وبحق كتابه العظيم ونبيئه الكريم أتوسَّل أن يفقهني في دينه، ويعلمني تأويل تنزيله، ويصرف عني ما صرفني عن ذلك، ويقدر لي ما رجوته من فضله، وأمَّلته من كرمه من صلاح النفس /130/ والأهل والولد، ومن التوفيق إلى الأعمال المقربَة إلى سعادة الأبد، إنه جواد كريم.
انتهى كلامه - رحمه الله تعالى - ولم يذكر من محامده شيئاً، وهو الذي يليق بمقامه، ويكفيه فخراً أنه كان إذا دخل إلى مقام الإمام شرف الدين، وتكلم معه ثم خرج، قال الإمام: هكذا فلتكن السادة، ويثير همم أولادهم(1) بذكر السيد والثناء عليه، ولولا استياق الكلام إلى ذكر نفسه في الكتاب المشتمل على نسبهم الشريف ما ذكر نفسه وذكر النفس غير مستنكر، فقد ترجم لنفسه الحافظ ابن مندة، والجلال السيوطي في حسن المحاضرة وغيرهما، وقد ترجم للسيد شمس الدين السيِّد العلامة محمد بن عبد الله بن علي المعروف بأبي علامة المؤيدي أعاد الله من بركته، - وقدَّس روحه - فقال: لقد كان هذا السيد الفائق على أقرانه بل هو الغرَّة في دهره والفريد في عصره، والذي جمع بين العلم والعمل، وحاز الفضائل عن كمل، إليه انتهت العلوم النبويَّة، وعليه عكفت المفاخر والشمائل الحسنيَّة، ومنه تفجرت ينابيع البلاغة والفصاحة والحِكَم العلويَّة، فهو إمام أهل الطريقة، ويعسوب أهل الحقيقة، ولقد كان موزّعاً لأوقاته في أنواع الطاعات، فليله للصلوات، ونهاره للإقراء والقراءات، كثير الحنين غزير الدموع، شمس الهدى وبه الإسلام يفتخر، وكان في سنة أربع وثمانين وتسعمائة تهيَّأ للحج إلى بيت الله الحرام، فتمّ له ذلك على أحسن حال وأشرف مقام، وأدَّى المناسك العظام على الوفاء والتمام، وأراد المجاورة ثم الزيارة لجده سيد الأنام - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام - فعرَض ما منع عن ذلك، وصُدَّ عن الوقوف هنالك، فنهض راجعاً إلى بلاده لما نبا صرْف الدَّهر عن مراده، ونوى أن يقيم باقي عُمُرِه بين
__________
(1) في (ب): أولاده.
أولاده، فلمَّا انتهى إلى المدينة (الصَّعديَّة)، وشاهد القراءة في جميع المشاهد الهدوية، وحفَّ به عيون السادة اليحيَويَّة، وعكفوا عليه يستصبحون من أنواره، ويلتقطون نفيس الدرر من تياره، فوقف بها للتدريس والإفادة بكل معنًى نفيس، ولازمه حيّ الإمام المتوكل على الله عبد الله بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين في أيام سيادته، وكانا لا يفترقان أكثر أوقاتهما، قرأ عليه في علم الحديث وغيره، ولقد كان يتمنَّى في أكثر أوقاته أن يقبر في مشهد جدّه الهادي بن الحسين - رضوان الله عليه - ومن العجائب أنَّه كان كثير الصلوات في الليل تحت الصَّومعة الصغرى، قريباً من المكان الذي قبر فيه فاستجاب الله دعاءه، وأعطاه ما تمنَّاه، ولمَّا توفي في شهر ربيع الأوَّل سنة خمس وثمانين وتسعمائة، اعتنَى السيد الإمام بخراب منزلتين كانتا هنالك وجعل قبره في موضعهما، وعمر حي السيد شمس الدين أحمد بن الحسين بن عزالدين وهو يومئذٍ رئيس صعدة عليه مشهداً، وانتظم في سلك ذلك النادي بمشهد الإمام الهادي، وله من المصنفات شرح أرجوزة النمازي في نسب الإمام /132/ شرف الدين(1) وهو يدل على غزارة علمه بحسن سبكه، وصناعة نظمه، ومنها في الحديث (الأحاديث المستحسنة الدائر على الألسنة) (2)،
__________
(1) شفاء الصدور بشرح سلسلة النور خ، الجامع الكبير الغربية رقم 106 تأريخ، وأخرى بمكتبة السيد المرتضى الوزير بالسر – خ - سنة 1291ه منسوبة لعبد الله بن علي الوزير.
(2) - خ - مكتبة الجامع الغربية رقم 33 حديث، وأخرى بمكتبة الأوقاف رقم 437، وله أيضاً ترجمة السيد العلامة علي بن المرتضى بن المفضل خ، ضمن مجموع إجازات القاضي أحمد بن سعد الدين، ونظم حِكم الإمام علي خ، مكتبة الجامع 36 مجامع، والإقناع في قطع الأطماع خ، في 290 صفحة بمكتبة جامع الإمام الهادي بصعدة، والرسالة المضيئة في التنبيه على عقائد أئمة الزيدية خ، بمكتبة هولندا، وانظر أعلام المؤلفين الزيدية.
أخذه من كتاب (السخاوي). انتهى
قلت: وهو مكثر في الشعر مجيد، وله قصيدة سينيَّة مطلقة مكسورة الرويّ أوَّلها(1):
ممَّن سقاهم ربهم جنَّة ... من خمرةٍ شفافة الكأس
ودخل صعدة المحمية مستنصر بالإمام أحمد بن الحسين لما اشتد الحصار في قاع حوشان(2) على مطهر بن الإمام - رحمه الله - وعمل في هذا لمعنى قصيدته التائية التي أولها:
هات الأحاديث عن أحبابنا هات ... ما حال أهلي وجيراني وساداتي
ومنها(3):
ومنها(4):
قال سيدنا العلامة أحمد بن سعد الدين - رحمه الله -: لمَّا قال السيد القصيدة اعترض بعض الأدباء في مؤآخاة العجز للصدر فحوّله السيد - رحمه الله - فقال:
هات الأحاديث عن أحبابنا(5) هات ... يا نسمة روحت قلبي بنسمات
ولسيدنا العلامة الحسين بن محمد المسوري قصيدة مع هذه القصيدة إلى الأمير أحمد بن الحسين مساويَة في الوزن والرويّ والمقصد أوَّلها:
إن النفوس النفيسات السريَّات ... هيَ المرادة في بعث السريَّات
وهي التي إن تراخت عن إغاثة من ... يرجو إغاثتها غير الحريات
وهذا كتاب كتبه إلى السيد الإمام العارف عبد الله بن الإمام شرف الدين - عليه السلام - تهنئة للسيد - رحمه الله - بالحج، وفيها دلالة على جلالته في صناعة الإنشاء:
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) حوشان: هو القاع الفسيح فيما بين شبام وكوكبان، ومدينتي ثلا وحبابة (معجم المقحفي ص: 200).
(3) بياض في الأصل.
(4) بياض في الأصل.
(5) في (أ): أخبارنا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، أمَّا بعد، أهدى سلاماً يحكي رقَّة أخلاق (من تحلى /133/ بأخلاق النبوة)(1)، وطيب أعراق من استولى على أقطار الشرف في العترة الطاهرة بنوةً وأبوَّة، وإكرام يحكي ذكاء نشر الألوّة(2)، وصفاء لون المرآة المجلوة، وتحيَّات مباركات، وصلوات متداركات إلى مقام سيدي حقاً، ومالكي صدقاً، سيد سادات العترة، ووجه شرفها الواضح التحجيل والغرَّة، ولسانها بلاغة وبراعة، وعالمها المقدَّم في شرف تلك الصناعة، فخر الدين، سليل الأئمَّة الهادين، عبد الله بن أمير المؤمنين، فإن أحق الخلق أن تهدي إليه جليل التهاني، وتنضى براعات البلاغة في وصف ما أوتي من الفضل الرحماني، ومنح من الألطاف الهادية إلى قطع علائق الأماني الباطلة لاجتناء ثمرتي الأمان والأماني، من سمعت أذناه في عالم الذر أذان إبراهيم الخليل، فأناب وأجاب في عالم الكون بالحج لبيت الله الملك الجليل، قد قدح زناد التوفيق نار أشواقه الكامنة، وأثارت رياح الأرياح بواعث أتواقه الباطنة، وقطعت عنه حبائل التسويف لِسَنةٍ بعد سنة، وأيقضه عن سنَة الغفلة عمَّا أوجبه على الفور مع الاستطاعة من لا يأخذه نوم ولا سنة، فانحدر بمروة الوجوب جايباً، واستمر ليؤدي فرضاً واجباً.
وهمَّ فألقى بين عينيه همَّه ... ونكب(3) عن ذكر العواذل جانباً
فأعرض عن الأوطان والإخوان، وتجشم من متاعب الأسفار ما خضع له الجلد من الرجال واستكان، وبذل النفس والنفيس في تحصيل هذا المرام عظيم الشأن، وأنشد لسان حاله (وقد والى بين الوجيف)(4) من ترحاله والوجدان:
فواللَّهِ لولا الحجُّ ما اعتضت باللِّوا ... لواءً ولا بالود عن أهله وداً
ولا وجدت أيدي المطايا عشيَّة ... بنا وهيَ أدنى ما يسير بنا وخدا
تأمُّ بنا البيتَ الحرامَ كأنَّها ... قسيٌّ ترامى في أعنتها جردا
__________
(1) سقط من (أ).
(2) الألوة: العودة الهندية.
(3) في (أ): وذكر.
(4) سقط من (أ).
إذا لفحت(1) الهجير جبينَه الوضاح، وألغب تواصل المسير جواد همته الوقاح، وشكا إليه فلذة كبده الصغير سموم تهامة اللفاح، ورقت سِنَة الكرى في عينه، وأظهر السري ما أبطن من كلاله وأينه، ضرب همته بسوط الأشواق، وأقام نفسه في مقام العبودية على وثائق الأسواق، وحداها بقول من قال من الحذَّاق:
أسعِد أخي وغنِّني بحديث من ... حل (الأباطح) إن رعيت إخائي
وأَعِده عند مسامعي فالروح إن ... بعد المدى يرتاح للأنباء
وإذا إذا أَلَمٌ ألمَّ بمهجتي ... فشذا أعيشاب الحجاز دوائي
وإذا أنضى طي المراحل ركائبه الرواحل وأنصب، تطلع قطع السبائب بواضحة /134/ النجاب، فلم يبق منها إلا جلود على عظام شواحب، حاطت ضميره المليحة المحجوبة، والكعبة المنصوبة التي وجَّه إليها وجه شعره وصلواته، وواصل إليها السُّرى في روحاته وغدواته:
أتيناك نجتاز الفيافي طلائحاً ... قلائصُنا حتَّى لقد أدَّها الرحلُ
إذا ما ذكرنا في ضنى الحزن أننا ... إليك قصدنا عاد وهو لنا سهلُ
فكأنما أنشط ذكراها عقاله، وأذهب ما تجلَّى من أنوارها في أسراره (أينه وكلاله)، فأهرق كأس منامه، وانتهز فرصَة اغتنامه، إذا صعد (نشزاً) هلل وكبّر، وإذا هبط لبَّى تلبيَة، بعد تلبيَة وأسديت إليك مقتدياً بابن عمر، إليك تعد قلقاً وضينها، معترضاً في بطنها جنينها، مخالفاً دين النصارى دينها، وإذا أسهل وأصعد، فكأنه سيف على علمٍ يسلّ ويغمد، ترنحه القلاص في (وخدانها)، وتمايله تمايُل الغصون على كثبانها، فمَا أحقَّه بما تمثل به أبو حفص عمر حين جعلت ناقته تعليه وتخفضه، وتبسطه وتقبضه:
كأن ركابها(2) غصن بمروحةٍ ... إذا تمشت به أو راكب ثمل
__________
(1) في (ب): نفحت.
(2) في (ب): كان راكبها.
حتى إذا شارف مواقيت الحج الأكبر، وورد مشارع المشاعر الشريفة أشعث أغبر، والتزم في (يلملم) بغرر السعادة العظمى، فما أجل وأطهر، فحينئذٍ تطَهَّر من أوضاره(1)، وحلَّ إزاره ملابسه وأوزراه، وتجرَّد عن أثواب إجرامه، ودخل بسلام إلى الحرم الأمين في ثوبَي إحرامِه، قد أحرم بحجَّة الإسلام، وتسنم ذروة الفوز الأكبر بذلك الإحرام، يكرِّر التلبية خاضعاً مستكيناً، ويكرر(2) التكبير فينة ففينة وحيناً فحيناً، حتى إذا انجلى له جمال الكعبة البيت الحرام، وظهر له جلال متنزل ملائكة الله تعالى ومطاف أنبيائه - عليهم السلام - أدهشته(3) أسرَّه(4) ذلك الجمال البديع، وأخرسه أنوار ذلك المشهد المريع، (فارفضت) عبراته لا يملك نظامها المحلول، واستعرت زفراته وأنَّ أنين (الوالهة) الثكول، وناداه ما عاوده من معقوله بقول من يقول:
هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع في الأجفان
ثم أتى بتحيَّة البيت في طواف القدوم، والتمس الأركان الشريفة، واعتنق ملتزمها ودمعُه (مسجوم)، وصلَّى واجب ركعتيه خلف المقام المعلوم، وورد سقاية الذبيح صلوات الله عليه وعلى نبيئنا وعلى آله مطلعاً على مائها متضلعاً منه، فهو (لما يشرب(5) منه) كما قال نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ما زهرت النجوم، وانقضَّت الرجوم، ثم نهض للسَّعي بين الصّفا والمروة مبتهلاً من الدُّعاء بما استحسن الهادي - عليه السلام - إلى الحي القيوم.
قد فاز من قبَّلها ومن مسح ... ومن على أركانها للدَّمع سح
/135/
ومن أصح نية ومن نصح ... في عمَل ومن لحن فيه يصح(6)
وقبَّل الركن الشريف الأسحما ... وأسبل الدمع عليه مسجما
__________
(1) الأوضار: الأوساخ.
(2) في (ب): ويردد.
(3) في (ب): أدهشه.
(4) لعلها: (أسره) بين قوسين.
(5) في (أ): فوقف اليوم الحج الأكبر.. إلخ، وهي زيادة غير مستحسنة لأنها سترد في الفقرة التي تليها.
(6) العجز غير موزون.
ملتزماً من خلفه ملتزما ... ينجي من الهلك إذا البحر طما
بحر الذنوب إن في أموَّاجه ... ما ليس ينجي منه في ارتجاجه
إلا الطواف إن في مُوَّاجه ... فلك النجا للوفد من حجَّاجه
فازَ فتى عن القبيح أقلعا ... وبالطواف في الدُّجا تولَّعا
ومن نمير زمزمٍ تضلَّعا ... وأفرغ الدَّمع وفيها اطَّلعا
ثم سعى بالمروتين والصَّفا ... وكان من جملة إخوان الصَّفا
متبعاً هدي النبيء المصطفى ... وسالكاً شعب الهداة الحنفا
ثم نهض يوم التروية إلى منى، فصلَّى بها العصرين والعشائين وفجر يوم السعادة والهناء، ونهض إلى عرفات بالتهليل والتكبير والتلبية معلناً، فوقف في ذلك الموقف المشهود، وتحرَّى لوقوفه، فوقف يوم الحج الأكبر ما بين الصَّخرات السود، فذلك موقف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المحمُود، رافعاً يديه بالدُّعاء المأثور، واضعاً خدَّيه على العفر مستغفراً للعزيز الغفور، جامعاً للعصرين بأذانٍ وإقامتين، مفيضاً إلى مزدلفة بعد الغروب من بين العلمين، فلمَّا وصل جُمعا، وبات فيها جامعاً بين العشائين تأخيراً جمعاً، دفع قبل الشروق إلى منى دفعاً، ذاكراً لله كما أمر سبحانه عند المشعر الحرام وبمحسره يسعَى، ولمَّا استقرَّ بمنى ثلاثها المعدودات، وبات واجب لياليها الثلاث المباركات المشهودات، ورمَى جمارها الثلاث بسبع سبعٍ مرتبات، قضَى تفثه مُحلِّقاً مقصراً، وفكَّ زرار إحرامه محلِّقاً لا مقصراً، ونفر يوم الصدر إلى بيت الله مع وفَّاده وحداناً وزمراً، فطاف طواف الزيارة المفروض، وفض قماع دمع عينه المفضوض، مواضباً على الفرائض والنوافل، مغتنماً لفضيلة الصلاة في بيت الله الحرام التي تفضل مائة ألف صلاة في غيره كما قال سيد الأواخر والأوائل، متنعماً بمشاهدة الكعبة البيت الحرام في البُكر والأصايل، مجانباً لمحظوري الحرم والإحرام، لئلا يخدش جبين ما ساق الله إليه من الفضائل الحلائل، فذلك لعمري، بل لعمر الله هو الحري بأن يُهنَّى بقول
القائل:
هنيئا مريئاً قد نزَلتم بسَاحَة
س ... يعم جميع العالمين نوالُها
هنيئاً لكم زُرتم لذي العرش كعبة ... مباركة طابت وطاب حلالهُا
ألا ليت شعري كيف أنتم وقد بدا ... لكم وتجلَّى نورها وجمالُها
/136/
وكيف بكم لمَّا حواكم مقامها ... وجل لكم عند الطواف جلالُها
وكيف سمعتم ضجة الوفد حولها ... وقد رفعت أستارها وحجالُها
وكيف رأيتم كعبة الحسن تجتلَى ... وقد لاح من خدِّ المليحة خالُها
وكيف شربتم شربة من سقايَة ... يطفي حرارات النفوس زلالُها
وما حال هاتيك المواقف خبِروا ... ألا خبِّروا من حالها كيف حالُها
وحين قضى مناسكه التسعة، وأزمع على الصدور، واطمأنَّ بما سناه الله تعالى له من تمام الحج المبرور، وسعيَه المشكور، أكمل عدَّة المناسك بطواف الوداع، وآب إلى أوطانه بأرباح السعادة الأبدية لا أرباح المتاع، وأنشد لسان حاله لمَّا استقلت ركائب ترحاله ما يلذ في الأسماع:
ولمَّا قضينا من منى كل حاجةٍ ... ومسح بالأركان من هو ماسحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ الأباطحُ
ولمَّا كان سيدي فخر الدين - حفظ الله مهجته من الأسواء، وأقرَّ قراره في دياره على ما يحب ويهوَى - قد أحلَّته العناية الإلهية من هذه الفضلة(1) العظمى ذروة سنامها، ومنحته الألطاف الرَّحمانية الإتيان بفرائضها ومندوباتها على كمالها وتمامها، ونشرت عليه يد التوفيق خوافق رَاياتها وأعلامها، وألبسته في عوارض الأسفار مطارف وقايتها وعافيتها وسلامتها، وجَّه إليه مملوكه هذه القطعة نائبة عنه في أدّاء حق التهنئة، لاثمةً أكفه بالتسليم مائة بعد مائةٍ، مخاطبة له بما قال الإمام المنصور في نظمه المشهور:
آبت بأوبتك العلياءُ والظفرُ ... إلى منازلنا والشمسُ والقمرُ
__________
(1) في (ب): الفضيلة.
جامعة له بين تهنئتين، لما جمع الله له (في عام)(1) حجتين مبرورتين، ووسيلتين مقبولتين، شفع حجه بحج زيارة والده وإمامه، وساوَى بين حالي بدء سفره الميمون وختامه.
تمام الحج أن تقف المطايا ... بسوح أبيك يا فخر الأنامِ
فما بدأت به تلك المطايا ... كما عادت له حين الختامِ
لقد وردت إلى بلدٍ حرامِ ... كما صدرت إلى سوح حرامِ
وقد صدرت بخيرات جسامٍ ... كما وردت بخيرات جسامِ
ليهنك ثم يهنك نيل فضلٍ ... توام نلته في فرد عامِ
وعمَّك ذو الجلال بكل خير ... وخصك بالتحيَّة والسلامِ
وهذا جواب السيد فخر الدين عبد الله بن أمير المؤمنين عليه رحمهما الله تعالى/137/: بسم الله الرحمن الرحيم، مني إلى صنوي ورفيقي البر الرفيق، وقسيم روحي الشفيق(2)، زيت ثمرة زيتونة الشجرة النبوية، ونور مصباح مشكاة الكعبة العلويّة، مهجة أنسي، ومنية حسي، ومَنْ نفسُه أخوَّةً وأبوَّةً ومحبَّةً وبنوَّةً نفسي، بل هو في الحقيقة حقيقتي، وفضلي المميز لي عن جنسي، والأخص من صفتي المشخصة لي في أنسي، فهو الذي أعبر(3) عنه بأنا، ويشير إليه غيرُنا بألقابنا والكنى، أوما تراه حين جردني عنه في مثال خياله، رأى صفه نفسه فأطلق في المدح شقشقة مقاله، فكان الذي أثنى على نفسه بما رأى بي من أسمائه وصفاته:
كما يعجب الحسناء صورة وجهها ... بما حكت المرآة من قسماته
__________
(1) زيادة في (ب) وفي (أ): لما جمع الله بين حجتين مبرورتين.
(2) في (ب) زيادة: الشقيق.
(3) في (ب): يعبر.
ولولا خوف الوقوع في دركات الإلحاد، لرفعت بحالنا في درجات قول أهل الاتحاد، وذلك سيدي وحياة روحي وجسدي، وباعتبار أخي ووالدي وولدي، من هو بين الأنام في الكمال أحمد، أحمد بن عبد الله بن أحمد، أحمد الله مساعيه، وبلغه آماله وأمانيه، وأطال في التوفيق والخيرات بقاءه، وعجَّل في الأوطان والأوطار لقاءه، فلقد نشر بنشر ذلك الكتاب رفاتي، ونفث في روعي وسمى(1) روح قدس بلاغته ما نفخ في مواتي روح حياتي، ما ذاك إلا لإقامة شخصي مثالاً في سره الحيِّ الحيي، فحرك خامدي وأذكى تذكار كلامه ظلام ذهني الغبي، فصاحة أساليبه (وحصافة تراكيبه)(2) ورصانة مبانيه، وحصانة معانيه، كطيور إبراهيم الخليل الأربعة، أراني الله بها كيف يحيي الموتى، ومعنى ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله معه، فعلى كريم غرته، وبهي بهجته، سلام يحاكي أزهار روض كلامه بهجة وطراوة(3)، وعبقة ورقّة وطلاوة، وإكرام يشابه فواكه فكاهات قطوف جنان خطابه لذّة ذوق وحلاوة، ورحمة من الله واسعة الأرجاء، رحبة الفناء، شاملة كلما يشار إليه بِهُنا وهنا، وتحيَّات طيبات مباركات تحياتها ترتاح بها الأرواح، وتحيا بها القلوب وتنزاح بها الأتراح، وتفرج بها الكروب على مرِّ الليالي والأيَّام، وكرِّ الشهور والأعوام، وما تفضَّل به سيدي من الدعاء بالهناء على ما منَّ الله تعالى به من تلك النعمة التي أنعمَ بها من قضاء فرِيَضة الحج إليه، والتلبية لندائه على لسان خليله صلى الله عليه، وشفعها بإتمام ما ذلك متوقف عليه الإسعاد والتوفيق واللطف الكريم إلى حضرة والدنا القدسيَّة، والتبرُّك بالتملِّي(4) بغرته الكريمة النبوية، وتطهير السرائر بمشاهدة أسارير وجهه الوضيَّة، والتقدس في نمير كوثر أخلاقه الرضيَّة، وتكفير الذنوب بالتشرف بما أمكن من خدمته التي هي البغيَة السنيَّة، الغنيمَة البادرة الهنيَّة
__________
(1) لعلها: وسمعي.
(2) سقط من (أ).
(3) في حاشية (ب): جزالة.
(4) في (أ): والتملي.