عجائب في تجارته من الصِّدق، حتَّى كان يقول للمشتري: انظر في السُّوق لعلَّ فيه أحسن من سلعَتي(1)، قال السيد يحيى: فلمَّا انتهى في التجارة على هذه الصِّفَة المحمودة والسيرة المفقودة، وجمع مع علمه مالاً من حلّه، وعاد به على إخوانه وأهله بقصده الحسن وببركة البيت العتيق الراحض(2) للفقر والمحن، لحظته عين الرَّحمَة من ربّ العباد، وأدركته عناية القرب والوداد، وقرأ كتاب الله بالتدبّر والخشوع، فعند ذلك وجل قلبه، ولبس سرابيل أهل الورع، وخالط أهل الخوف والعبادة، وقلق منه الوضين(3)، واستوحش من كل صديق أمين(4)، حتَّى شرب من عين الحياة شرب الهيم، وراض نفسه حتَّى كأنَّها حبة مقلاة وريشة في فلاة، فشرب بالكأس الرويَّة، وعكف على خدمة مولاه بالجارحَة والروية، سمعتُه يوماً يقول: أنا وقلبي في علاج أريْده لا يدخل إليه شيء /20/ إلا لله تعالى. ولا يخرج منه شيء إلا لله تعالى، قال السيد: ولقد سمعته مراراً يحاسب نفسه فأظن معه رجالاً معه يحاسبونه، قال لي يوماً: لو أعطيت الدنيا بجوانبها ومفاتيح الجنة كلها لما اخترت إلا وقوفي بين يدي الله تعالى(5) ساعة أناجيه فيها، ولا تخرج النفس الأمَّارة إلى النفس اللوَّامَة إلى النفس المطمئنة إلا بعد الرّياضة التَّامّة والمثاغرة(6) القويَّة والمخاصمة(7) العظيمة، والحرب خدعَة، والخير عادة. وكان - رحمه الله - يصوم الأبد إلا العيدين والتشريق، وترك إدام عشائه لئلاَّ يثقله
__________
(1) صلة الإخوان: الفصل الثاني والثالث بتصرف من المؤلف وحذف لبعض العبارات.
(2) الراحض: الغاسل.
(3) الوضين: بِطَانٌ عريضٌ منسوج من سيور أو شعر، أو لا يكون إلا من جلد. (القاموس المحيط ص1141).
(4) المؤلف ينتقي من عبارات صلة الإخوان هنا، ويختصر الكثير، وينتقل من فصل إلى آخر مقتطفاً.
(5) كلمة تعالى محذوفة من (أ) في مواضع كثيرة.
(6) في الصلة: المثاغرة، وفي النسخ المشاعرة.
(7) في الصلة: والمجاشمة.

عن القيام، ثم قال: كان يؤخِّر العشاء حتَّى قال: كم من ليلةٍ أسابق الفجر على عشائي، فتارة أسبقه، وتارة يسبقني، وكان إذا جاءه العشاء مأدوماً تركه وآثر به بعض إخوانه. وقال يوماً لتلميذه: إذا دخل عليك فقير فأعطه شيئاً، وإذا دخل عليك عالم فراجعه في المسائل، وإذا دخل عليك من أبناء الدُّنيا فاحتشمه، وعظمه(1)، واضرب له الأمثال. وكان إذا دخل عليه أحد من إخوانه أقعده على مصلاَّه ووقف بين يديه مطرقاً لعلَّها تطرق سمعَه كلمة حكمة، وكان كلامه - رحمه الله - نافعاً، فمن كلامه: (ليس الزاهد من لا يملك شيئاً، إنما الزاهد من لا يملكه شيء)، ومن كلامه - رضي الله عنه -: (بالفقر والإقتار والذُّل والإنكسار تحيا قلوب العارفين)، ومن كلامه - رضي الله عنه -: (يا أخي، جدّد السفينة فإن البحر عميق، وأكثر الزاد فإن الطريق بعيد، وأخلص العمل فإن الناقد بصير)، ومن شعره ما كتبه في ضمن كتاب إلى تلميذه السيد يحيى المؤلف لسيرته الذي عنه هذا النقل، وكتابه إليه من مكَّة من جُملته: (سلام عليك من قلب مشغول ومن نفسٍ معلول، أحوالي جميلة فوق ما تظنه من سكون قلب وقرار ودعة، وما طعمت لذّة الحياة إلا في مجاورتي هذه المباركة، حالي في مكة كبعض الزيالع ما بيني وبين أحد معرفة، ومن عرفني قطعته إلا هذا السيّد محمّد وإخوانه، وهم قوم عجم انتفع بهم، ولا يضرونني بشيء ، والنفس متطلعة إلى قدُومك إلى هذا البيت [الشريف](2)، وتزور جدَّك - صلى الله عليه وآله وسلم - [وعليكم أجمعين](3)، وقد صدر لك مَحبَى(4) من السيد وكوفية ومسبحة وسجَّادة.
إن كنت تسمع ما أقول وتعقلُ ... فارحل بنفسك قبل أن تك ترحلُ
ودع التشاغل بالذنوب وخلها ... حتَّى متى وإلَى متى تتعلَّلُ
تلهو وعمرُك يضمحل وينقضي ... والظَّهر منك بما قضيت(5) مثقلُ
__________
(1) في (ب): وعظه.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).
(4) مجبى: أي عطاءً.
(5) في (ب): كسبت.

كن كالذي حذر البيات فلَم يزل ... في ظلمة اللَّيل الطويل يقلقلُ
يدعُو الإله بذلةٍ وتملق ... وإليه ممَّا قد جنى يتنصَّلُ
فغداً يقوم من الحفيرة آمِناً ... يعلو النحيب ووجهه يتهلل(1)
إن كان جاهي أخلقته خطيئتي ... فبجاه أحمد راغباً أتوسّلُ
يُدنيك منَّا عن قريب عاجلٍ ... والله يستر أمرنا ويجمِّل
واعلم يا أخي أن ذكر الله منك من علامة ذكره لك فاستكثر منه، وأن اكتسابك الطاعة من علامة التوفيق فاستكثر منها، ووقوعك في الغفلة وكسب الذنوب علامة الخذلان فاجتنبها، والزّهد في الدنيا ممَّا يريح قلبك وبدنك فاطلبه، والتوكل على الله شرف الدُّنيا والآخرة فالزمْه، والموت آت غير فائت فالزم ذكره(2)، والدّنيا حانوت الشيطان فاخرج منها، والناس فتنة فالزم الخلوة(3)، ويا ليتك يا يحيى تأخذ معنا ممَّا أنعمَ الله علينا من برد اليقين وقرار الدِّعة ولذّة العيش وصفوة النعم من البارئ - جلَّ وعز - ثم ساق - رحمه الله - في الكتاب بعد هذا كلاماً نافعاً. ومن شعره - قدَّس الله روحه - وأعاد من بركاته من (4) المناجاة:
ببابك عبدٌ واقف متضرّع ... مقلّ فقير سائل متطلّعُ
حزينٌ كئيبٌ من جلالك مُطرق ... ذليل عليلٌ قلبُه متقطعُ
أنا الضَّارع المسْكين ممدُودة يديّ ... إليك فمالي في سوائك مطمعُ
أعنِّي أعني(5) من علاك بنظرَة ... إليَّ فقَلبي مستهام مفجعُ
فؤادي محزُون ونومي مشرَّد ... ودمعي مسفوح وقلبي مرَوعُ
فلا تبلني بالبُعد منك فإنَّه ... أشدُّ بلاء الخائفين وأوجعُ
إذا رجع القصَّاد منك بسُؤلهم ... فيا ليت شعري كيف عبدك يرجعُ
__________
(1) في (أ): يتهلهل.
(2) في صلة الإخوان: فأدم ذكره.
(3) في (ب): وفي صلة الإخوان: فافزع إلى الخلوة.
(4) في (ب): في المناجاة.
(5) في صلة الإخوان: أغثني أغثني.

وكان له رضوان الله عليه أدعية للحوادث والسَّاعَات محلها سيرته، فهيَ جامعَة للكثير الطيب. وكان في أوَّل أمره يغشى عليه، وتوجعه الغشاوة، وكان يخاف عليه التلف، لا سيما في المحل الأوعر والأموَاء(1)، وكثرت عليه الغشاوة حتَّى كانت تأتيه الفينة بعد الفينة، وحكى السيد عماد الدين أنه في آخر الأمر كان يغشى عقيب الصلاة ساعة أو ساعتين، وربَّما اتصَلت الغشاوة من الصلاة إلى الصلاة، ولكنَّه قال: لا يجد لذلك ألماً، وإن كان لا يستطيع لذلك حركة عضو ولو بالغ أشدَّ المبالغة، لكنَّه قال: عقلي معي بحيث إنه لا ينقض وضوئي ذلك الإغماء - رحمه الله تعالى - وكان له كرامات واستقصاؤها يخرجنا عن المقصود، إلاَّ أنا نذكر منها بركة أوقاته، وملكته لنفسه بحيث أنه لا يُمكن أن يخطر بالبال شيء من الأفعال والتروك الشرعية إلا وقد أجهد نفسه في موافقة أمر الشارع، وكان تلاوته كل يوم لختمتين كاملتين، وفي رمضان لثلاث ختم مع تسبيح وأذكار وفكر وغشاوات، ومع هذا فكان يشارك إمام وقته النَّاصر - عليه السلام - /22/ في غزو أعداء الله الباطنية وغيرهم، وكانوا يعدونه في سفرهم حرزاً - رضي الله عنه - ومن كراماته الاستسقاء بدُعائه على الاستمرار وما يعلم أنه يخلف، ومنها تأييد الله له بألطافه في حالاته، فكان لا يأكل إلا حلالاً، واجتمع بحصن المصاقرة(2) هو وأستاذه العبَّادة الحسن بن سلمان وجماعة من إخوانهما الأصفياء، فحضرت عصيدة فعوَّلوا على إبراهيم في الإفطار معهم فأسعدهم فمدَّ يده فلم تمتد، وكأنها عود يابس، فقال: قد ترجح لي الصيام، ثم بحث عن العصيدة فوجدها لوالٍ كان حاضراً يحرم عليه النزول على أولئك، وله نظير هذا في جهة الحيمة، ومنها الرؤيا الصَّالحة من الصَّالحين، فمنها الرؤيا الآتية - إن شاء الله - في ترجمة ابن هشيم، ومنها رؤيا العبد الصَّالح
__________
(1) الأمواء:
(2) حصن المصاقرة كذا في النسخ، وفي صلة الإخوان: حصن المصاقر ببلاد مذحج.

الطاهر بن أحمد عمر البحار الضمان(1)، أنه رأى بعد موت إبراهيم الكينعي الجنة وما وعد الله المتقين فيها من أنهار وقصور وثمار، ورأى منازل الأنبياء والصالحين، ورأى منزلة عالية قيل له: هذه منزلة إبراهيم بن أدهم، ثم رأى قصوراً عالية وأنهاراً جارية، ورأى فيها شيخه إبراهيم الكينعي وهي أعلى من منزلة إبراهيم بن أدهم، فقال: سبحان الله منزلة إبراهيم الكينعي فوق منزلة إبراهيم بن أدهم، فقال له قائل: لولا أنَّ منازل الأنبياء لا يحلها أحد من الآدميين لكان بها إبراهيم الكينعي، ومرَّ بين يديه تلميذه العارف عبد الله بن قاسم البشاري على كتاب (عوارف المعارف) فقال لشيخه إبراهيم: هل تسرّنا بكرامة لك لتشرح صدورنا؟ فقال: ما لي كرامَة إلا أني إذا أردت أمراً أو سفراً، وسألت الله الخيرة سمعت شخصاً يقول: افعل، أو لا تفعل، ومقامه - رضي الله عنه - شهير لا حاجة بنا إلى التطويل. وقد ترجَم له من سبق ذكره وترجَم له السيِّد العارف بالله النازل بِحَرم الله محمد بن علي التجيبي الحسيني البخاري - رحمه الله -. وكانت وفاته - رحمه الله - بصعدة المحروسة. قال السيِّد الكبير الخطير الهادي بن إبراهيم الوزير - عادت بركاته: أعلم وفقك الله أنه لمَّا وصل من جوار البيت العتيق، وقد وقف به ثلاث سنين ابتدأه المرض بحَلْى(2) ورفيقه العبد الصَّالح التقي العابد صبيح مولى آل ريدان، ولمَّا وصل إلى ناحية جازان شكا أهل الجهات تلك الجدب والعطش فدعا لهم ولسائر أهل البلدان فحصل ببركته ذلك المطر العظيم الذي عمَّ البلدان كلها يوم الأربعاء في شهر ربيع الأوّل، هكذا حكاه صبيح - رحمه الله -
__________
(1) في (ب): الطاهر أحمد بن عمر النجار الصنعاني. وفي صلة الإخوان: أحمد بن عمرو البخاري الصنعاني.
(2) حَلْى: بفتح الحاء وسكون اللازم، بلدة تهامية على شط البحر الأحمر في جنوب القنفذة، ويقال لها: حلى بن يعقوب. (معجم البلدان والقبائل اليمنية للمقحفي ص: 189).

فلمَّا وصل قريباً من صعدة، قال لصبيح: إني رأيت لعشرة من إخواني الجنة، وأمرت أن أبشرهم، فقال صبيح: من هم؟ فقال: السيد محمد بن حسن بن ثافي، والسيد قاسم بن أحمد /23/ القاسمي، والقاضي محمد بن حمزة، والفقيه أحمد بن يحيى الشرفي، والفقيه محمد بن صالح، والفقيه أحمد بن موسى بن درين، والفقيه علي بن جعفر الزوام، وأخوه سليمان بن جعفر، والفقيه سليمان الزعيتري، وأنت يا صبيح بن عبد الله.
قال السيد الهادي في هذا الكتاب الذي ذكرناه وهو إلى السيد يحيى بن المهدي: ولما توفي - رحمه الله تعالى - خرج أهل صعدة كافَّة العلماء والسادة والفضلاء والأمراء، وكان ذلك بُكرَة نهار الأربعاء سابع وعشرين من ربيع الأوَّل سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وفي يوم موته أكسفت الشمس، وتقدَّم السيِّد داود بن يحيى بن الحسين فصلى عليه، وهذا السيد هو الذي أوصَى إليه(1) الإمام المهدي علي بن محمد أنه يتولى الصلاة عليه، وقُبر رأس الميْدان غربي مدينة صعدة [وعمر عليه صبيح مشهداً] (2)، ووقف صبيح بعده أياماً ثم توفي، ودفن بمشهد الفقيه - رحمهم الله تعالى - قال السيِّد الهادي: ثُمَّ إني أنشأت أبياتاً رُسمت في حَجَر ضريحه:
يا زائر القبر فيه بهجة الزَّمن ... العابد الصدر نور الشام واليَمن
هذا(3) الذي صَحِبَ الدُّنيا بلا شَجنٍ ... فيها وكان بدار الخلد ذا شجن
هذا نظير أويس في عبادَته ... قدكان والقرني المشهور في قرَنِ
وكان كالحسن البصري في ورَعٍ ... وفي علوم هدًى تُعزَى إلى الحسن
إذا تضمخ محزون بتربته ... زالت عن القلب منه لوعة الحزن
__________
(1) في (ب): سقط إليه.
(2) في (ب): عمر عليه صبيح مشهداً، وهو هنالك مشهورٌ.
(3) في (أ): هو.

قال السيد الهادي - رحمه الله - للسيد يحيى: وأمَّا ذكرك من أَلْحده فهو الفقيه الفاضل يعقوب بن هبة الفاقي(1) وهو رجل من حَمَلة كتاب(2) الله العزيز، له تقوى ودين ويقين متين، أخبرني أنَّه لمَّا كشف وجهَه في لحده وجَد وجهه كأنه قطعة النور أو السراج المستنير شيئاً لم يُرَ في ميتٍ قبله - رحمه الله تعالى - ورثاه السيِّد الهادي بهذه القصيدة - رحمهم الله أجمعين -:
شجر الكرَامَة والسَّعادَة أينعي ... للقاء سيِّدنا الإمام الكينعي
وتزَّيني دار النَّعيم لِوَافِدٍ ... وافاك بالعمَل الزّكي المقنع
خَطب المليحَة فاستجاد صداقها ... بتزهُّدٍ وتعبّدٍ وتورع
لاحت له الدُّنيا تُريد خدَاعَه ... لكنَّه بغرورها لَم يخدَع
وتحسنت بزخارفٍ لوصَالهِ ... فأَبَى وطلَّقها طلاق مودِّع
قالت له: مالي أراك مولِّيا ... عنِّي وقد طابت مراعي مرتعي
وأنا المعجلة(3) المزيّنة التي ... تهوَى العقول لمنظري ولمسمَعي
فأجابَها أنت المليحَة برقعاً ... والشين كل الشين تحت البُرقعِ
أنت التي(4) فتنت عقول عبيدها ... جهلاً ويعرفها الذَّكي الألمعي
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً أفٍّ لها من مَربعِ(5)
وقراره الأحزَان والأوجَال والأو ... جاع والأشجان والمتوجع(6)ِ
أين الذين خدعتهم بحلاوةٍ ... وطلاوَةٍ ومصانعٍ وتصنعِ
ومَحافلٍ محشودةٍ ومنازِلٍ(7) ... مَعمُورة ومعَاقِلٍ وتمنَّعِ
كانوا مُلوْكاً فيك ثمت أصبحوا ... تحت الثرى في كل قبر(8) بَلقعِ
شربوا بكأس مرَّة ما دونها ... من مَلجإِ أبداً ولا مِن مَدفعِ
__________
(1) في الصلة: يعقوب بن هبة القلوة.
(2) في (ب): من حملة أهل الكتاب العزيز.
(3) في (أ): المعلجة.
(4) في (أ): الذي.
(5) في الصلة: مرتع.
(6) في الصلة: وقرارة الأحزان والأوجال والأفزاع والأوجاع والمتوجع.
(7) في الصلة: وجحافل محشودة ومجادل.
(8) في نسخة من الصلة: قفر.

أتغرّني دارُ الفناء بزينَةٍ ... مقطوعَةٍ في ظلها المتقطعِ
هَيهَات ذاك وقَد سمعت صفاتها ... بكلام مولانا البطين الأنزعِ
هذَا جَوابُ الكينعي وإنَّه ... بلسان حال أخِي العفاف الأورعِ
العالم العلم التقي الفاضِل ... المتنفل المتبتل المتطوع(1)
العابد المتزهِّد المتجرد المتجه ... ـد(2) المتسجّد المتركع
ما زال بين عبَادةٍ وزهَادةٍ ... وتلاوَةٍ وتخضُّه وتخشُّعِ
كانَت إذا قرَعت مسَامِع أذنهِ ... عظة يود بأنها لم تقرعِ
إذ كان من خوف يموت بجسمه ... والقلب منه في المحَلّ الأرفعِ
وإذا ذكرت الله جَلَّ جلالُه ... أسقى بهاء خدوده بالأدمعٍ
فكأنما وقفَت به أفكاره ... فوق الجحيم وفي الجنَان الأربعِ
فيذوب مِن وجَلٍ ويَهفو قلبه ... بالشوق بين تخوُّفٍ وتطمُّعِ
كان الظلام إذا سَجى أبصَرته ... كالقَوس بين تسجّد وترَكعِ
حيناً وقام إلى الصلاة وساعَة ... وجثا جَثو السَّائل المتضرِّعِ
وَيُسَرُّ لو أن يستطيل له الدُّجى ... ويسُوؤُه في الفجر قرب المطلعِ
وإذا رَأيت رَأيت أصفَر خاشعاً ... كمقَدَّم للقتل بين الأقطعِ(3)
قد ماتَ إلاَّ أنَّ في أعضَائِه ... حركات حيِّ القلب واعي المسمعِ
متبَلّداً في أمْرِ دنياه وَفي ... أخرَاهُ يَا لَك مِن ذكيٍّ لوْذعي(4)
عبد(5) الصلاة وسيِّد السَّادَات في ... فَضْلٍ وفي كرَمٍ ومجْدٍ أرفع
وأخو مرَقَّعَةٍ أحبُّ إليهِ مِنْ ... إكليل قيصَر في الملوك وتبع
حفظ الحديث مِنَ الوَصيِّ وقولَه ... رقَّعتُ واستَحيَيْت من مترقعِ
وتراهُ مِن صَومٍ كأَنَّ عظامَهُ ... قطع الأخِلَّة آذنت بتقطعِ
وأضالعٍ دقت لدقة فكره ... والفضْل أجمَع تحت تلك الأضلعِ
__________
(1) في (ب): المتوضع.
(2) لعلها: المتهجِّد.
(3) في الصلة: فوق الأنطع.
(4) لوذعي: اللوذعيّ: الخفيف الذكي، الظريف الذهن، الحديد الفؤاد، واللسن الفصيح، كأنه يلذع بالنار من ذكائه. (القاموس المحيط ص702).
(5) لعلها: عند.

يأيها القَبْرُ الَّذي في صعدة ... لأجلِّ مقبور به ومودعِ
أعلمت أنك روضة مخضرة ... مفترة في زهرها المتضوع(1)
بالمودع الملحود فيك ويا له ... من مودع بك ياله من مودع
فيك الزَّهادة والعبادَة كلّها ... والعلم والورع الشحيح بأجمَعِ
تاللَّهِ إنّك قد جمعتَ من التقى ... وعبادة الرَّحمنِ مَا لم يجمَعِ
كُن مضجَعاً لفتىً مضت ليلاته ... متجانفاً(2) عن طيبات المضجَعِ
يا يَوم إبراهيم كُل مفجَّعٍ ... بسوَاك في التحقيق غير مفجَّعِ
مِن أين مِثل أبي السَّعادَة في الورى ... يهْدِي إلى نهج الْهُداة الأوْسَعِ
إن العبادة بعده محزُونَة ... محرَابُهَا يبكي بأغْزَر مَدْمَعِ
وكذَا التلاوة والذين أفدتهم ... منهاج فضلك يا لهُ من مهْيَعِ(3)
يحيَى الَّذي يحيَا الْهُدى بحيَاتِهِ ... أعني رضيع هُدَاك أزكى مرضعِ
ما زَال مقطوع الفؤاد موَلعاً ... رغباً لمقطوع الفؤاد مُوَلِّعِ
يبكي عليك بقلبه وبعينهِ ... جزعاً ومن هذا الذي لم يجزعِ
لكن تجرَّع من فراقك غُصَّة ... هي عنده سلسَاله المتجرعِ
قد قال إذ عذلوه من برحائه ... ودموعُه كاللؤلؤ المتقطعِ
ليسَت دمُوعي هَذِه بمَدامعٍ ... لكنَّها كَلِمُ الخطيب المصقعِ
كانت فرائد لؤلؤٍ من وَعظهِ ... في مسمَعي فتحدَّرت من مدمَعي
قد كان واعظي الخطيب ولم يكن ... في جمعَةٍ أبداً ولا في مجمَعِ
لكن بأوقات السَّعَادَة كانَ لي ... فيهَا محاسِن وعظه المتفرعِ
ومنَ البَليَّة غِيْبَتي عن قَبْرهِ ... في صَعْدَةٍ قد كانَ يوم تجمع
خرجُوا بهِ في صُبح يومٍ أكسَفت ... شمس النهار بهِ لأمْرٍ مفضِعِ
يا ليت أني كنت حاضرِ موتهِ ... فأكُونُ بينَ مودّعٍ ومشيعِ
وأكونُ من حمَّالة النعش الذي ... حمَلته أجنحَة الكرام الرّكعِ
__________
(1) في (ب): المتقطع أو المتنوع.
(2) متجانفاً: تجانف: تمايل. (القاموس المحيط ص 736).
(3) المهيع: الطريق.

أصرَيع آيات الوعيد إذا تلا التَّـ ... ـالي وردَّد(1) منطق المترجعِ
وطبيب أسْقام الذنوب وراهم الأقراح من نغل الفؤاد الموجعِ
[مَنِ تصْرَعُ الآيات بعدك خشية ... هيهَات بعدَك ما لها من مصرعِ](2)
ومَن المداوي ذي القلوب إذا شكت ... رين الذنوب وشرب سمّ منقعِ
يا نفس إبراهيم أنت كريمة ... في داره بدعائه لمَّا دُعِي
أنت المرادة عند ربّك فاسمعي ... بالمطمئنَّة حين قال لك(3) ارجعي
صَلَّى عليك الله نفساً أزلفت ... في الخلد في غرف القصور الرَّفعِ(4)
قال السيد الهادي بن إبراهيم بن الوزير: لكل بيتين(5) عارفة من جزاءٍ، وعارفتي في هذه الأبيات على الله. انتهى
إبراهيم بن أحمد بن علي الأكوع [ - ق 7](6)
__________
(1) في الصلة: ورجَّع.
(2) البيت ليس في صلة الإخوان، وفيها بيت آخر وهو:
وطبيب أسقام الذنوب ومرهم الـ أفراح من ثفل الفؤاد الموجع
(3) في الصلة: لها.
(4) لعلها: الرُّفع.
(5) في (ب): لكل تأبين عارفه.
(6) من مصادر ترجمته أيضاً طبقات الزيدية الكبرى (تحت الطبع) ترجمة رقم 14 قال إبراهيم بن علي بن الحسن بن أحمد الأكوع، ويقال: إبراهيم بن أحمد بن علي، والأول أشهر، أخذ على عمه أحمد بن محمد الأكوع (شعلة) قال: مما سمع عليه (المجموع) لزيد بن علي و (أمالي أحمد بن عيسى) و (حديقة الحكمة) وكتاب (الشهاب) للقضاعي، وكتاب أنساب الطالبية، قراءة وإجازة ومناولة وغير ذلك، وأخذ عنه الإمام المطهر بن يحيى، والسيد محمد بن المرتضى الحسيني، أخذا عنه كتاب الأنساب، قلت: وعن الطبقات ومطلع البدور ترجم له السيد القاسمي في الجواهر المضيئة والأكوع في أعلام الأكوع ص 26 وفي هجره.

5 / 182
ع
En
A+
A-