هؤلاء الذين لم يسمع بمثلهم في الدنيا ودسيستهم على الملوك، إما بأن يأتوهم في هيئة صناع من الصنع النفيسة الغريبة، وإمَّا في هيئة الغرباء والصوفة، وإما في هيئة /274/ المماليك الذين يباعون فيبيع الواحد منهم أخاه أو ابنه ممن يريد قتله من الملوك، فمنهم من يقتل بسكين تسمَّى الحوصة(1) محكمَة الصنعة طولها من نحو ذراع بمقبضها مسقيَّة مسمومة، ومنهم من يقتل بهيئة(2) على هيئة الإبرة، أو على القطبة الحسكة(3) من الحديد المسمومة، ويقيم الواحد منهم السنين الكثيرة حتى تمكنه الفرصة ممن يريد، ولهم حيل وتدخلٌ على الملوك لا يبلغ إليه أحد سواهم، ولم يعلم بدخولهم اليمن على أحد من الملوك قبل إمامنا إلا أن يكونوا غير قاصدين لأحد، هذا فيما ظهر، والله أعلم.
قال الراوي: والسبب في وصول الحشيشي إلى اليمن أن سلطان اليمن ذلك الأوان وهو يوسف بن عمر بن علي بن رسول لمَّا قام في حرب الإمام كتب إلى الخليفة، وأعلمه بما هو فيه من المدافعة عن مُلك الخليفة، وهو المعتصم بن المستنصر بن الناصر صاحب بغداد كتاباً، وأرسل إليه رسولاً وأموالاً وملابس نفيسة، وعقد له السَّلطة(4) في اليمن وولاَّه من تحت يده، فطال بذلك، فلمَّا كان في أيام طلوع هذا السلطان إلى صنعاء وخروج الإمام عنها وجَّه رسولاً إلى الخليفة يقال له: ابن أبي الفهم، فأمر الخليفة إلى صاحب الموت، فوجَّه إليه بحشيشيين: أحدهما رجل قد طعن في السنِّ أعوَر لعينٌ طويل القامة، جليل المشاس(5)، شيطاناً مريداً، والآخر غلام حدث السن في سن الشباب كامل الخلق، واسم هذا الشيخ فيما حُكي: يوسف بن حسن، زعم أنه من الموصل، والله أعلم.
__________
(1) في (ب): الحوصبة.
(2) في (ب): بهيئات.
(3) الحسك: ما يعمل من الحديد على مثال حسك السعدان، وهو من آلات العسكر (مختار الصحاح ص: 136).
(4) في (ب): السلطنة.
(5) المشاس: لم أجدها في القاموس.
فلمَّا وصل هذا الرسول إلى زبيد كتم السلطان أمر الحشيشيين، واستدعى رسولاً من الإمام وأظهر أنه راغب في الصُّلح، فوجَّه إليه الإمام القاضي التقي المخلص يحيى بن الحسين بن عمَّار من أهل الدين والعلم والحزم والثبات في أموره، وأمرَه أن يدري بأمر السلطان، فإن كان صادقاً كانت المراجعة والعمل على معلوم، وإن كان غير ذلك لم يكن قد ظهر، وهو - عليه السلام - مقيم في حصن حلب(1)، وفي حال ذلك استدعى السلطان للرسول [من عند الإمام](2) [و]وجْه الحشيشيين مع ابن أبي الفهم إلى صنعاء وأمر لهما بالملابس النفيسة والمركوب، ولم يدر أحد بهما، وأظهر أنهما رسولان مشرفان على خزائن الحصون أو نحو ذلك، فلمَّا وصل ابن أبي الفهم إلى صنعاء التقاهم السلطان أحمد بن علوان بن بشر بن حاتم بن أحمد بن عمران بن الفضل اليامي، وهو خلصَة السلطان وبطانته وموضع سرٍّ له وأمانة فأسَّر إليه ابن أبي الفهم الأمر، ووصل السلطان، وظهر من أمرهم أن هذا ابن أبي الفهم وصل بخزانه، وأنه يريد الصلح بين الإمام وبين السلطان، وأن هذين الرجلين شاهدان أو نحو ذلك، وربّما أظهروا أن تسليم حصن كوكبان للإمام وأن يؤخذ عوضه حصن هداد للسلطان، وانتشر الكلام، ومالت خواطر الناس إلى ذلك، واضطرب أشد الناس لذلك /275/ لأمرٍ يرجع(3) إلى نفسه من مكرٍ أو خديعة، وتقدَّم أحمد بن علوان والحشيشيان(4) إلى حصن كوكبان، وأظهروا للوالي تسليم الحصن، فاضطربت أموره، وأظهروا افتقاد الخزائن والشحن(5)، وكاتب ابن علوان الإمام، وأراه الرغبَة من السلطان في الإصلاح، وأظهر أنه يريد الوصول، وأنه يطلب الرفاقة والذمَّة الأكيدة، فلم يبق عند الإمام - عليه السلام - شك في رغبة القوم في الصلح وأن وراءهم
__________
(1) حصن حلب من حصون المصانع وأعمال ثُلأ، وهو خراب (معجم المقحفي ص: 187).
(2) ما بين المعقوفين زيادة في (ب).
(3) في (ب): راجع.
(4) لعله: والحشيشين مفعول معه.
(5) في (ب): والسجن.
أمرٌ أوجب ذلك، فأمر بالذمَّة فلم يلبث أن قدم الشيخ من الحشيشيين ومعه رجل من مولدي الغزّ يقال له: ابن التائه يقال: إنه خدع في صحبَة الحشيشي، والظاهر يحكم عليه بالبغي والعدوان، فوصل الرجلان آخر يوم الخميس، وهو السادس من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وستمائة، فأذن أمير المؤمنين - عليه السلام - بإنصافهما وإكرامهما، واستأذن الرجلان في السلام، فأذن أمير المؤمنين - عليه السلام - لهما، وكان عنده السلطانان الأجلان الناصران شجاع الدين جابر بن أسعد، وأسد الدين محمد بن الوشاح في عصابة من أجواد قومهم قريب من الخمسين، فقيل لأمير المؤمنين في الحزم والحذر من كيد الحشيشية، وكان معه من الأجواد مالم يمكِّن الحشيشي معه أن يثب، فدخل الحشيشي وسلمَّ على الإمام هو وصاحبه والإمام على نهاية الحذر منهما في ذلك الأوان، وخرج هو وصاحبه بعد ساعة، وكان من الغد وهو صبيحة يوم الجمعة، فأظهر الحشيشي أنه مريض، فلمَّا حضر وقت الجمعة خرج أمير المؤمنين إلى موضعٍ في الحصن وصلَّى بالناس صلاة الجمعة، وجاء إليه رجل من أهل ثُلأ، فأشار إليه أن يحزم من الحشيشي، فلم يصدِّق الإمام وخصوصاً بعد ما لم يثب في الليلة التي وصل فيها. ثم إن أحمد بن علوان وصل إلى حصن ثلاء لمَّا علم من المشائخ أهل ثلاء أنهم اضطربوا من شائعَة تسليم حصن كوكبان، وهم في ذلك الأوان محاربون للإمام - عليه السلام - ومباينون له، فطيَّب نفوسهم وهو يقوم، ويقعد، ويتطلع الكائنة من الحشيشي، فلمَّا كان بكرة السبت عند طلوع الشمس حصل الحشيشي وصاحبُه، وأظهر أنه يريد صرم الأمور والوداع والرجوع إلى ابن علوان، وأنه ما وصل إلا شاهداً؛ لأن السلطان قد بلغه أن ابن علوان لا يريد صلحاً بين الإمام وبينه، فأمر الإمام أن يخلى له المكان، فلم يبق مع الإمام إلا ثلاثة، وهم عمدة خواصه: الفقيه العلامة الأوحد نظام الدين خاصّة أمير المؤمنين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الطاهر التقي
داعي أمير المؤمنين محيي الدين معلى بن عبد الله القسي، ثُمَّ البُهلولي، والشيخ الطاهر المخلص تقي الدين خاصَّة أمير المؤمنين عبد الله بن يحيى بن علي الصعدي، وأمر أمير المؤمنين أن تقف على السلاطين ومن معهم في مجلسٍ قريب منه وخدمه وأتباعه كل واقف في موضعه من القصر /276/، فلما دخل الرجلان على الإمام إلى مجلسه وهو على مرتبته التي ينام عليها والمجلس في طوله إلى مقدار خمسة عشر ذراعاً، فلما دخل الرجلان، وكان الإمام في شرقي المجلس وأصحابه في غربيه، فرد السلام وتحدث بحديث غير طائل ولا منظم، ثُمَّ استأذن الإمام وأصحابه أن يلقي إلى الإمام حديثاً سراً فتوهم الكل أن معه حديثاً من السلطان، فدنا من الإمام قليلاً حتَّى بقي بينهما نحو ذراع وبينه وبين أصحابه أذرع، هذا تقدير، ثُمَّ تحدث بحديث كحديث السكران، وقد قيل: إنه أكل ذلك اليوم من الحشيشة التي تسكر بها الصوفية وقطع للإمام، وكلما تحدث معه الإمام أو سامه أمراً احتمل بثيابه فاستنكر الإمام حديثه، ثُمَّ طلب من الإمام أن يكتب له ورقة أمان، وأن يكون يختلف هو وابن أخيه ولم يكن عنده أنه يظفر في كرّته، وأزمع على القيام والوداع على غير طائل ولا ريدة في أمر من الأمور. قصَّة وثبة الحشيشي على الإمام - عليه السلام - قال الراوي: ثُمَّ إن الإمام أشار إلى الفقيه نظام الدين أن يدنو ليحسن في خروج الرجلين بلطف وأدب لما رأى حديثه غير منتظم، وتزلجا عنه، ويخبرهم أن ما حديثه بطائل، فدنا الفقيه نظام الدين من الإمام فشاوره الإمام في أذنه اليسرى وعينه مع الرجل وهو باسط يديه على فخذيه، ثُمَّ إن الفقيه أراد الجواب على الإمام فشاوره مقابلاً لأذنه اليمنى، فعند ذلك ستر ما بين الحشيشي والإمام(1) لحظة، فحصلت له الفرصة فجذب سكيناً حوصبة عظيمة قريباً من عظم ذراع بمقبضها قد كان أعدها في باطن فخذه، ثُمَّ قام في أسرع ما يكون وانحط على الإمام بعد أن
__________
(1) في (ب): وبين الإمام.
رفع يده، وتطاول على قدميه خيفة أن يكون الإمام دافناً لدرع أو نحوه، فأحسَّ به الإمام - عليه السلام - فوثب قائماً في الأرض وفضل عمامته في الأرض فوقعت رجله فيها أو في ناحية الفراش، فسقط على جنبه الأيمن، فوقعت الطعنة في موضع المحجمة من كتفه الأيسر، فمرت نحواً من ثمان أصابع إلى نحو عظم صلبه بعد أن أخذت نيفاً وخمسين طاقاً في العمامة، وطاقات في فوطةٍ جديدة عليه، وثلاث طيارات في عطف سوحه والدراعة وما تحتها، ودنا عدو الله يطعن الثانية فوثب عليه الفقيه العلامة نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري، فقبض على السكين بيده، ووقعت الواعية في الدار، وصرخ الصارخ، وكانت ساعة لم ير الناس مثلها، ولم يشك أحد أن الإمام قد قتل، وقام الإمام وطعنته ترش من خلفه (دماً)(1)، فأحس بالحرائم أنها قد خرجت على الناس فشغله ذلك عما معه، فخرج فردَّهن، وقد كان ابن التائه دخل على الحرائم فقيل: إنه أراد أن يقتل ولد الإمام الصغير المسمى الناصر محمد بن أحمد، وقيل: أراد أن يستجير، والله أعلم.
ثُمَّ قال الإمام أمير المؤمنين لأصحابه: اقتلوا الرجل، واشتغل بستر الحرائم، ودخل الناس على الحشيشي /277/ وقد شدَّ الفقيه العالم يديه وضغطه إلى جدار(2) حتى ما استطاع حراكاً معه، فدخل عليه رجلان من خدم الإمام فضرباه على رأسه بالسَّيف حتى صرعاه، ثم وقع فيه من دخل، وعاب(3) الناس في الدار، فنهب من الدار شيء من الثياب والحرير، وقتل ابن التائه في دار الحريم بغير أمرٍ من الإمام وصرخ(4) الصَّارخ إلى ثُلاء في الحال، فوقع عند المشائخ من ذلك مصيبَة عظيمة، وخاف أحمد بن علوان على نفسه.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (ب): جدر.
(3) لعلها: وعاث.
(4) في (ب): وبلغ.
قال السيد شرف الدين - أيده الله- : وقد أخبرني من لا أتهم أنهم أهموا به عند ذلك، وراح من ساعته، وتفرق المبشرون من المفسدين والمعاندين إلى صنعاء وذي مرمر وغيرهما، وإلى اليمن وإلى بلاد الباطنية بقتل الإمام - عليه السلام - وتفرَّق المبشرون من عند الإمام - عليه السلام - بسلامته، وكانت الوقعة على مضي ساعة ونصف من يوم السبت ثامن ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
قال السيد شرف الدين يحيى بن القاسم - رضي الله عنه -: كنت ذلك اليوم قريباً من قرية نغاش قاصداً إلى الإمام - عليه السلام - ومعي من بني العم جماعة، فلم نشعر حتى لقينا البشير فظننا أنه مبشر بتسليم كوكبان، فبشر بسلامة أمير المؤمنين من الحشيشي، فأقسم بالله لقد ترآى لي عند ذلك ظلمة على الأرض، وأصابنا مالا يعلمه إلا الله، ولم نصدق للإمام بسلامة، وبقينا نقلب الأمر ظاهراً وباطناً هل نقدم، فإن كان الإمام قد قضى عليه فإنه لا يمكنَّا أن ندخل حصن حلب(1)، ولا ندري كيف يكون أو نعود فربّما الإمام سالماً فنندم، فرأينا القدوم، فأخذنا من ساعتنا تلك نثب في الجبل وثباً حتى وصلنا حصن حلب آخر النهار، فاسترَّ بوصولنا أمير المؤمنين ومن معه، وما صدقنا لمولانا الإمام بسلامة حتَّى رأيناه، وسقطنا عليه، ومنَّ الله علينا بمنَةٍ لا توازيها منّة فالحمد لله كثيراً، ثم أخذ أمير المؤمنين في علامات الكتب إلى أقطار البلاد إلى المشرق والمغرب، والظاهر وصعدة والجوف وحصون اليمن وبراش وغير ذلك يعلمهم بما منَّ الله عليهم من سلامة إمامهم وقتل عدوهم ويأمرهم بالشدَّة فإنه سالم، وفي أَجَلِّ نعمة، مع عظم(2) ما كان [فيع] من التعب.
__________
(1) في (ب): خلب.
(2) في (ب): عظيم.
قال السيد شرف الدين - رضي الله عنه -: كنت خشيت أن يكون السكين مسموماً، فأمرت للسكين وتدبَّرتها، فرأيت في فقارها شيئاً لاصقاً رقيقاً كالسندروس، والذي غلب على ظني أنها مسمومة، وقد أخبر بذلك عدَّة من الناس، وإنما دفع الله عن ابن نبيئه، وبيّن للخاص والعام عظيم فضله وبركته، وكنت كثيراً ما أساله - عليه السلام - هل يحس معه في قلبه ألماً أو ضعفاً؟ لأن السمَّ يسري ألمه إلى القلب. فيقول: ما أجد شيئاً من ذلك، فلمَّا مضت ليالٍ على شدة الوجع والألم قطعنا على السلامة من السم، ثم أقبلت القبائل من أطراف الأرض يهنئون بسلامته، ويحمدون الله على ذلك، وهو - صلوات الله عليه - يظهر التجلّد، /278/ ويقوم لكثير من كبار الناس على شدة التعب وسهر الليل، أقام القوم في صنعاء في فرحةٍ وسرور أياَّماً ويكسون وينعمون، ومن أخبر للإمام بسلامَة أهانوه، وكادوا يهلكونه حتى صح لهم أن الله تعالى ردَّ كيدهم، ووصل إليه أخوه أبو المظفر سليمان بن يحيى، بعد أيام وأقام أمير المؤمنين أياماً قريباً من نصف شهر، وخرج يسير إلى جانب الحصن فاسترَّ الناس، وكان يوم سرور وفرح، وإقامة الجراحة مانعة له من صلاة الجمعة قريباً من شهرين، ثم صلى بعد ذلك.
قال السيد شرف الدين - أيده الله -: وقفت معه خمسين يوماً أو قريباً منها ما فارقته ليلاً ولا نهاراً إلا في النادر، وباشرته بنفسي أنا وجماعة من الأبرار، فلم أر أحداً أصبر منه ولا أكثر منه تجلداً، وفي خلال ما هو فيه من التعب لا يترك حاجة لأحد إلا قضاها على أحسن ما يكون، فجزاه الله خيراً، ووصل في خلال ما حدث النوبة المشائخ الأجلاء أهل ثُلاء وتغمَّموا مما جرَى، وهنَّوا بسلامته، وأمروا بالغنم والضيافات، وتألموا، ولم يبق أحد من عيون الناس حتى وصل وهنأ ويشتفي بمقابلته - عليه السلام - وجاءت القصائد من العلماء، فمِمّن قال في ذلك مهنئاً السيد الشريف الأمير المنيف يحيى بن القاسم بن يحيى الحمزي - رحمه الله تعالى -:
عفا بالعقيق ربعه ومآثره ... وأقفر من ربع ببرقاء دائره
وودَّعت سلمى قبل ذاك ولم أكن ... أرى أن ذاك الرَّبع يرفض حاضره
وقد أد منها لاعج لا أرى له ... مكاناً ولا انفك منه أثابره
فلله عيناً من رأى مثل كله ... حجاب على بدرٍ بذلك قاهره
من العابريات(1) الرشوف كأنها ... عكوف على شربٍ دعتها جآذره(2)
لعوب هضيم الكشح يرميك طرفها ... بما اكتنفت تحت الحجاب محاجره
وأخذ على هذا الأسلوب ثم قال:
إلى خير من تهفو الخوافق فوقه ... إذا دلكت عند النزال عساكره
إلى الأفق البهلول خير بني الورى ... وخير مليكٍ حين تبدو بشائره
إلى من به أضحى لدين محمدٍ ... شعار على القطب الشمالي طائره
ومنها:
إليك أمير المؤمنين زففتها ... أساليب كالرَّوض الذي راض ناظره
ومنها:
وكم كربةٍ فرجتها بكتائب ... وقد علقت للموت فيها أظافره
بعزمٍ كحد السيف والسيف دونه ... رددت به الملك الذي أنت قاهره
__________
(1) في (أ): العابرات.
(2) الجآذر جمع الجؤذر بفتح الذال وضمها: ولد البقرة الوحشية (انظر مختار الصحاح ص: 90).
وكتب القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي - رحمه الله - إلى خواص الإمام /279/ فسألهم(1) بأبيات طالعها:
بحق ذمام عهدكمُ وعهدي ... وحرمة صحبتي كيف الإمامُ
ألا كيف الذي تهوى الرواسي ... لدعوته وتنصدع السلامُ
وكيف(2) يد كمثل يمين عيسى ... إذا مسحت أزيل بها السقامُ
ظللت وقد أتاني العلم أخفى ... تردني عبرتي ولها انسجامُ
وبتُّ على الفراش كأنَّ جنبي ... تعرض دون مضجعه السهامُ
يوافيني السُّها(3) فأقول مهلاً ... ترفَّق بي فإني لا أنامُ
أأنسى أنعم المهدي عندي ... فأنكرها إذا يئس الذمامُ
ألا تبَّت يمين فتًى ترامت ... به من أرض بغداد الأكامُ
أراد السُوء بالإسلام كفراً ... وطغياناً فعاجله(4) انتقامُ
كما فعل ابن ملجم في علي ... وأخَّر عن خليفتنا الحمامُ(5)ُ
ومن الناظمين للتهاني الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وكان إذ ذاك أيام سيادته لكنَّه الغرَّة الشادخَة في العترة فقال:
رامُوك والله رام دون ما طلبُوا ... وكيف يُفْرَقُ شمل وهو جامعُهُ
عوائد لك تجري في كفالته ... لا يجبر الله عظماً أنت صادعه
كم قبل ذلك من فتق منيت به ... والله من حيث يخفى عنك راقعه
ضاقت جوانبه واستدَّ مخرجه ... وأنت فيه رحيب الصدر واسعه
رداً إليه وتسليماً لقُدرته ... فيما يحاوله أو ما يدافعُه
ولمَّا وصل هذا الشعر النبيل من هذا الرجل النبيل أمر الإمام من يجوب(6) عليه فقال بعضهم:
أهلاً بطالع ما قد سر طالعه ... طرس(7) من الشرف العالي يطالعُهُ
أهلاً بروضة لفظٍ جاد زخرفها ... (شابوب) صنعة من حلت ضائعه
شَمْلُ المسرَّةِ والسلوان مجتمعٌ ... عندي ومسطور سيف الدين جامعه
__________
(1) في (أ): فساهم.
(2) قبل البيت في (ب): ومنها.
(3) السُّها: كوكب خفي يمتحن الناس به أبصارهم (مختار الصحاح).
(4) في (ب): يعاجله.
(5) الحِما بالكسر: الموت.
(6) لعلها: يجيب.
(7) الطِّرس بالكسر: الصحيفة.
أهدَى لنا طبقاً من كاغدٍ(1) وبه ... من طيب الكلم الممنوع يانعه(2)
يشفي بموقعه مرْأىً ومستمعاً ... كأنما حسن الأفلاك طائعه
قلت: وقد يظهر للإمام المهدي أحمد بن الحسين شعر مع اقتداره عليه.
قال السيد الإمام يحيى بن القاسم: لقد رأيته يقول النظم ويصوغ القريض، ثم يقول: إن الشعر من مظان العتب والانتقاد، ولا أرى بتركه بأساً، أو كما قال في هذا المعنى /280/، وعلى ذكر أبيات المنصور بالله الحسن بن بدرالدين أذكر قصيدة له عذبة، الناشئة بتجارة لله دره ما أرق حاشيته وأعذب ناشيته وهي:
سقيا ورعياً لدارهم ورعى ... إذا سقى الله منزلاً ورعى
يا دار حور العين(3) ما صنعت ... أحبابنا باللَّوى وما صنعا
أرقني بعد بينهم وهنا ... برق على عقر دارهم لمعا
مثل حوانس الرداء ما هجعت(4) ... عيني له موهناً وما هجعا
وأين صنعاء من رغافة أو ... قطابر بعد ذا وذاك معا
أيعلم البرق حال ذي ولع ... صير ملتف قلبه قطعا
أربة الحال ما أرى كلفي ... بكم شفى غلة ولا نجعا
لولاك يا رملة المحجر ما ... رأيت خوطاً(5) من جوهر طبعا
ولا رأينا نخلة قمراً ... وجنح ليل وطفلة جمعا
لي عنك شغل لو تعلمين بما ... أوجبه ربنا وما شرعا
هذا إمام الزمان أحمد بالـ ... حق وأمر الإله قد صدعا
إن قال فالدرُّ لفظ منطقه ... أو صال فالليث حيثما وقعا
الصادق السابق المقابل في الـ ... ـمجد كما قيل في الذي سمعا
الألمعي الذي يظن بك الـ ... ـشيءَ كأن قد رأى وقد سمعا
طاب شمالاً(6) وعنصراً وزكا ... فرعاً وأصلاً فعد ممتنعا
الواهب الجرد في أعنَّتها ... والضارب الهام والطُّلَى(7) جمعا
__________
(1) الكاغد: القرطاس، ومعرَّب (القاموس المحيط ص: 42).
(2) في (ب): قانعة.
(3) لعلها: العيون، ليستقيم الوزن.
(4) الصدر غير موزون.
(5) الخوط: الغصن الناعم.
(6) في (أ): شمائلاً.
(7) الطُّلَى: الأعناق.