم 73.
(9) . قال. ظ
(10) في (أ): ذكرناه.

وله كرامات، منها ما روى لي الأخ(1) النبيه العارف عبد الله بن محمد بن صلاح السلامي - رحمهم الله جميعاً - قال:كنت أيام قراءتي بصنعاء واقفاً بقرب مشهد النحوي، وإذا قد أقبل الشيخ المتكلم الرباني العلامة أحمد بن عبد الله الغشم، وهذا أحمد بن عبد الله من علماء وقته وأهل الفضل فيه، وهو أعلم من أخيه محمد بن عبد الله الزاهد المشهور، فهو حري بإفراد ترجمة، وتوفي - رحمه الله - في صنعاء المحمية في أفراد أربعين وألف سنة.
قال القاضي عبد الله [فوصل](2): أحمد الغشم إلي، فقال(3): من أنت؟ فأخبرته إني من بني سلامة، فقال: لعلك ابن القاضي محمد بن صلاح، فإنه بلغني أن له هنا ولداً يطلب العلم، قلت: له نعم، فسأل فأين قبر النحوي؟ قلت: هو هذا، فقال: يا ولدي احفظ عني أنه أخبرني فلان العالم الفاضل وسماه(4) أنه خرج إلى هنا، فوقف عند قبر النحوي وقرأ سورة الأنعام، أو قال: الأعراف السهومني قال: فصعد نور مثل الخيمة على قبر النحوي - رحمه الله - واستمر ذلك ساعة طويلة.
__________
(1) في (ب): الأخ الفقيه.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ب): قال القاضي عبد الله: فوصل أحمد الغشم إلي.
(4) عن فلان الفاضل العالم وسماه.

قلت: ومما يعد من كراماته ما وجد بخط السيد العلامة الفاضل بن الحسين بن علي الأخفش الهدوي - رحمه الله - قال: وجد في بعض الكتب بخط أحمد بن محمد بن علوان المدحجي - رحمه الله - ما لفظه: رأيت ورقة لحيّ الفقيه العابد إبراهيم الكينعي - رحمه الله - فيها سمعت أهل المذاهب المختلفة في بيت الله الحرام يبكون، ويتضرعون إلى الله بالدعاء، فداخلني هل الحق معهم؟ فسألت الله عز وجل أن يريني الحق، فإذا بهاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه في جوف الليل، وهو يقول: لا يغرنك بكاؤهم وإن بكوا فالحق مع القاضي الحسن بن محمد النحوي وعصبته، ووجد بخط القاضي(1) صالح بن عمرو الحشبي - رحمه الله - سمعت الفقيه محمد بن علي النهمي يقول: رأيت القاضي الحسن بن محمد النحوي وهو يقرأ هذه الآية: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ..? [التوبة:111] إلى آخر السورة، فلما بلغ ?التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ..? [التوبة:112] /59/ إلى آخر الآية رأى رجلاً يقريهم وهو يقول: هذا والله منهم، انتهى.
وأذكرني ما حكاه الكينعي ما حكاه لي شيخي شيخ آل الرسول إبراهيم بن محمد المؤيدي - أسعده الله - قال: لما حججت إلى بيت الله لم أشعر إلا برجل جليل المقدار من العجم له شارة حسنة، فسألني ما مذهبي، فأخبرته، فقال: يا مولاي، رأيت علي بن الحسين وجماعة من آل محمد أظن أن منهم السبطين هذا ظن مني أنا، قال: رأيت هؤلاء يصلون خلفك فعلمت أن الحق مع طائفتك وطلبت من السيد أن يضع له موضوعاً في الأصول والفروع، ففعل ولبث أياماً وعاوده بكتاب إلى صعدة، انتهى.
__________
(1) في (ب): الفقيه.

قلت: قال السيد يحيى بن المهدي في كتاب الصلة: وكانت أخلاقه شبيهة بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبسط للقريب والبعيد، مجلسه العام الناس فيه (على)(1) سواء، قد وظف وظائفه يجعل في اليوم ثلاثة أوقات للإقراء تامة، وللحكم وقتين لحاجة الناس الماسة إلى أقضيته وأحكامه، وللنسيخ وقتاً يعود به على نفسه وأولاده، وما كان يأكل إلا من كدِّ يده حتى لقي الله، وكان في بصره بعض ضعف، وكان له من الورع الشافي، والزهد في فضلات الدنيا الوافي، ما لا يسعه كاغد(2)، يلبس العبا الخلق والشملة الخلقة، وما يلبس القمصان إلا للتجمل في المجلس العام، وكنت أحضر في بعض الأحيان على غدائه وعشائه فأجده خبزاً براً تارة وشعيراً تارة، وتارة يابس بجريش ملح، ومن ورعه قال لي يوماً ليس لنا غداء، إذا لأضفناك وإن عندي لكيساً مملوءاً دراهم لمسجد الجامع ما ساعدتني نفسي أقترض منه درهماً. وكان مجلسه لا يذكر فيه أحد من المسلمين إلا بخير، ومن ذكر فيه مسلماً بما لا يليق بحاله ظهر الضيق والضجر في وجهه الكريم، وقال يوماً من تعود ترك(3) ظن السوء بالمسلمين سهل عليه الترك. سمعته يوماً يحكى في مجلس الدرس أنه رأى في المنام أن القيامة قامت وأن الناس في قاع صفصف وليس راكب إلا الإمام يحيى بن حمزة راكب على فرس بيضاء ورديفه عليها رجل من المشرق يعرفه صالحاً والإمام يسرع بسير الفرس ويقول (لمثل هذا اليوم حسنا الظن بالناس)(4). وكان أشد الناس مودة لآل محمد وأكثرهم تعظيماً لهم وتوقيراً، سمعته(5) يقول: إذا لم يكن في حلقة قراءتنا(6) من أهل البيت أحداً اعتقدته خداجاً ونقصاً. وكان يمضي أحكامه على وفق مراد الله ، فمن حكم عليه فكأنه من
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) كاغد: الكاغَد: القرطاس، مُعَرَّب. (القاموس المحيط ص298).
(3) في (ب): ترك الغيبة وظن السوء.
(4) ما بين القوسين مكررة في (ب).
(5) في (ب): سمعته يوماً يقول.
(6) في (ب): قراننا.

الرضا بقوله وفعله حكم له، والمحكوم عليه والمحكوم له معترفان بفضله، شاهدان بعدله، وذلك ظاهر مشتهر، وناهيك به من كرامة تروى وآية تتلى، وكانت الفتاوى تفد عليه من اليمن الأعلى والأسفل، ومن تهامة ومن علماء الحنفية والشافعية، ومن عدن وتعز وجبلة؛ لأنه أحاط بفقه الفقهاء، ودرس فيه في زبيد وغيرها على علماء الحديث والفقه، وما علم بمجتهد بعد الإمام يحيى بن حمزة في الفقه إلا هو، فكانت الفتاوى تشغله وتهمه ويجيب عليها /60/ ليلاً لازدحام الأوراد في النهار، ولو أفردت كتاباً بسيطاً مما أعرف من علمه وفضله وزهده وورعه وخوفه وخشوعه وأوراده الصالحة - فضلاً عن غيري - لما أحطت باليسير من سيرته، لكن قد عرض ذكره، ولي فيه غرض، وحقه علي واجب مفترض؛ لأني لم أبلغ التكليف إلا وأنا من جملة درسته، وممن تعلق بمودته وأشرق قلبي بمحبته، فجزاه الله عني وعن كافة المسلمين أفضل الجزاء، وبلغه من رضاه وعفوه قضاء المنى بمحمد المصطفى، وآله أهل الشرف والوفاء، وكانت وفاته - قدس (الله)(1) روحه ونور ضريحه - سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وقبره - رحمه الله - قريب من باب اليمن بصنعاء بالمقبرة المسماة بجربة الروض، اتخذ عليه الشيخ الصالح حسن بن محمد بن سليف مشهداً وتقرب إلى الله بذلك ومشهده مقصود مزور يتوسل إلى الله بقبره في نيل الأمنيات، ودفع البليات، وكتب بيده في لوح على قبره هذه الأبيات الحاكية بحاله في الحال والماضي والمستقبل الفقيه الإمام العالم الفاضل جمال الدين علي بن صالح بن محمد العدوي، وكان من أكمل أهل زمانه في العلم سيما علوم القرآن، فهو سيد أوانه فيها زاهداً عابداً فاضلاً كاملاً - رحمة الله عليه ورضوانه - وهي هذه الأبيات:
أيا زائراً للقبر جدد به العهدا ... ولا ترض عن تكرير زورته بدا
وإن كنت لا تدري بما ضم لحده ... فدونك فاعلم بالذي سكن اللحدا
__________
(1) ساقطة من (ب).

64 / 182
ع
En
A+
A-