قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: ونحن نذكر هاهنا لمعة من الكلام فيما ذكره عيون علماء الإسلام، والذين إليهم الحل والإبرام من بين جميع الأنام في تكامل الخصال الذي فيه عليه السلام، الذي شهد له بالإمامة وصحت له الزعامة، هذا واسطة عقدهم، وسنام مجدهم في جهاتنا وفي غير بلادنا من ديار العراق، والذي بلغ إلينا على لسان من شاهده وسمع كلامه من العلماء أنه أوحد الزمن في العراق واليمن، العلاّمة المتكلم، فخر المجتهدين، وقدوة المتهجدين، حسام الدين سيف الإمام المنصور بالله عليه السلام على أرباب البدع المتمردين، السابق المجلي رضوان الله عليه كان ممن تطرب بذكره المحافل، ويثنى عليه الثناء الطائل، ويشهد باجتهاده وكماله، وأنه أوحد زمانه، بل سمعناه يقسم بالله الذي لاإله إلا هو ما يعلم على وجه الأرض ذات الطول والعرض أفضل منه، وهذا نهاية الحصر للإمامة والفضل فيه رضوان الله عليه وسلامه، وعرضت عليه مسائل نهاية الإرشاد فحكم له ببلوغ درجة الاجتهاد، وكان ممن حثه على القيام وأنه أولى الأمة بالحل والإبرام، وأن القيام قد تعين عليه.
ولما دعا عليه السلام كتب الفقيه رحمه الله الرسائل إلى الأقطار، وشهد باجتهاده وكمال الخصال فيه لمن بعدت داره في الأمصار، قال في رسالته الموسومة بـ(الكاشفة عن لوازم الإمامة[20أ-أ] لطالب الأمن يوم القيامة) بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر طرفاً من مناقب الإمام المنصور بالله عليه السلام، ثم قال بعد ذلك: فقد زادنا الله نعمة بعد هذه النعمة، ومنة بعد هذه المنّة، بقيام مولانا السيد الإمام، خيرة العترة الكرام في زمانه، وتاجهم المكلل في أوانه، أمير المؤمنين الصادع بالحق المبين، المهدي لدين الله رب العالمين: أحمد بن الحسين المبرأ من كل شين، بعد إحرازه لخصال الإمامة، وانفراده على أهله بخلال الزعامة...إلى قوله: بعد أن لبى دعوته الأفاضل، وسادة العترة عليهم السلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وأطبق الكل على إمامته، وشهدوا بخلافته...إلى قوله: فشمروا في طاعة مهدي عصركم عن ساق، وسلوا بين يديه المصقولة الرقاق، واعلموا أن الجهاد بين يديه كالجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإياكم أن تظنوا أنكم على سداد، أو في منهج رشاد إن رفضتم طاعة أمير المؤمنين، المهدي لدين الله رب العالمين، وكيف ترجون أن تكونوا أتباع العترة إذا رفضتم قائمهم في زمانه، وسابقهم في أوانه، هيهات هيهات هذه ظنون كاذبات، وأماني باطلات، لا صحة لها ولا ثبات.
وقال رضي الله عنه في رسالته الموسومة (الباعثة لذوي الإيمان على الالتزام بطاعة إمام الزمان) قال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على محمد صلى الله عليه: أما بعد:
فإن نعم الله وإن فاتت العد، وتجاوزت الإحصاء والحد، فإن من أجلها قدراً وأعظمها خطراً ما منّ الله به علينا يا أهل هذا العصر، وأتحفنا به يا أبناء هذا الدهر من قيام مولانا ومالكنا الإمام، الأعلم الهمام، المهدي لدين الله أمير المؤمنين رب المعالي والمكارم أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم، فإن قيامه من النعم الجسام، والأيادي العظام...إلى قوله: وهو سلام الله عليه المحرز لقصبات السبق، المجلي في مضمار الحق، نشأ على طهارة معروفة، ومحاسن موصوفة، وفاق بورعه المبرزين في ميدان العفاف، وكف عن الأمور المشتبهة أحسن كفاف، حتى أنه لم يعرف أنه أتى مليماً ولاقارف ذميماً، ولا واقع نكراً، ولا آثر هجراً، بل تحلى بالورع قولاً وعملاً، وتفصيلاً وجملاً، وله في ذلك المزية التي لا تنكر، والحظ الأوفر، وإن نظرت إلى حلمه وجدت طوداً راسخاً، وشرفاً بالوفاء باذخاً، وإن شاهدت أخلاقه الرضية وشمائله المرضية عاينت ما هو أرق من السلسال، وأعذب من الماء الزلال، ولقد وسعت جميع الخلائق، وغدت طرازاً في محاسن الطرائق...إلى قوله: وإن طلبت البحث عن العلم بالفنون، فلديه الصفو المكنون، والجوهر المخزون، قد ضرب في كل عرق بنصيب وافر، وأضحى قدحه فيها القامر، يستنبط فيها الغرائب، ويرى محاوره منه العجائب، بلغ درجة الاجتهاد المطلوبة، وأضحت أنوارشموسه غير محجوبة، وهاهو قد نصب نفسه في ميدان السؤال ومقامات الجدال، لا يتكدر خاطره لمشكل، ولا يعيا عليه فتح مقفل، يجلي[20ب-أ] المبهمات، ويفك المشكلات، ويكشف المعضلات، يرد الغامض بعذوبة لفظه وقرب معانيه جلياً، ويضحى بكل سائل لطيفاً حفياً.
وهذه من مهمات خصال الإمامة فهو منها في أعلى المراتب، وأسنى الذوائب، من أنصف نفسه كان لذلك بصيراً، وإلا فليسأل به خبيراً، مع جود تهطل ربابه، وندىً تمطر سحابه، لا يظن بالمال، ولا يتغير بتغير الأحوال، ولا يطول بالإدخار، ولا يعمل عمل الاحتكار...إلى قوله: وله من شريف القصد وحسن النية في إحياء الدين وإخماد نار المبطلين، لا يهاب عدواً، ولا يزداد على ممر الأيام في الهمم الشريفة إلا علواً وسمواً، قد وطن نفسه على إحدى الحسنيين، مقتدياً في ذلك بمن سبق من ذرية الحسنين...إلى قوله: وقد زاد الله الخلق بصيرة في أمر هذا الإمام عليه السلام بأن جعل له من الكرامات التي خرقت العادات، فسارت بها الركبان، ونقلها القاصي والدان، وتغلغلت إلى البلدان، وبلغت إلى حد يتعذر فيه الإنحصار، فكم من أكسح عافاه الله، ومن ردي بصر شفاه الله، وألم زال ببركة دعائه، ومرض شديد ذهب بشريف ندائه، وظهور ذلك يغني عن بيانه، وضرورته تنوب عن برهانه، ظهرت للأعداء والأولياء {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يسبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم فاسقون}(1)، فكونوا رحمكم الله ممن زادته هذه الآيات إيماناً، والبركات الظاهرة إيقاناً، واعلموا أن الله لم يظهرها على أمير المؤمنين المهدي لدين الله سلام الله عليه إلا لارتفاع منزلته، وعلو درجته، لولا علمه بأنه ذو فضل عظيم وشرف عميم لما جعل له هذه الكرامات الظاهرة، والآيات الباهرة، ولم يرد تبارك وتعالى بها إلا تقوية خواطر الخلق إلى اعتقاد إمامته والقيام بطاعته، والجد في معاضدته والتشمير في مؤازرته، فاعرفوا أيها المسلمون حقه الواجب، وقوموا لله تعالى في تلبية دعوته بالفرض اللازب، وحكموه في الأنفس والأموال، وامتثلوا أمر ذي العزة والجلال...إلى كلام طويل عجيب موضوع في الرسالة المشهورة.
وله رحمه الله من الكتب العجيبة الرائعة في هذا الشأن ما تتضمن ما ذكرنا، وتكلم الشيخ العالم جمال الدين أحمد بن محمد الرصاص بكلام سمعه الجمع ووعاه كل سمع في صحراء ثلاء على المنبر، وكان كثيراً ما يذكر في خطبته نعوته الشريفة بالصفات التي هي أحلى من الضرب وأحسن من ذوب الذهب حيث يقول: اللهم وصل على ذي الوجه الوضاح، والحسب الصراح، الحامي حماك بلهاذم الرماح، وعروب صفائح الصفاح، إمام أهل الأرض، القائم بالسنة والفرض، الذي جبلت قلوب المؤمنين على مودته، وفتحت أبواب النصر نير طلعته، الذي ليس للمسلمين إمام سواه، ولا خليفة حق في الأرض إلا إياه، [21أ-أ] المبرأ من كل وصم وشين، المكنى بأبي الحسين أمير المؤمنين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم يرادف ذلك بالدعاء المسجع، والكلام المرصع، وله من الكتب إلى جيلان وديلمان وتلك البلدان وغيرها.
وهذه نسخة كتابه إلى جيلان وديلمان، وقد نقلنا منه ما يتعلق بالسيرة المهدية سلام الله على صاحبها حرفاً بحرف أوله بخط الرصاص.
قال بخطه: من الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد بن الحسن إلى جهة الجيل والديلم مع الأخ البر رحيم داذ.
هل ركب مكة حاملون تحية
أغضى الجفون على معين ساجم
إن لم يبلغها الحجيج فلا رموا ... تهدى إليكم من محب مغرم
وطوى الضلوع على جوى متقدم
بالجمرتين ولا سقوا من زمزم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم
كتابي إليكما أيها الحبران الكاملان، الصدران الفاضلان، شيخا الإسلام الداعيان إلى الله وإلى رب الفضل، وولاة العقد والحل...إلى قوله: {سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم}(1) تحية من عند الله مباركة طيبة تفيض بالخيرات أنواؤها، ويتوالى من ذي العرش حباؤها، وتضيئ حنادس البعاد لألاؤها، سلام على معاهد العلم وربوعه الذي طهر البر عراضها وأنديتها، وراح للدين الحنيف على نشر التقوى ساحاتها وأفنيتها، وشاد على دعائم الهدى سادات الورى ذراها وأبنيتها، بقرارة جيلان وديلمان، وذات الرسم الباقي والأثر الخالد من حديث الطوفان، فهناك حط الفضل رحله وطنب رواقه، وألقى الفقه بقاعه وأرخى غزاليه دفاقة، وإن أرضاً كان الناصر للحق عليه السلام مرسي أوتادها، وضارب أسدادها، وخائض غمارها، ومعين قوادها، ومشكاة أنوارها، وناهج محجتها على واضحة ليلها كنهارها، لأرض محفوفة بفخامة خطرها، ونماء سعيها، وتحليل ذكرها، لا جرم أنه لأثر شامخ الشرفات، باذخ القذفات، راسخ القواعد والأساس، محكم القرائن والأمراس...إلى قوله: فهو عليه السلام أبو عذرها، وطليعة نبوها، الذي هتفت به الصحف الغوابر، وآذنت به قبل أوانه البشائر، وتزينت بذكره الأسفار وابتهجت الدفاتر، رعف به الزمان، وتبلج به ذلك الأوان، فلم يزل يدندن حول تلك الديار ويحوم عليها بأسفار وتطيار، وعقد وإمرار، وعزم لا يلويه وكل، وحزم لايثنيه دخل، حتى أعطى مقاليدها إذ رام إصلاحها، ونبذ إليه الإسعاد مفتاحها إذ حاول افتتاحها...إلى قوله: فورد صريخ ضربها من ورد من أئمة الهدى، وأقمار الدجى الذين أضاءت بأنوارهم المشارق والمغارب، ورتع في رياض علومهم الأعاجم والأعارب، سلام الله وبركاته وصلواته على تلك الأرواح[21ب- أ] في مساء وصباح، فما انفك السلف من أئمتنا عليهم السلام ينحون ذلك المنهاج، ويلمع ضوء لألائهم من تلك الهالات والأبراج، وينتابوها من العراق بتآويب وإدلاج، فأول من عشا إلى ضوء نارها
فأتبعه، وشام برق الحيا في ربابها فانتجعه السيد الإمام أمير المؤمنين المهدي لدين الله أبو عبد الله محمد بن الحسن الداعي عليه السلام، فأحيا تلك المآثر التي ما بقيا لها على مرالجديدان أُثر...إلى قوله: ثم تلاه الإمامان اللذان هما هلالا هالة الأمة المحمدية، وواسطا عقد النحلة الحنيفية كما أن قطر اليمن ما زال وكر الأئمه الزيدية وأشياعهم من لدن الهادي إلى الحق عليه السلام إلى هذا الأوان، ينادون فيه الصوت العالي ويخفق فيه كوكب مذهبهم المتلالي، ويرث الأول الثاني، فهم كذلك يأثرون فيه الدين قرناً بعد قرن، ويروونه خلفاً عن سلف من آل القاسم عليه السلام وأشياعهم الكرام...إلى قوله: ولقد جمع الله تعالى للإمام المنصور ذي المجد المعمور، والشرف الموفور، والعلم المأثور، والسيف المشهور، أمير المؤمنين والخليفة الصادع بالحق المبين، حليف القرآن، ماضي الجنان واللسان أبي محمد بن عبدالله بن حمزة بن سليمان كريم الحظين، من أحيا دين آبائه الكرمين في هذين القطرين، واقتفى سنن هذين الإمامين، المحتذي لمثالهما، الناسج على منوالهما، حتى استد الأمر، وانتظم البحر، واتصل السؤدد والفخر، فحق حينئذ على أهل كل ناحية أن يكون له على من فيه طليعة ورقيباً، وأن يسمعهم صوته مثوباً وهيباً، أن هلم فإن طالع سعدنا قد بارى فلق الصباح، وإن أملنا الذي كنا نعد له الأيام ونبتهل له طوالع الشهور والأعوام قد أذن بالنجاح، وحيعل بالفلاح.
نعم فأصدرنا أعزكم الله هذه الكلم المسطورة، والأحرف المزبورة، عجالة ذي أوفاز، وقبساً من مجتاز، ولمعة من بارق، ونبذة من طارق، وغرفة من بحار، وصبابة من تيار، كما شاهد متحملها أحسن الله توفيقه، وأنهج له طريقه حين أزمع الترحال، وشد الرحال في يوم الأربعاء من ذي القعدة سنة ستة وأربعين وستمائة عن نعم صفا بالإقبال مشارعها، وقرن بالسعود مطالعها، وروض بنيل الأماني مكارعها ومرابعها، وحقق من آمال المخلصين دانيها وشاسعها، وأرى قرة العين شاريها وبائعها، وفتح عن أجفان السرى وأصمختها أبصارها ومسامعها، فحمداً له سبحانه حمداً يدر بالمدرار المزيد غمائمه، ويفوح بنهج القبول نوافحه ولطائمه، أسعدت فوائد الزمن بقيام قائمنا باليمن، فصاح طائر آل زيد بن علي على فنن، فليهنكم ماسناه الله وأدناه، وحبانا وإياكم من هذه الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، التي نضى الإيمان نقابها، ووصل بعز السعادة أسبابها، وضرب على قواب الغر قبابها، ومد بالتمكين وسيمد وله الحمد أطنابها، [22أ-أ] ولابد من إيداع هذه المكاتبة طرفاً من تعريف نعوته وسماته التي حاكت ضياء الغزالة، وأعشت نور ذي الهالة، خذوها قطرة من مطرة، ومجة من لجة، وهاؤم اقرءوا كتابيه، ثم استقروه بجدوة علانية، فليس الخبر كالعيان وما أفلح من مان، هو الإمام المهدي لدين الله أمير المؤمنين أبو الحسين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبدالله بن القاسم بن أحمد ابن أبي البركات، وهو إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم أشرف التسليم والتكريم، نشأ عليه السلام بين التنزيل والتأويل، ودرج بين التحريم والتحليل، من آباء بررة، وأجداد طهرة، ما بعد هؤلاء الذين سميناهم إلا من نفح عرف الصلاح من ثيابه، واشتد حبائل التقوى بأهدابه، ونسبه كله سلسلة الذهب الصريح، غير المؤتشب بين إمام سابق و مقتصد لاحق،
وغصن رائق عن أصل في ذروة المجد باسق، ولما ترعرع غصناً مترعرعاً، سلك من وراثة آبائه الأكرمين طريقاً متبعاً، وسبيلاً مهيعاً، فلم يزل يتوقل في درج العلم حتى تسنم ذراها، وتفيأ في ظليل دراها، ثم لان له من الغوامض جامحها فأسلس قيادها، ووطأ شدادها، وأعلى نجادها وأسال وهادها، وجاس خلالها، وخاض أعدادها وأوشالها، فهذا علم الكلام وأصول الدين قد قرأ فيه فصل وحصل، ودقق وجلل، حتى وقف منه على المكنون، وجمع أبكاره والعون، ثم أصول الفقه وهو النمط الأوسط بين التصرف العقلي والتحكم الشرعي، فقد جلى جواده في مضماره، وتغلغل في أنجاده وأغواره، وتكشف له دقائق غرائبه وأسراره.
وأما في الفروع فله فيه اليد الطولى، والقدم الراسخة.
وأما الفرضيات فله فيها أوفر الحظ والنصيب، وقد رمى في أعراضها بالقدح القامر والسهم المصيب، وله فيها غوص الباهر الألمعى، وفحص الناظر اللوذعي.
وأما علوم الأدب فقدمت فيها بحبل متين، وتشبث من مبادئ اللغة ومعرفة مفرداتها، ثم معرفة حركاتها وأوزانها إلى حد الكفاية والزيادة، ثم علوم القرآن الكريم، فقد اندرجت تحت هذه وأزاد من وراء ذلك قراءة ما وضعه المفسرون من أهل البيت عليهم السلام، وأشياعهم من علماء الإسلام، فاطلع ذلك الفجاج، وأخذ يقرأ تلك الأدراج حتى أضحى مجاله فيها رحيباً، وجواد حلبته يعسوبا، ثم الآثار النبوية والأحاديث الصحابية، والسير المقتصة فقد أخذ أحدها أخذ مثله، وعلقت بخاطره إلى حد أعوز الطرق مثله وشكله.
فهذه رحمكم الله وأعز بكم دينه، أودية العلم وغيطانه، وحدائق الحكم ومظانه، قد ملك رباها، وحمى حماها ورعا كلاها، وملاك ذلك كله [22ب-أ] جودة الاستنباط وحضور البال ويقظة الخاطر وانتباه الذهن وحسن الفحص عن لطائف المغمضات، واستثارة دقائق الغوص المبهمات، ولقد رأينا منه عجاباً في كتاب: (بغية المرتاد) وهو جواب عن مسائل فقهيه وهي عديمة النص في الأغلب سأله عنها الشيخ الصدر العالم محيي الدين عطية بن محمد بن أحمد النحراني، فحلل عقدها، وفتح سددها، وقوم بالإيضاح إودها، وأفاض عليها خليجاً من بحر علمه الزخار، وفيض مده التيار، وينبوع فهمه الفوار، حتى حسرت عن لثامها الاختبار، وكشفت برقعها للنظار، قد نظم في سلكها اللؤلؤ والنظار، وكاد برقها يذهب بالأبصار، ثم فاتحه في الكلام من فاتحه من علماء اليمن فرأى منه ما يبهر العقول نوراً، ويرد الطرف دونه حسيراً.