والمكان ما فات به النظير، وصغر معه كل كبير، لا يسبق بكلام، ولا يمشي خلف إمام، ولا يقعد إلا في الصدور، ولا يمد عينيه إلا الندرة، يعظمه الكافة ويبجلونه، ويحف به العلماء ويشيعونه، ويؤملونه للقيام ويؤهلونه، وهو إذ ذاك في رغد العيش وسعة الرزق تهدى إليه تحف الطيبات، وتجبى إليه من كل الثمرات، ناعم الحال، فارغ البال، يتفنن في مونقات رياض العلم، ويتفكه من يانعات ثمار الفهم غير أنه لما ظهرت فضيلته، وذاعت في الآفاق كلمته، ورسخت في قلوب الناس محبته، وبذلت له النصرة على القيام بأمر إليه وجوه القبائل، وأرباب المعاقل، وكان قريباً من ديار الظالمين، ومنازل المجرمين، ومحال المفسدين، وقرارة الملحدين، وهم على ماهم فيه من إنكار النور، وارتكاب الفجور، وشرب الخمور، وإتيان الذكور، وقعت عليه الحجة لله، ولم يسعه القعود عن الجهاد في سبيل الله، فقام عليه السلام في أمر الله مشمراً، ولمرضاته مؤثراً، واستبدل عما كان فيه من الدعة بما صار إليه من تحمل الأثقال، وكره القتال، ومعاناة الجهال، واستغراق أوقاته بالاشتغال بحيث لا يلتذ بطعم ولا نوم، ولا يفرغ لأمر يخصه في ليل ولا يوم، صابراً لله محتسباً متعرضاً لمنازل شريفة، ولزلف عظيمة في مقام كريم {وما يلقاها إلا الذين صبروا ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم} فما أشبهه عليه السلام بسلفه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبه إنكارهم بإنكار المنكرين لنبوته المكذبين من أهل الكتاب والمشركين بعد أن كانوا يسمونه الأمين، ويعدونه في الصديقين، وكان أهل الكتاب يستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومنها أن طريقته عليه السلام منذ قيامه إلى يومنا هذا واحدة، وأفعاله الحسنة على قصودة المخلصة شاهدة، ودلائل زهده في الدنيا ورغبته في الأخره مترادفة، ألم يروا وقد مكن الله في الأرض بسطته، وأتم عليه بالفتح والنصر نعمته، وأفاده لنفسه من جزيل الأموال، وطيبات الحلال من النذور والبر والأنفال ما لا يحصره الحساب، ولا تحده الخزائن والأبواب اللهم بلى وعسى لو فرغ لهما بعض الأمصار أو المدائن الكبار كيف [150أ-أ ] أفناها نوالاً، وقسمها سجالاً، وفرقهاً يميناً وشمالاً، ولم يكنزها قناطر مقنطرة، ولا أبقى منها ذخيرة مدخرة، ولا سكر ولا دسكر منها سكرة، ولا تحجر بها ضياعاً، ولا جنى لعدمها متاعاً، ولا عمر داراً، ولا استقر قراراً، ولا يعمل لنفسه من معايشها دثاراً ولا شعاراً مع جواز ذلك كله، وظهور إباحته وحله، ولو تمكن كثير من هؤلاء المظهرين للزهادة، المتشاغلين عن الفروض بنوافل العبادة من بعض من ذكرنا لضاقت به وبأهله الأرض، ولشغله أهله وماله عن النفل والفرض، ولا أخلد إلى قرارت الأوطان، وأوسع من مكسوبات الأطيان، وشيد رؤوس القصور وشرف، ورفع غرف الدور وزخرف، ومال بنفسه إلى تخفيف التكليف وعدلها، وعذرها في ترك الجهاد وتأول لها، ونزر نعم الله عليه وقلل وغمغم، ونكس رأسه أن يسلل، وأنفق عرضه دون ماله وبذل، وأخذ من الدين ما يسهل، أما ابن الحسين فكلا بل بنا بها مجداً، وأنفقها في سبيل الله عرضاً ونقداً، واتخذها عند الرحمن عهداً، سمع قوله تعالى: {جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} فامتثل وجاد بنفسه الكريمة وأمواله الجسيمة في ملاحم الجلاد، ومواطن الجهاد، وبذل حتى أباد المجرمين، ودمر الظالمين، وقمع المفسدين، وأعلى كلمة الدين، وتمكن في البلاد، وأيده الله في الإمداد، وأظهره على أضداد فقلتهم وأخذهم في كل مرصد، وشردهم كل مشرد إلى أن غلب على بعض أهل دعوته الحسد، وطال على بعضهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون،
فهناك أوحت شياطين الجن إلى إخوانهم من الإنس بالتخذيل، وألقى بعضهم إلى بعض زخرف الأقاويل وغرور الأباطيل، وخاضوا في قال وقيل، فلبسوا على من ليست له بصيرة، واستظهروا بكل قبيح السيرة خبث السريرة، قربوا من كانوا يباعدون، وأنسوا من كانوا منه يستوحشون، ووسموهم بسمة الدين، ولبسوهم جلود الضأن من اللين، وسودوهم بإمامهم مبخسين، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير متعمقين: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضائت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
ومنها إنما عرف من طريقته، وظهر من سيرته في سني دوله من التصرفات المشهورة، والأقوال والأفعال المقرورة، مشهودة محصورة، لم يبتدع فيها أمراً منكراً، ولا جاء شيئاً نكراً، ولا اكتسب إثماً، ولا ركب محرماً، بل أقام ديناً قيماً، واستقام حنيفاً مسلماً، يؤدي فروض الله ومسنوناته، ويتحاما معصياته ومكروهاته، ويتوخى المزلفات من قرباته، ويقيم حدوده، ويأمر بالعدل والإحسان عبيده.
فأما مطاعنهم بما ينكرون من بعض عماله ونوابه وأعوانه وأصحابه من ظاهر عدوان في زيادة أو نقصان، أو قلة إحسان فقد جاءوا ما هو أنكر وأدهى وأمر، وأصحابهم وأعوانهم أشر وأظلم وأجور، ومن في جنبة أمير المؤمنين كأين جابر، وأين غدير العاثر، أو كجنائز الفاجر، وكم أعد من ختار كافر، فإذا كان هذا أشف ما يذكرون، وأقوى ما عليه يعتمدون وبه يستبصرون فهم إذن شر مكاناً، والله أعلم بما يصفون.
فأما ادعا التوبة وإظهار الأوبة، فكيف، ومعنى التوبة ما كانوا يحققون، ودارت رؤوسهم فيه يدرسون، فسألوهم إن كانوا ينطقون أليس الندم على مافات والعزم على ترك العود ونحن نعلم وأنتم تعلمون، وربما أنكم لا تنكرون أنهم ما ندموا على ما مضى منهم من حرب المسلمين، ومعاندة أمير المؤمنين، وقتل الربانييين، وظلم الضعوف والمساكين، ومناصرة المفسدين، وموالاة المعتدين، وكيف وهم اليوم بما كانوا أتوا يفرحون، ويفتخرون بتلك الأفاعيل ويمتدحون، ولأمثالها مواقعون، وفي أسوأ منها يسارعون.
فأما ترفيههم على الرعية، وكفهم عن الأذية فإنها أشباك محاص، وأشراك اقتناص، وأنّى لعلي بن وهاس ويحيى بن حسن العدل في الناس، ومن ثم من أمثالهما من الأجناس، وهم الذين حملهم الهلع وشدة النهم في خبيثات الطعم على خدمة عنم العجم والتسبب لجمع الحطام بكسب الآثام، ومحاربة أهل الإسلام قبل قيام الإمام وبعد أن قام، فكثير منهم ما عدل به عن ثدي أمه إلا إلى سرب السحت، وطعمه فيه اغتذاؤهم ومنه مكسبهم، وفيه إلى يومنا هذا تقلبهم، فليت شعري متى حصول هذه القناعة، أو من هذه الساعة، فأنتم لعداتهم راجون، ولمكرهم آمنون، وإألى من لا ينصركم منهم إذا تمكنوا راكنون، وعلى من لا يحكم عليهم إن مكنوا واكنون، مالكم لا تنصرون أفلا تذكرون، أم حسبتم أن الملح الأجاج يعذب باصطفاف الأمواج، والعرجون القديم يعود مستقيماً عن الإعوجاج.
وبعد: فإن عتوبهم على إمام المسلمين بذنوب المتصرفين فروع بلا أصول، وقطوع من غير تحصيل؛ إذ مبناها الظنون، وتكوين ما لا يكون على أن ما ظهر منها وتحقق وشهد به اليقين ونطق، فقد جعل الله لأمير المؤمنين منه مخرجاً؛ إذ لم يجعل عليه فيما اكتسب غيره من الإثم حرجاً {كل امرء بما كسب رهين}.
فأما إذا بلغه فما يقصر عن تغيير، ولا يكف عن نكير، وقد يصفح عن اليسير، ويتشاغل بالأمر الخطير، ويؤاثرهم الأشياء، ويداوي أخطر الأدواء عملاً بحسن التدبير، ولا سبيل له إلى عصمة المكلفين، وإكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولا عليه إذ أمر فلم يطع، ومنع فلم يمتنع إلا ما عليه في عصيان هؤلاء الخارجين عليه، فقد كان يأمرهم بمعاونته، ويحثهم على موازرته، ويدعوهم إلى الدخول معه في التكليف الشاق، وتحمل المشاق، فيتركون ذلك لما هو ألذ وأشهى [151أ-أ] وإن كان أوهن وأوهى من السكون في المنازل، والتفكه في المآكل، والإتكاء على الوسايد، والتفيء في ظل المساجد، إذا قال: انفروا، اثاقلوا إلىالأرض وخفوا بالطعن عليه والرفض ، يغتابونه ويبهتون، ويقولون ما لا يعلمون، وقد أفردوه، وقد أغشاهم العدو فما شرد، وقعدوا عن الجهاد وما قعد، وائتمروا عنه من ثغور الإسلام فسد ذاباً عن الذمار، يقارع سيوف الكفار، ويحامل عن حوزة الدين كلاب الأشرار، كالأسد الزآر حتي إذا عز جانبه، وأردت بأعداء الله مخالبه، فأجلاهم عن ديارهم، وحاز المغانم الكثيرة من أموالهم وعقارهم كفوا عن الطعن عليه، واقتادوا مسرعين اليه، وألفتهم وألفيتهم واضعي رؤوسهم ينهشون من فريسته، ويتهاوشون على نهيشته، أشبه شيء بالضباع النهمة، والسباع الجائعة، وقد رفعوا أعراضهم أعراضاً تتنصلها سهام اللوام، وينصبوا ثياباهم نصباً يلطخها العوام بأدناس المذام، سمان بطان، وهو خميص البطن عن الحرام، نقي الثوب عن الأوصام، قد رفع رأسه لخواطف أسباب الحتوف، ونص جنبه لأطراف الرماح وشفار السيوف، يقيهم بنفسه، ويحميهم من أخذ العدو ومسه، فما أشبهه حين يصول بقول عنترة حيث يقول:
خبرك من شهد الوقيعة أنني
?
?
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولئن كانوا لمحاسنه مقبحين، ولملح مكارمه مشوهين، وله مكذبين، ومما يقترفون عليه معجبين، ولما لا يعلم فيه من المساوئ متوجدين لياً بألسنتهم وطعناً في الدين، فتلك سبيل أسلافهم الماضين من أعداء النبيين كما قال أصدق القائلين: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين}، وله عليه السلام أسوة حسنة بالأنبياء، سخر من نوح فأغضى، ومكر بإبراهيم الذي وفى، وكذب هارون وموسى، واستهزئ بمحمد المصطفى، وخرج على علي المرتضى قوم علماء وعباد وقراء، وما من نبي ولا إمام إلا قاتله ضلال قومه، وعتاة أهل عصره بما قوتل به إمامنا هذا: {فقالتهم الله أنى يوفكون أتواصوا به بل هم قوم طاعون}.
أيها الناس فعليكم باتباع أمير المؤمنين فإنه الحبل المتين، والسبب بينكم وبين رب العالمين، فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تسمعوا ولا لهم إن قالوا: هلم إلينا وعوقوا، ولا يكبرون عليكم اسم فلان وفلان فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أراد أن يفرق بين أمة محمد وهي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان))، فلا يؤنسكم أنكم بهم متمسكون، ويوسيكم أنهم معكم في السبيل سالكون، فلن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون، ولا تغتروا باستظهار المبطلين وغلبهم إن كانوا غالبين، كأن قد غلبوا هنالك وانقلبوا خائبين، وإن العاقبة للمتقين، وإن الله لمع المحسنين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد الأمين، وعلى الطاهرين من آله الميامين وسلامه.
رجع الحديث
ولما بلغ القوم [151ب-أ]نهوض أمير المؤمنين من حصن مدع، وقد كانوا نزلوا إلى غيل شوابة وأزمعوا على أخذ أموال المسلمين، وانتهاب زرائع الضعوف والمساكين، فحين بلغهم ذلك نهضوا إلى بلاد الصيد فحطوا في الحيس ما بين يناعة وبلاد عيال عبد الله، ولما سمع أهل ذروة بقرب أمير المؤمنين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وقلقوا وكتموا أمورهم، وراموا مراماً فأكذبهم الله تعالى، حتى إذ كان أول عسكر أمير المؤمنين قريباً من الشطبة سمعوا النقارات والآت الحرب طاروا على رؤوسهم لا يلوي أحد منهم على أحد، فرموا بنفوسهم مهاوي الجبال والحيود، ولم يشعر بهم أهل حصن حقيل المحروس حتى قد خرجوا فتبعهم الناس، فلم يظفر بأحد منهم بل بشيء من أثاثهم.
(قصة قتل ...... على أمير المؤمنين من أهل الإقلاع وكيف كان ذلك)
فإن هؤلاء المتبدعة ربما يسعون على من لا بصيرة له، ويدخلون في قلق الجهال أن أمير المؤمنين عليه السلام تعدى عليهم وقتلهم ظلماً، والأمر عكس ذلك، ونحن نحكي الصورة ونعوذ بالله أن نقول زوار، أو نأتي منكراً أو غرورا.
القصة في ذلك أن هؤلاء أهل الإقلاع على الجملة جماعة قليلة، وهم قوم يقال لهم: الحنابر، وآخرون يقال: الزريعات، ولما عمر أمير المؤمنين حصن ذروة وهم في أسفل الحصن كان محلهم محطاً لمن يأتي إلى ذروة، فاستنفعوا في خلال ذلك بأنواع المنافع، وكان بعضهم من نقبا حصن ذروة، والذي إليه الحل والعقد، والباقون في خفض عيش وحياطة ورعاية وحسن جوار من أمير المؤمنين ومن يقول بقوله لا يروعون ولا تمد إليهم يد بتعسف، وعندهم مقر الخيل التي يحتاج إليها، وظهرت عليهم أثر النعمة، فلما نجمت هذه الفرقة الناكثة المتبدعة، وهجموا على حصن أمير المؤمنين كشفوا بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهبوا حريم المسلمين، وضربوا وجوههن بالسيوف، والذين كانوا معه منهم في الحصن أهل العمولة والغدر، بل دخول الذين طلعوا القصر بعنايتهم، وبذلوا لهم مالاً، وخالفهم موسى بن علي بن ستر الصايدي وأصحابه على ذلك، والذين كانوا منهم في محل الإقلاع منهم من كان مكناً للمكر مع القوم ومنهم من لم يكن كذلك، فلما استولى القوم على ذروة طلعوا متجمعين، فأعطوا حسن بن وهاس صفقة أيمانهم، وانتهبوا ما أمكنهم من الأثواب والأثاث من ذروة، وكذلك ما كان في محلهم لأهل ذروة، ولم يراعوا حق الجار، ولا ذمام أهل المروة دع عنك الدين، وكان كبارهم الذين يتولون الحرب ويصلون حيث لا يصل غيرهم في الحرب على عقيل، وشهروا نفوسهم بذلك، فلما أقبل عسكر أمير المؤمنين وهرب أهل القصر بذروة بحيث لم يشعر بعضهم، وظنوا أن الأمر دون ما وقع، وأن أمير المؤمنين لا يبلغ إلى حيث بلغ، فدخلوا درباً حصيناً في محلهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وأنهم يدفع عنهم، فأغار الناس من حقيل ليتلقوا [152أ-أ]أول العسكر إلى قريب من الإقلاع، فدنى منهم من حضر من الشرفاء والأمراء آل يحيى بن حمزة، وطلبوا منهم الخروج والذمة لهم على أرواحهم قبل أن يصل إليهم عسكر الإمام فكرهوا ذلك، وحاربوا ذلك
الدرب فبيناهم كذلك إذ وردت مقدمة العسكر هم في خلال ما هم فيه من الحرب، فتسور الناس عليهم فقتل منهم أربعة نفر ممن ظاهره مع البغي الفسق الصريح من قطع الصلاة، وقطع الزكاة، والسرق، بل بعضهم معروف بالتهتك والتمرد، فلما وصل أمير المؤمنين عليه السلام أمر بالكف عنهم، وأطلق بعضاً ممن أسر كل ذلك تفضلاً وتكرماً، وعفواً وصفحاً؛ لأنهم ما ناصبوا ولا حاربوا ولا كانوا من أعظم من يطلع عورات المسلمين، بل كانو من أعظم الناس مضرة على أهل ذروة لمعرفتهم بالأمور، بل كان أخذ ذروة وما جرى بسبب شيوخهم الذين كانوا ولاة القصر والحفظ فيه ليلاً ونهاراً، عجل الله نقمتهم.
فهذه قصتهم قد أتينا بجملة منها وأمرهم واضح، وبغيهم على أمير المؤمنين ظاهر، ومن شك في ذلك فقد خرج عن العقلاء فضلاً عن العلماء، وعلى الجملة فإن بغي القوم على أمير المؤمنين وانتهاب حريمه وحريم أهله وبيوت خدمه، ومناصبته إلى أن وقع فيهم العسكر وهم محاربون ظاهراً عند الناس، وأهل البغي والتمرد إلا دون ما فعلوه فالله تعالى المستعان، ولم نشرح الحال هكذا إلا ليعلم من لم يدر بالقصة أنها هكذا، وقد تعلل قوم ممن كان يتسرحوا في ارتعاء ممن باطنه مع القوم الذين أظهرو البدعة، وشبوا نار الفتنة، وقاموا وقعدوا في أسباب الفرقة والخروج عن إمامة الإمام المهدي عليه السلام بقتل هؤلاء النفر في الإقلاع اللذين حكينا قصتهم فقد قالوا: إنا كنا باقين على الإمامة حتى قتل أهل الإقلاع، وظاهر قتلهم أنه ظلم، قالوا: وهذا كاف في الخروج عن الإمامة، وسلكوا على تفرق الجهال والعوام الذين لا يميزون بين الصحيح والسقيم من الأحكام.
والجواب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن القائل بذلك هم ثلاثة نفر معروفون بسماتهم وأسمائهم، قد انكشفت بعد للناس سريرتهم، وظهرت في الآفاق مكيدتهم، وأنهم كانو كالمبتدعة المجاهرين بالحرب لأمير المؤمنين، فقتل من قتل من هؤلاء المتمردين، وفي رميهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كما كانت شنشنة المنافقين، ومتى كان من هو بهذه الصفة قدوة في دخول أو خروج أو هبوط في أحكام الإمامة أو عروج وإنما القدوة الذين جعلوا دأبهم نصرة الحق وخذلان الباطل، والاستمساك بعصمة الحق ولا يتربصون به الدوائر، ويتطلبون به الغوائل، ويكنون له الدعاول كما يعرف الناس من هؤلاء النفر.