علامة الشيعة الفقيه الرباني الراجح أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري - رحمه الله تعالى - حافظ السنن الماضي على أقوم سنن، شيخ الإسلام - رضي الله عنه - كان له من العناية بإحياء الملَّة بعد موت ابني الهادي إلى الحق - عليهم السلام - أضعاف ما كان في حياتهم، وكان أحمد بن موسى من الطبريين القادمين إلى اليمن، فقتل في سبيل الله منهم من قتل، ورجع منهم إلى طبرستان من رجع بعد سقوط فرض الجهاد لفقد سادات الأمَّة في ذلك العصر من الأئمة - عليهم السلام - وكان أحمد بن موسى أراد الرجوع إلى طبرستان مع من رجع، وذلك بعد أن ساء ظنه بشيء من أمور اليمن، فهمَّ بالرجوع فهبط إلى تهامة يريد الاستعانة على سفره بنائل سلطان زبيد الحسين بن سلامة مولى المظفر بن علي بن زياد، وكان جليل القدر وصنوه شعيب كان نائبه بعدن، وكان الكلاعي الآتي ذكره - إن شاء الله - من كتَّابه، فلمَّا قدم زبيد أمسى بدارٍ من دور ناحيتها(1)، فرأى في نومه الهادي إلى الحق قد وقف عليه وقال: يا أبا الحسين، تخرج وتترك التعليم لأصول دين الله في اليمن، اتق الله ودع عنك هذا، فكرَّ راجعاً إلى صنعاء وصعدة وأعمالهما، ولم يتفق بملك زبيد لإضرابه عن السفر.
قال - رحمه الله -: فلما رجعت فكرت في الإقامة باليمن فرأيت أربعة: أسد، وذئب، وثعلب، وشاة، فتفكرت في أثبتهم، فوجدته الأسد، فكان أحبهم إليَّ فنزلت صنعاء، وجاورت ابن الضحاك فقال لي: ادع إلى مذهبك، وأظهر حبَّ أهل بيت نبيئك صلى الله عليه وعليهم، وتكلَّم بما تريد /204/، ولا تخف من هذه العامّة فدخل جامع صنعاء، وتكلم، ودعا إلى مذهب الهادي إلى الحق فاستجيب له، ولم يلبث أن صار له حزب وشيعة، فصلى بهم في المسجد، ولأبي الحسين المذكور أخبار وغرائب.
وله محاسن بعدن وصنعاء تدُل على تيقظ كامل ونباهة لا يلحق(2).
__________
(1) في (ب): أمسى بدارٍ من دورها ومن دور ناحيتها.
(2) لعلها: لا تلحق.

ومن ملح أخباره - رضي الله عنه - أنه كان له جار من اليهود بصنعاء، وكان داره - رحمه الله - بقرب من مسجده بالسَّائلة عند سمرة غربي صنعاء، وكان سطح الدار لذلك اليهودي، وكان لأبي الحسين منزل تحت ذلك السطح، وكان فيه خرق يتغوّط فيه اليهودي، ويبول هو وأولاده، فأضرَّ ذلك بأبي الحسين، وعسر عليه التحول في ذلك الحال، فأمر من فعل له في ذلك الخرق كهيئة القصب وجعل بعضها فوق بعض إلى ذلك الفتح المفتوح، ثم أمر بها فجصصت وأحكمت، فكان يقع ما يتغوطونه في ذلك القصب، فاتفق أن أبا الحسين - رحمه الله - مرض فدخل جيرانه وأصحابه يعودونه، وكان اليهودي المذكور ممن دخل ، فرأوا ذلك القصب فأنكروه، فسألوه عن ذلك، فقال: ما هو إلاَّ خير، كان هناك خرق فربَّما مر به صبي فيكون فيه شيء، فلمَّا سمع ذلك اليهودي فكر في نفسه وقال: ما هذا الاصطبار إلا عن دين صحيح، وما هذه إلا أخلاق الأنبياء، وآلُ الله، فأسلم، وحسن إسلامه - رحمه الله -.
وهذه القصَّة قد اتفق نظيرها لشيخ الشيعة إمام الشيعة بالعراق محمد بن منصور المرادي صاحب القاسم - عليه السلام - مع جارٍ مجوسي بالكوفة على هذه الصفة وأسلم المجوسي، حكى هذه القصة عن محمد بن منصور السيِّد أبو العبَّاس أحمد بن إبراهيم الحسني في كتابه في الرد على (ناجل) الخلاف بين القاسم ويحيى وبين الناصر للحق - عليهم السلام - وقد اتفق مثله لأبي حنيفة - رحمه الله - وما ذاك إلا أن المعلم والأستاذ واحد، وهو المبعوث لتمام مكارم الأخلاق - صلوات الله عليه وعلى آله -.

ومن عجائب الاتفاق والشيء بالشيء يُذكر ما حكي عن ابن أبي عباد التميمي وزير الأمير أبي العتاهية عبد الله بن بشير بن طريف صاحب الهادي إلى الحق - عليه السلام - وهو في طبقة عالية في الفضل حري بإفراد ترجمة، فإنه من كبار الأمراء وعظماء السلاطين، وكانت تحت يده مملكة، وهو المستدعي للهادي إلى اليمن، ونسك وأذاب شحمه، وقلل لحمه بالصوم، وكان يقول: اذهب الشحم واللحم النابتين من السحت، فما زال كذلك مصابراً مجاهداً محتسباً خاشع القلب، مكافحاً لأعداء الله، متعرضاً(1) لنفسه لطلب الشهادة حتى ختم الله بها، وأعطاه طلبته، وقصَّة ابن أبي عباد معه أنه خلا مجلس أبي العتاهية يوماً من الغلمان، وقد اشتد عطشه واشتاق إلى الماء وطلبه فقام الوزير إلى البرادة فأتاه بكوز من ماءٍ، فلما دنا منه أمسكه في يده ولم يناوله إياه، ثم قال: سألتك بالله أيَّها الأمير لو منعت هذه الشربة /205/ بِمَ كنت تشتريها؟ قال: بنصف مملكتي هذه، فسكت ثُمَّ ناوله وقال: اشرب يهنا، فلما فرغ أخذ منه الكوز، وقال: سألتك بالله لو حبست في جسدك هذه الشربة فحصرت فيه بِمَ كنت تشتري خروجها من بدنك؟ قال: بالنصف الثاني من المملكة، فقال: أصلح الله الأمير مملكة لا تساوي إلا شربة من ماء، ما هي من شيء، فانتبه الأمير وقال: لا شيء، ويحك: فما نصنع، وكيف السلامة مع ما نحن فيه، وكيف الخلاص منه؟ فقال: تبعث إلى شريف فاضل قد بلغنا خبره من آل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينزل بنواحي الرس وأعمال المدينة، يقال له: يحيى بن الحسين، فلعل الله ينجيك به وعلى يديه، فاستدعاه من الحجاز، وأعطاه مملكته بصنعاء، وقد ذكر الشريف علي بن محمد بن عبيد الله العلوي العباسي ما يدل على فضل هذا الوزير بهذه القصة، اتفقت بصفتها مع محمد بن أبي السماك مع الرشيد.
__________
(1) لعلها: معرضاً.

وكان هذا الشيخ أبو الحسين - رضي الله عنه - بمقام الوراثة النبوية حقاً، فإن أخلاقه ودعاءه إلى الله من العجائب على صنوف شتى، وسنذكر من ذلك طرفاً، فمن ذلك مناظرته للنَقوي عبد الله بن كليب أو ابنه سلمة في القَدَرِ، فإنه لما أحصر النقوي تفل بوجه أبي الحسين، بعد أن ظهر للعامة إحصار النَّقَوِي، ولم يبق إلا الجهالة، فلاذ بها، فبزق إلى وجهه، فضحك أبو الحسين وقال: أجمعت العلماء أن الريق طاهر.
وحكي أنه كان بناحية أثر من الخشب رجل تاب على يده - رحمه الله - وكان عامياً جاهلاً، فمكث أبو الحسين يداريه، ويرفق به لئلا يظهر له من أمر الدين شيء يشق عليه، فيرجع على عقبيه، ويعصي ربه، فاتفق أنه أصاب الناس مجاعة عمت الناس، وكان الخشبي المذكور من أهل النعم والثروة، فرزق الله أهل جهته ثمرة صالحة وزراعة ثقيلة راحت بها حالهم والناس في الشدة، فأتى هذا الرجل أبا الحسين وقد رأى غلاء الطعام وقد غلبه شح النفس وثقل عليه إخراج زكاة البر من البر، فقال: يا أبا الحسين هل تكون زكاة البر من الشعير؟ ففطن أبو الحسين فقال: نعم، فأخرج مكان مكيال من البر مكيالاً من الشعير ودفعه إلى المساكين، فحيي به بشر كثير من ضعفاء المسلمين ذلك الوقت، فأنكر أصحاب الحسين ذلك عليه، وأتوه في ذلك فقال: يا قوم، هذا شيء قلته عن رأي لا عن شرع، غلب على ظني أني لو قلت لا يجزي على البر إلا البر ثقل عليه، فأخل به وبخل، وإ ذا بخل قالت له نفسه قد عصيت الله في واحدة ومن عصاه في واحدة كمن عصاه في أكثر، فيترك الصلاة ويرتكب المعاصي، وإذا ثبت على الديانة فسيتعلم - إن شاء الله - ويخلص نفسه، ونظرت إلى المساكين، فعلمت أن الشعير أنفع لهم من العدم، فكان الأمر كما قال أبو الحسين صلح ذلك الرجل، واستدرك أمره، وعوّض الزكاة براً، ورسخ في قلبه حب الله، وصلحت حاله.

وحكي عنه - رضي الله عنه - أنه كان له جار بصنعاء /206/ يشرب الخمر ويؤي شُرَّابها، وكان يخفى على أبي الحسين أمره في أوائله، ثم إنه بلغ أبا الحسين أنه قد جمع جماعة من الفسقة لشرب الخمر، فذهب أبو الحسين يستكشف الحال وليؤدي ما يجب لله، فقضى نظره بأخذ كبش وقصد ذلك الجار إلى بيته، فقرع الباب، فخرج إليه الجار وهو لا يظنه جاء إلا يريد الإزالة، فقابله أبو الحسين بالمعروف من خُلقِه، وقال: بلغني أن عندك ضيفاً والجار مسؤول عن جاره، فهذا كبش استعن به، فاستحيا الرجل، وخرج، فلما أصبح نحا ما في منزله، وغسل ثيابه، واستغفر، وأناب.

وحكي عنه أنه مر بشريف سكران قد تضمخ بقيئه أو بوله، وهو ملقى في شارع من شوارع صنعاء، فلما رآه حزن لذلك ورأى بهداية الله وتثبيته أن أخذ قناعه فمده ووضع فيه الشريف، ثم لفه به واستعان بمن يحمله إلى منزله - أعني منزل الشريف - فقرع الباب، فأجابت امرأته فأمرها بالفتح وأن تنحى من البيت(1)، ففعلت، ثم دخل فألقاه في جانب وأمرها بإغلاق الباب حتى يفيق، فلما أفاق أخبرته امرأته ولامته أشد اللوم، وقالت: يراك الطبري على هذه الحال، فاستحيا كثيراً، وندم ندامة كبيرة، وتاب توبة نصوحاً، ثم اعتزل الناس بعد صحبته لأبي الحسين مدة، وسكن في عزلته بدار الشريف ما بين حدين(2) والحمراء(3) أقرب إلى محاذاة الحمراء على غيل ابن برمك(4) تعرف بدار الشريف - رحمه الله -.
__________
(1) في (ب): وأن تنتحي جانباً من البيت.
(2) حدين: موضع غربي صنعاء (معجم المقحفي ص: 163).
(3) وتسمى حمراء العَلِب بفتح العين وكسر اللام وهي قرية في بلاد سنحان في السفح الجنوبي من جبل نقم (انظر المصدر المذكور ص: 191).
(4) في المصدر السابق ص: 487: غيل البرمكي، وقال في تعريفه: هو من المنابع المائية التي كانت تسقي القاع الشمالي لصنعاء، وكان مأتاه في قرية بيت عُقَيب، وقرية غيمان شرقي صنعاء، ونسبته إلى محمد بن خالد البرمكي الذي استخرجه لما ولّي صنعاء للرشيد سنة 183ه. انتهى بلفظه.

وحكي عنه - رحمه الله - أنه كان واسع الجاه مقبول الشفاعة، وكان بصنعاء من ضعفاء المسلمين ومساكينهم خلق كثير، ومن الأشراف أرامل وأيتام، فكان يتكسب عليهم، وكان له إخوان باليمن يرون له حقاً عليهم، فكان يزورهم ويلتمس للضعفاء المذكورين شيئاً منهم، فخرج في بعض السنين إلى إخوانه باليمن فاستماحهم للمساكين، ففعلوا وعاد بأكسية وأمتعة ونقد، ورجع إلى صنعاء، فلما وصل إلى طرف الحمراء وهو الجبل الذي يتصل بجبل نقم المطل على صنعاء مما يلي علب من أرض (الأبناء)(1) فخرج عليه لصوص، فأخذوا ما معه، فلما حازوه قال: يا وجوه العرب هل لكم في رأي من المروة والكرم، قالوا: وما هو؟ فقال: قد صرت كما ترون في أيديكم، وما أحد يتوهم أنكم تتركوني إلا تكرماً منكم عليّ، وأنا قد جئت من بُعدِ أهوي بهذه العروض لمساكين خلفي أعينهم ممدودة إليه، فهل لكم في رأي تحوزون به شرف الذكر والشكر مني ما بقيت، وذلك أن تجعلوني بمثابة واحد منكم أحوز سهماً أعود به على من خلفي، فيثيبكم الله، وتأخذون هذا حلالاً، فرقوا لكلامه، وقسموا له نصف المتاع، وكانوا قد تركوا ثيابه لم يسلبوها عنه تكرماً منهم واستحياء لجلاله وهيبته، وكان تحت ثيابه وعاء دنانير، فأخرج /207/ إليهم الدنانير [بعد أن قسموا له النصف] (2) وقال: قد بقي نصيبكم من هذه الدنانير، فأعجبهم ذلك، ثم بايعهم بنصيبه من الدنانير في نصيبهم من العروض والثياب التي هي أنفع للمساكين، فبقي عليه من ثمنها ثلاثون ديناراً، فقال : لو تبعني أحدكم لهذه البقية لم ير إلا خيراً، فقد لزمني لكم ذمام الصحبة والمعرفة، فقال أحدهم: هذا شيخ لا يأتي منه إلا خير، فسار معه حتى دخل صنعاء فتلقى الشيخ أبا الحسين أصحابه وسلموا عليه، ثم استلف تلك الدنانير ثم عمد إلى كبش فأمر بذبحه، فذبح وطبخ وأرسل
__________
(1) الأنباء: قرية في بني حشيش التابعة لمحافظة صنعاء (انظر المصدر السابق ص: 9).
(2) ما بين المعكوفين زيادة في (ب).

بطعام، وذلك اللحم والدنانير مع ذلك الرجل، وقال: هذا الطعام لأصحابك لأني أظن عهدهم بالطعام بعيد، فلما وصل ذلك الرجل إلى أصحابه رقت قلوبهم، وخشعت، وأناب منهم من أناب، وصار أولئك من أصحاب الطبري - رحمه الله - ومع هذا الحلم الكثير وامتلائه من الحكمة كان يتطلبها من صغير وكبير.
روي أنه خرج يوماً من منزله بصنعاء ومعه بعض أصحابه، فرأى الطبري بعض السكارى أمامهما فقال لصاحبه: أسرع بنا فلعلنا ندرك من هذا فائدة وحكمة، فالتفت إليه صاحبه متعجباً من قوله ذلك، فقال: وما يستفاد من مثل هذا؟ قال(1): يتسمع، فلما أدركا السكران قال له الطبري: يا غلام، احذر تسقط، فالتفت إليه وقال: احذر أنت أن تسقط، فأما أنا فإذا سقطت سقطت من طولي، وأنت إذا سقطت سقطت من بنات نعش، فالتفت الطبري إلى صاحبه وقال: سمعت ما هاهنا، فأخذها موعظة في نفسه وانصرف.
ومما حكي عن الطبري - رحمه الله - من سعة الصدر والتأدب بقوله(2): ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? (لقمان:17) ما روته أعيان الزيدية أنه استدعي - رحمه الله - بصنعاء المحروسة إلى مناظرة قاضيها، ولعله من آل النقوي، وأحسبه عبد الله بن كليب أو ولده سلمة، ولما حصره في المسألة، وذلك بمشهد من أهل صنعاء واجتماع(3) العامة والخاصة خرج وضاق صدره، فبزق في وجه أبي الحسين فضحك إليه، ومسح البزاق(4)، فلما رأى سعة صدره وقوّة قلبه مع جرحه هو وإساءته إليه بكى فيما يقال.
__________
(1) في (ب): فقال.
(2) في (ب) زيادة: تعالى.
(3) في (ب): من.
(4) في (ب): ومنع البزاق.

وروي أن الطبري - رحمه الله - قال: أجمعت العلماء أن الريق طاهر، كان جواب المسألة، فلما انصرف الطبري عن ذلك المجلس قال لبعض أصحابه وكان قد أحس منه التزكية لذلك القاضي في باب العبادة والزهد وحسن الظن له بالسلامة، وأقسم الطبري - رحمه الله - قسماً (لعَتُلٌ) وهو خمّار كان بصنعاء يدعو إلى منزله وبنات كنَّ له الفسّاق وشراب الخمور فيما يذكر ، أقرب إلى الله من هذا القاضي، ثم أخذ بيده فأتى عتلياً فقال له: ويحك ما دعاك إلى ما أنت عليه من شرب وفسق، فقال: سوء الرّأي وخبث النفس وسقوط الهمة، فقال له الطبري: أفتقول: الله جبرك على ذلك؟ قال: معاذ الله، الله أكرم من ذلك، فقال الطبري لصاحبه: أما تسمع /208/ ما قال هذا إذ قد سمعت ما قال ذلك.

قلت: ويشبه هذا ما حكى محمد بن أسعد الجنبي من جنب جهران وذمار، وكان من الجند، ثم تاب وتاب معه ولده، وكانا على طريقة الفقه والتعبد لكنهما لبسا ثوب التطريف، وكان محمد بن أسعد متوسعاً في العبادة، ثم سكن شظب مهاجراً، ثم اعتزل الناس، وسكن بأهله في جانب بعيد على مُزْدَرَعْ ليبعد عن العصاة، وكان له مولى حبشي يقال له فرج قد صحب من أعلام الزيدية بشراً، وأخذ عنهم في أصوله وفقهه، وتخلق بأخلاق العبادة والفضل، وكان ببلاد شظب مزيِّن قد صحب فرجاً - المذكور - وانتفع به، وكان المزيّن يدخل السوق ليعمل شيئاً ينتفع به، فمر به أبو العمر اللحجي شيخ المطرفية، فوقعت عين أبي العمر على رجل من عبّاد الأباضيّة ومجتهديهم قد نهكته العبادة، فصار أسود كأنه خشبة محرقة، وهو يتمشى في السوق برفق، وقد رفع أطراف ثيابه لئلا يصبها شيء يكرهه، وتواضع وتخشع فقال أبو الغمر: وكان يومئذ شاباً حدثاً ينخدع لمثل هذا المزيِّن، وكان شديد البغضة للخوارج والمجبرة والمشبهة، فيقطع عليهم بالنار، ويتبرأ منهم، ويتهلل بالدعاء عليهم، وكان اسمه سليمان بن صبيح، فقال له أبو الغمر: يا سليمان، أنا أوافقك في ضلال الإباضية إلا هذا الشيخ العفيف الخاشع لله، أما ترى ما هو عليه من الصورة وأنت تزعم أنه هالك، فقال سليمان: ويحك، أرأيت إن كان يقول بالجبر وينسب إلى الله أفعال خلقه، ويعتقد منه خلق الفساد في الأرض ماذا ترى؟ قلت: أرى أنه هالك إذا كان هذا منه، فقال: أدركه، ثم اسأله عن ذلك، فأدركه أبو الغمر وكان الرجل من بطن من (الحائريين) بينهم وبين أبي العمر رحم، فرفق به وقال: يا خال، ما تقول في الكفر والإيمان، مَن خلقهما؟ فقال: الله يا بني، فأكد عليه أبو العمر حتى تيقن دخيلته، وعاد إلى المزيِّن فأوسع المزيِّن في سبه، وكان هناك عبد زنجي يعرف بالحمّامي لم يفصح كما ينبغي، يقول(1) في ناحية السوق غير مستر(2) بين الخمارين،
__________
(1) يبول. ظ
(2) مستتر. ظ.

38 / 182
ع
En
A+
A-