عبد الله بن قاسم بن الهادي العلوي [8890هـ ]
السيد العالم إمام التحقيق، عبد الله بن قاسم بن الهادي العلوي، كان من نوادر الزمان وعجائبه، محققاً حافظاً، ترجم له علي بن الإمام شرف الدين بترجمة حافلة، وذكر عنه في الحافظة ما يند عن الألباب، قال: ومولده ليلة عرفة سنة تسع وثمانين وثمانمائة، وابتدأ القراءة سنة ست وتسعمائة على الفقيه عبد الله بن مسعود، قال: وكان بحراً لا يساجل في جميع العقليات والنقليات، وكانت وقعت بينه وبين الإمام شرف الدين وحشة، ثم وفد إلى الإمام سنة خمس وثلاثين، وصلحت الحال بينهما، وانتقل بأولاده أخيراً إلى هجرة الإمام في سنة تسع وأربعين، وكان طلبه ليس بالكثير، لكن(1) فتح عليه، ثم قال علي بن الإمام: لم أر أحفظ منه، يحفظ(2) من الأبيات والأمثال والشواهد شعراً ونثراً ومثلاً وتاريخاً، بحر لا ينزف، لازمته خمس سنين، فلم أزل أطلع منه على فوائد ما طرقت مسمعي(3)، ولا سمعته يعيد شيئاً، ولا مثالاً، ولا رواية، بل كل يوم ولي منه عجب، وقد جمعت ما أملاه علي من أدب وحكمة في جزءٍ مفرد، وجمعت الشواهد والفوائد النحوية في مجلد، قال: وأما ورعه، فكلمة إجماع، لقد رأيته /45/ تباح له الأموال الجليلة، بطيبة نفس من مبيحها، ولا(4) يأخذ منها مثقال ذرة، قال: وأما عبادته، وحسن معاشرته، ومراعاته للحقوق، فذلك أمر لا يتصور لإنسان، ومن شعره في الإمام:
هنَّاك ربك ما أولاك من رتب ... ونلت ما كنت ترجوه من الأربِ
وزادك الله في عمر وفي سعةٍ ... في الملك يصلح منا كل مضطربِ
أحييت هجرة يحيى بعدما ظلمت ... دهراً طويلاً بلا جرم(5) ولا سببِ
__________
(1) في (ب): لكنه.
(2) سقط من (أ): يحفظ.
(3) في (ب): سمعي.
(4) في (ب): فلا.
(5) في (أ): هجر.
قلت: كانت هذه صفاته، ومما يدل على معرفته بالمعقولات تكلمه في تفسير حديث ((أنا مدينة العلم وعلي بابهاِ))، فإنه يجاري(1) فيه السباق، فكتب المقرائي رسالة، وعلي بن الإمام رسالة، وهذا السيد رسالة دالة على وفارة علمه في البيان.
قلت: وسبب الوحشة الواقعة بينه وبين الإمام، أن هذا السيد على جلالته جنح إلى التصوف والتضعيف(2)، وطرائق الرموز التي تخالف ظاهر الشرع، وكان الإمام حريصاً على حفظ الشريعة المحمدية، فاشتد على أهل زمانه، وقتل الفقيه المسمى بالجدر القرشي، وضرب العلامة ابن عطف الله التركي وعزره، وكان هذا السيد مكرماً عند الإمام مقرباً، فلما علق بقلبه التصوُّف بسبب رجل يقال له الشيخ على الجبرتي، وصل إلى (الظهرين) من بلاد (حجة)، والسيد عبد الله هناك، فمال معه السيد، ولازمه ودار معه في الأمصار، ويقال: إنه لم يلازمه للتصوف، بل ظن عنده شيئاً من صنعة الكيمياء، فلما ظهر منه اعتقاد الصوفية، حبسه الإمام في حصن (العروس)(3)، وأغلظ عليه، ففعل السيِّد عبد الله رسالة يتنزه(4) عن أوضار الصوفية، وذكر أنه مخدوع في صحبة الجبرتي، ولمَّا اطلع على رسالة ابن عطف الله التي فعلها في أحوال الصوفية، والتبري منها، تحقق الحال، فأخرجه الإمام من الحبس، وأكرمه، وخلع عليه، وكتب السيَّد هذه الرسالة من (العروس) بعد أن وصلت رسالتا التركي والجدر: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك اللهمَّ حمداً كثيراً عدد كلماتك التي تنفد البحار ولا تنفد، وأشكرك على توالي نعمك، شكراً يقيد ما وجد منها، ويستَدعى ما فقد، أو شرد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد، الفرد الصَّمد، ونصلي على نبيئه المصطفى، ورسوله المجتبى، المبعوث إلى الأحمر والأسود، وعلى آله
__________
(1) في (ب): تجارى.
(2) في (ب): والتصفيق.
(3) العَرُوس: جبل من بني مطر في غربي صنعاء، يحاذي جبل كوكبان من جهة الجنوب. معجم المقحفي 1055.
(4) في (ب): لم يتنزه.
الأطهار، المقتفين لآثاره المحبين لسبقه السَّالكين الطريق الأسد، صلاة دائمة متصلة يزيدهم بها شرفاً إلى شرفهم، لا حد لمنتهاها ولا أمد، وبعد، فإن لله حماية وعناية يحفظ بها بيضة الإسلام، وله على عباده نعم، أجلُّها الأئمة الأعلام؛ إذ بسياستهم تعمر المعاهد والمعالم، وينتصف المظلوم، ويقمع الظالم، وبنور هدايتهم يهتدي الجاهل، ويستقيم كل معوج عن الدِّين مائل، فهم الأساة(1) لداء الجهل، ولو أعيى الأطبَّاء وطال، وهم العلماء والهداة، فلا يقاس بهم غيرهم من علماء الأمَّة، ولو نال ما نال، ومذهبهم الشريف خير المذاهب، ومنار منهجهم المنيف يلوح لكل سارب، ومنهلهم العذب النقاح يروى منه كل شارب، اللهم كما رزقتنا اتباع مذهبهم، فثبتنا عليه حتَّى لا يروج لنا غيره، ولا نميل إلا إليه، وقد فعلت ذلك إذ ولَّيت علينا إمام الزمان، الذي زدته بسطة في العلم والسلطان، فكم نقم بسيفه للآل الكرام من /46/ ثأر، وكم ظالم منه صار على شفا جرفٍ هار، أذاق أعداء الله الظلمة الحتوف، وملأ بمن بقي منهم المنازل والكهوف، وأمن بحميد سعيه كل مخوف، وآوَى إلى ظله الظليل كل ملهوف، هذا تلذذ بذكر ما ظهر من مناقبه واشتهر، وإلا فلا فائدة بعد المعاينة إلى الخبر، وكم أحيا بعلمه من دارس(2)، وكم أضاءت به المحافل والمجالس، وكم تجلَّت به من مشكلات الحنادس(3)، وزالت به من شبهة وساوس، فَنَهْج هؤلاء الأئمة - عليهم السلام - هو المنهج القويم، الذي قال فيه تبارك وتعالى ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ? [الفاتحة:6]، وهو الذي بعث إليه ودعا إليه النبي الكريم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، هذا ما نعتقده، وبه ندين، ويعلمه الله وهو خير الشاهدين، هذه مقدمة لبيان ما صار عليه مولانا أمير المؤمنين، وخليفة الرسول الأمين، شرف الدين(4) شمس الدين بن أمير
__________
(1) الأساة: الأطباء.
(2) في (أ): مدارس.
(3) في (ب): حنادس.
(4) في (أ): ابن شمس الدين.
المؤمنين، من الذب عن الدين، وحياطة المسلمين، من لدن دعوته الحميدة الميمونة، التي بالصلاح والفلاح وبلوغ الآمال في رضا الله مقرونة، اللهمَّ فاجزه أفضل ما جزيت إماماً(1) عن رعيته، وحياطة هذا المذهب الشريف وهمته، برحمتك يا أرحم الراحمين، نعم لم يزل من بعيد دعوته - عليه السلام -(2) يذكر أمر هذه الفرقة المتصوفة لما ورد عليه سؤال في شأنهم(3)، وهو في حال مقاومة الدَّولة الظالمة الظاهريَّة التي انتقم الله منها؛ لأنه كثر في تلك الأيام ذكرهم، والتعلق بهم، فأجاب - عليه السلام - برسالة طويلة بيّن فيها - عليه السلام - ما يعرفه ويتحققه من قبح سيرتهم، وخبث سريرتهم، فمن أراد الاطلاع عليها، فهي موجودة، وكنت في ذلك الوقت بتفضله وعميم إحسانه أحد ملازميه، وأخص خلصائه، وفي تلك الأيام وصل إلى جهتنا بعض من يعتزي إلى هؤلاء المتصوفة، وتوهمنا فيه معرفة في الأسماء، ولم يكن لي اطلاع على كتبهم، ولا مارست أحداً ممن يخالطهم، فتعلق بقلبي منهم خيال، وأنس القلب إليهم(4) بعض أنس، وكنت كما ذكره - عليه السلام - في كتابه إلا في(5) هذا الشهر المبارك رجب كلما عرض ذكر ماهم عليه من نحس الكفر في كتاب أو خطاب، لم يصدر مني ما يطيب به خاطر الإمام - عليه السلام - مع علمه - عليه السلام - بتقدم تلك الصحبة، والإمام - عليه السلام - بحسن أخلاقه، وكثرة حفائه، وطيب أعراقه، لم يراجعني مراجعة حد يزيل عني الشبهة، ولا اطلعت على كتبهم التي فيها المقالات الكفريَّة، فلمَّا تقرر في نفس الإمام - عليه السلام - وجوب الهداية عليه بعد افتساحي منه - حفظه الله - فأمر بي إلى محروس (العروس)، وكتب إليَّ بخط يده الكريمة ما لفظه: لما علمنا علماً يقيناً حال هؤلاء المنتسبين إلى التصوّف، وخروجهم عن الدين
__________
(1) في (ب): وزد اللهم في رعيته.
(2) في (ب): لم يزل - عليه السلام - من بعيد دعوته.
(3) في (ب): شأنه.
(4) في (ب): لهم.
(5) في (أ): إلى هذا.
لا شك فيه، وخروج من انتسب إليهم بقول أو فعل أو تصويب، أو شك في كفرهم الآن، ومن وقت ما جرى منه الأقوال والأحوال المخرجة من الدين، وقع الخوف الشديد من الله الحميد، من المداهنة في الأمر وعدم الشدَّة. انتهى كلامه - عليه السلام -. وشدته - حفظه الله - رخاء وعاصفة، الذي عصفنا به إلى منهج الحق رجاء، وعد - عليه السلام - بوصول رسالة من القاضي محمد بن عطف الله، ورسالة من الفقيه حسن بن يحيى الجدر، فلما وصلت الرسالتان، وتحققت ما وضع الفقيهان مما ينسب إلى هؤلاء المتصوفة من /47/ المقالات التي تهول، والكفر الصريح الذي لا تقبله العقول، مثل القول بالحلول وتفضيل(1) الوَلي بزعمهم على الرسول، ظلمات بعضها فوق بعض، وضلالات تزلزل منها الأرض، فحينئذٍ علمت صدق عموم كلام الإمام - عليه السلام - بكفرهم، ومن انتسب إليهم، أو شك في كفرهم، علماً يقيناً لا شك معه ولا ارتياب، وكيف لا وقد خالفوا صريح السنة، ومحكم الكتاب، وعلمت بعد هذا أن التسامح في حقهم الصَّادر مني فيما مضى قبيح، وأنَّ الميل إليهم والتحسين وقع بغير تحقيق لقواعدهم ولا تصحيح، ولو كان الإنسان على ما يجده من نفسه لا ينخدع لهذه المجالات، لعلمه بما يجوز على الله ومالا يجوز من الصفات، فمن حام حول الحما يوشك أن يقع فيه، ومن يقارب الشك كيف يمكنه توقيه، ألا وإن(2) ذلك تحميل، فإن من أنس بشيء استحسنه، وإذا استحسنه، لهج به عند من يصحبه ويجالسه، والطبع سرَّاق، فيأخذ منه مالا يعرف في حق الله مالا يجوز، ومما(3) لا يجوز، ويتلقن منه ما يظن أنه بتلقنه يفوز، ثم يسمع هذه المقالات الكفرية ويظنها من الدِّين، فيهلك مع الهالكين، ويحشر في زمرة الكافرين، وذلك هو الخسران المبين، فيكون هلاكه على يديه، ويعود وباله عليه، فبعد تحقق هذه المقالات، وما يتبعها من الضلالات، يجب الإظهار للتوبة والأصحار والتبري من
__________
(1) في (ب): وبفضل.
(2) في (ب): فإن.
(3) في (ب): وما لا.
المتصوفة آناء الليل وأطراف النهار، وأُشهد الله، وملائكته أجمعين، وكافَّة المسلمين، أني إلى الله من النادمين، من الأنس الصادر مني(1) والاستحسان، وإني لا أعود إلى شيء من ذلك إلى لقاء الله الملك الديَّان، هذا مع أن الله سبحانه يعلم أني لم أسمع منهم من المقالات هذه الشنيعة إلى الآن، إلا ما سمعته من سيدي أمير المؤمنين(2) من تفضيل الولى على الرسول بزعمهم وطيبائه(3) كلام سمعه الإمام - عليه السلام - وهو عنهم تقول، وإلا ما سمعته من كلام المقري إسماعيل، صاحب (الإرشاد) في قصيدته التي ذم فيها المتصوفة، فإنه حكى فيها حكاية سبق حكايتها، وقال عقيب قوله:
أستغفر الله من ذكري مقالتهم ... فالْحَرُّ يلهف(4) من يدْنو من اللَّهب
__________
(1) سقط من (أ): مني.
(2) في (ب) زيادة: - عليه السلام -.
(3) في (ب): وهو.
(4) في (ب): يلفح.
هذا. ولولا ما جبَل(1) الله الإمام - عليه السلام - عليه من المحبَّة للهداية والإرشاد، ومصابرته على معالجة أخلاقنا السيئة، وجموحنا عن الانقياد، لبقينا على ذلك التساهل والغفلة، حتى - والعياذ بالله - تنقضي المهلة، وبدا لنا من الله مالم يكن في حساب، ووضع الميزان والكتاب، ووقعت المناقشة من ربّ الأرباب، اللهم فاحفظ علينا إمامنا - عليه السلام - وزده من التوفيق، وبلغه ما يؤمِّل(2) من خير الدنيا والآخرة، فهو له حقيق، وأطل عمره للمسلمين والإسلام حتى يعود كما كان في الصَّدر الأوَّل، ويبطل ما رسمه أمراء الظلم والجور، ويتحول بحولك وقوتك، يا أرحم الراحمين، هذا ما نسخ بقدر الإمكان، من مملوك الوداد والإحسان، عبد الله بن قاسم بن الهادي، وفقه الله وجاد عليه بالغفران؛ ليعرض على الحضرة النبوية الطاهرة، فإن جاء مطابقاً، فبركاته ذلك المقام المقدس، وإن قصر، فهو على متن الركة والفتور مؤسَّس، فليعتمده - عليه السلام - ولو هو بشهير عواره عالم، ويجر عليه بإحسان ذيل المكارم، وبعد السَّلام تقبيل الأكف الكرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وسلم.
قُبر السيد عبد الله العلوي (في القبة في القرية التي فوق بلد (عجرمة)، من جانب القبلة بجهة (حجَّة) قريب حصن (بنين) من جهة الشرق)(3) من بلاد (الحبر).
__________
(1) في (ب): أجل.
(2) في (ب): ما يأمل.
(3) ما بين القوسين ليس في (ب).
عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح [ - 877 ه ]
الفقيه المفيد النافع ميمون المقاصد عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح - رحمه الله تعالى- صاحب (التعليقة المفيدة)، ومصنف (المنتزع من الغيث شرح الأزهار)، الذي(1) كثر النفع به(2)، واشتهر بعبد الله بن مفتاح، ويسقط اسم أبيه، كان من عباد الله الصَّالحين، ومن أهل التحقيق في الفقه، وشرحه للأزهار(3) من أحسن الكتب، وأعظمها نفعاً، مع أنه قد شرح (الأزهار) جملة(4) من العلماء الكبار، ونهجوا فيه مناهج لم يكن في شرح بن مفتاح منها شيء، لكن الفقهاء لم يرفعوا لها رأساً، ولكنه وافق مراد الإمام - عليه السلام - قال العلامة يحيى بن محمد بن صالح بن حنش - رحمه الله -: أخبرني الفقيه عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح - رحمه الله - أنه رأى في المنام أن حيَّ الإمام المهدي أحمد بن يحيى - عليه السلام - في أرض بيده مسحاة من حديد، وهو يعمل في تلك الأرض، ويساوى حُفَرَهَا، فأخذت تلك المسحاة من يده، وسويت تلك الحفر، وفعلت كما يفعل، وروى لي - أيضاً رضي الله عنه - أنه رأى في المنام، أنَّ الإمام - عليه السلام -(5)، سأل رجلاً من السَّادة الذين تعلقوا بقراءة (الأزهار)، عن مسألة في الحيض، فأجبت عليه في تلك المسألة، فقال: أحسنت أحسنت مرتين أو ثلاثاً، وروَى لنا - رحمه الله تعالى - عن الفقيه زيد، أنه يروى عن الإمام المهدي - عليه السلام - أنَّ من استقبل القطب حال صلاته، صحَّت صلاته، ولمَّا وصل الفقيه المذكور، ذاكره في ذلك، فسمعنا عن الفقيه زيد - رحمه الله - عن الإمام انتهى. توفي - رحمه الله - يوم السَّبت سابع شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وثمانمائة، وقبره يماني (صنعاء)، وكان عليه مشهد قد تهدَّم، ولديه قبور غيره، وهو شرقي قبور(6) السَّادة آل الوزير، قال العلاَّمة سعد الدين المسوري،
__________
(1) في (ب): أنه الذي.
(2) في (أ): فيه.
(3) في (ب): وشرح الأزهار.
(4) في (ب): جلَّة.
(5) زيادة في (ب): كأنه.
(6) ليس في (ب): قبور.
أنه يعرفه، وزاره، وكذا أخبرني قاضي (صنعاء) العلامة حسين بن يحيى السحولي - رحمه الله - ورثاه محمد بن علي الزحيف - رحمه الله - فقال:
سقى جدثاً أضحى بصنعاء ثاوياً ... من الدَّلو والجوزاء غاد ورائحُ
كأن لم يمت حيٌّ سواك ولم يقم ... على أحدٍ إلا عليك النوائحُ
لِيبكِ ابن مفتاح فقير ومعول ... ومختبط ممَّا تطيح الطوائحُ
وتذكرة ثم الزهور وبحرهم ... فما الكتب غير البحر إلا ضحاضحُ
ورثاه - أيضاً - العلامة يحيى بن محمد بن صالح بن حنش - رحمه الله - فقال:
أمَّا عليك فقلبي دائم الفزعُ ... وكيف أسلو ووجدي غير منقطعِ
ولي فؤادٌ بنار الغمِّ محترقٌ ... ومقلة كُحِّلََت بالسّهد والوجَعِ
ومهجة فزعت ممَّا ألمَّ بها ... وأي حوباء لم يفزع ولم ترعِ
أم أيَّ عين تُرى ضنَّت بأدمُعها ... وأي قلب عليه غير منصَدعِ
كيف البقاء وأرضُ اللَّه مُظلمة ... مِنْ بعد سيدنا العلاَّمة /48/ الورعِ
الأوحد القدوة المفضَال أفضل من ... يمشي على الأرض من كهلٍ ومرتضعِ
الصَّائم القائم البر التقي له ... طرائق حمدت في الضيق والوسعِ
ترب العبادة يحكي في تقيده ... وفضله الحسن البصري والنخعي
وفي الزهادة عمرو بن العبيد فلا ... يرنو بطرف إلى شيء من الطمعِ
وفي الحلوم كقيس المنقري فلا ... يطيش إن طارت الألباب بالفزعِ
على طرائق أتباع النبيء مضى ... كأنه منهمُ من خير متَّبعِ
واحسرتاه(1) ولي قلب ندامته ... عليه تقصر عنها حسرة الكسعي
قد كان في الأرض نور يستضاء به ... فعمَّت الظلمات الأرض حين نُعِي
وكان عوناً على الأحداث إن نزلت ... يلوذ منها بطودٍ شامخ منِعِ
وكان في العلم كالرَّوض الأنيق لنا ... إليه منتجع في كل منتجعِ
إذ كان في حلق التدريس بهجتها ... كالبدر في هالة الأنوار منصدعِ
فخاننا ودهانا بعد إلفتنا ... ريب المنون فلم نترك ولم ندعِ
__________
(1) واحسرتاه.ظ
ثُلَّتْ عروش الهدى من بعد غيبته ... وأصبح الدين نهباً غير متبعِ(1)
عبد الله بن أبي القاسم البشاري
علاَّمة الزيديَّة، شحاك المبتدعين، عبد الله بن أبي القاسم البشاري - رحمه الله - كان لسان الزيدية في وقته، شحاكاً للمطرفية، وله ولهم مقامات، وردَّ عليهم إلى (وقش) بعد أن كان لقي مطرف بن شهاب، ثم ناظرهم في وقش، ومن عباراته ما حكاه محمد بن رؤَاد(2) المطرفي، قال: قدم علينا عبد الله بن أبي القاسم البشاري إلى وقش، فتكلم مع المشائخ في اختراع الأعراض من الله تعالى في الأجسام التي وجدت مقرونة بأعراض توصف بها، فقاولهم، قال: فما يقال في مثل ذلك؟ قالوا: يقال: تغيرت الأجسام، واستحالت بقدرة الله ومشيته، فقال لهم: لا يستحيل إلاَّ الثور، أراد - رحمه الله - بذلك معنىً يستعمله أهل اليمن في الدَّابة إذا أعيت، فلم تبرح مكانها، أمَّا من ضعف، أوكَدَّ في عمل، أو نحو ذلك، فيقال حينئذٍ: استحالت.
وروى زيد بن أحمد بن عبيد الله بن الخطاب من علماء التطريف، وأصله من أهل (عجار)، من مشرق حاشد من (همدَان)، ونسبته في (شاور)، قال: سمعت محمد بن إبراهيم بن رفاد، يحكي أنه دخل عبد الله بن أبي القاسم البشاري(3) أيام سليمان بن عامر الرواحي، وبه جرب، فماطله الطبيب عن الدَّواء؛ لعله(4) بمخالفته لهم في الإحالة والاستحالة، ولم يرض أن يداويه حتى يقر بمذهبهم، فترك التداوي وانصرف.
قال بعض السَّادة آل الوزير - رحمهم الله -: وكانت بين عبد الله بن أبي القاسم وبين علامة التطريف شُريح بن سعد الشهابي مراجعات، ولعبدالله قصيدة أجاب بها شريحاً(5):
أمَا والَّذي أرجوه لا زلت منكراً ... على من بغى في الدين واغتاب وافترى
وحَسْبي إلهي منصفاً لي وحاكماً ... عليَّ ولي في كل ما بيننا جَرَى
وهي طويلة /50/ وفيها:
__________
(1) في (ب): ممتنع.
(2) في (ب): آماد.
(3) في (ب) زيادة: شبام.
(4) في (أ): لعلمه.
(5) في (ب) زيادة: أولها.