حمزة، وأغار عليهم المسلمون، واشتدت قلوب الناس، وأقبل الحسن بن وهاس، ومن معه حتى أطل على حقيل، فلما ترآى الناس وتهاوشوا للقتال أمر منادياً ينادي أن يخرج إليه فلان -يعني السيد شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن حمزة .
قال السيد: فأمرت الناس بالسكوت واستماع ما يقول من الكلام فأمر بعض إخوته وأملاه كلاماً وهو قاعد إلى جنبه معناه أن الصواب أن تبصروا في دينكم وتنظروا في أمركم، فأجاب السيد شرف الدين: إنا بحمد الله تعالى على بصيرة في ديننا، وثبات في أمرنا لم تطرأ علينا شبهة فيما نحن عليه من الالتزام بإمامة إمامنا ولا استهوانا ريب ولا شك فيما نحن عليه في بصيرتنا لم نفرق جماعة، ولا نزعنا يداً من طاعة، هذا الكلام أو معناه حينئذٍ عاد من موضعه كئيباً حزيناً لما لم يصغ إلى مقالته أحد ولا جاز بحره ولا مخر فيه على ذي لب حتى طلع القصر فجعل منزلته هو والرصاص في دار الإمام ينتهب حفدتهماآلتها، ويخربون حيطانها، ويقيمان الصلاة فيها بزعمهما، وكتبوا الكتب والبشارات إلى سلطان اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول إذ قيامهم وخروجهم على الإمام بأمره، وبذل لهم أموالاً اختلفوا في عددها فقيل: المال نيف وستون ألف دراهم لكل منهم جزء مقسوم، ونصيب معلوم معدود، وعاهدوه وواثقوه على شروط، وزعموا أنهم ينوبونه وهو يسخر بهم ويستدرجهم للدخول في عقيدته التي هو عليها من مذهب الأشعرية، ولما ظهر للناس ما أجمعوا عليه هم والسلطان لم يشك أحد في مروقهم عن الدين، وخروجهم عن مذاهب العترة الأكرمين، ولاخلاف في هذه الجملة التي ذكرتها فيما بينهم والسلطان، وإنما أردت بذلك ليتحقق أهل الحق أصول مقالتهم، وأنهم ليسوا على شيء بل كل ذلك محبة للدنيا وزينتها، ورغبة في الرئاسة وتوابعها. فالله المستعان.
ولما استقر القوم في قصر ذروة وصل إليهم قبائل الصيد، وقبائل الطاهر، وأجمع أمير المؤمنين على النهوض ومناجزة القوم وأتباعهم فقال في ذلك الأوان الشريف الفاضل العالم محمد بن مدافع شعراً وهو من أولاد الإمام الناصر لدين الله أبي الفتح الديلمي في اليمن سنة [.....بياض في المخطوط.......] واستشهد رحمة الله عليه ورضوانه بردمان في حرب القرامطة دمرهم الله تعالى، وكان هذا الشريف فصيحاً فاضلاً عالماً، وأخوه الشريف السيد العالم المتكلم الزاهد قدوة السادة في وقته أبو الفتح بن مدافع، وهذه نسخة الشعر:
ك المهيمن مما يتقي وزر
والسعد يبني رواق الملك متسعاً
وأنجم الفلك الدوار طالعة
ومن على الأرض ياابن المصطفى خول
والملك ملكك شاء الناس أو كرهو
ومن يقل لا فإن الله يكذبه
هذا الجلال الذي أعطيت بهجته
كساك ربك سربال الخلافه لم
وساقها لك عفواً وهي جامحة
عظمت قدراً فأعطيت التي عظمت
ولم ير الله في الدنيا لها كفواً
نور النبوة في خديه متقد
وللمالك من سرباله أسد
وللعزايم في كفيه مرهفة
وللندا بحر في سوحه اجتمعت
وللسياسة والتدبير مرحمة
في شخصه عالم العليا مجتمع
في خلال إذافكرت بينه
هذا الذي انطمست آي الضلال به
هذا إمام الهدى المهدي سيدنا
هذا الذي لو رأت أنوار طلعته
وعلمه كعباب البحر يغرق في
لوكان أهل العلا شخصاً لكان له
ولو غدا الفضل في الأقوام مقتسماً
الله أكبر هذا خير من ثنيت
سعيت في كل مضمار جريت به
إن الأكف التي عاهدت غادرة
خانوك جهلاً وخانوا الله فاكتسبوا
لا تخطئن رجال الرفض ملحمة
تظل فيها طيور الهام طائرة
والحرب توقد نيراناً مؤججة
والأسد يختلس الأرواح كالحة
فويلها فرقه بدعية رفضت
أقمت تدعوهم جهراً وتزجرهم
بذلت ما طلبوا في كل مسألة
وقلت هذا كتاب الله حاكمنا
وهذه سيرة الآباء نتبعها
فلم يفيئوا إلى حكم الكتاب فلا
وأظهروا بدعاً جاشت مراجلهم
وصوروا صوراً للحق ظاهرة
حتى إذا صرت ذا طوع لما طلبوا
لاذوا وراموا اللتيا والتي شططا
وكان تلبيسهم للخلق قاطبة
فيا أناساً دعاهم عجب أنفسهم
ما بالكم وصروف الدهر معجبة
وتدعون أموراً غير صادقة
خبرتكم سيرة المهدي في حجج
وكنتم كلكم فيها الدعاة ولم
وقمتم فوق أعواد المنابر لا
تحكون من شيم المهدي ما انصدعت
ويشهدون بأن الله قلده
وأنه يوم طوفان المعاد لنا
وأنه القائم المهدي فاتبعوا
وقطعت سادتكم طلا ملا
وكم أبحتم من الأموال ولا ورع
وكم أكلتم وما ضاقت مذاهبكم
وكم لبستم ثياب الوشي معلمة
وكم حسبتم على دفع الخراج فيا
ورب خرج وطيتم بالزكاة ولا
فكيف هذا وهذا غير ملتبس
غدرت لو لم يطل منكم معاشرة
ضيعتم الدين والدنيا وقد حصلا
?
?
والنصر حظك والتوفيق والظفر
فدونه النيران الشمس والقمر
من الفتوح بما حارت به الفكر
فإن عصوا وطغوا في طاعة كفروا
والأمر أمرك غاب الناس أو حضروا
فيما يقول والفرقان والزبر
منه سنا الملك في الآفاق منتشر
يلبسك سربالها عمرو ولا عمر
على الأنام وإن جلوا وإن كثروا
ولم ينلها الذي في قدره صغر
إلا أعز مساعي قومه غرر
ونظرة الملك يجلو سرها النظر
وللخلافه في إكليله قمر
كأنما استلها من غمده القدر
أمواجها التبر والياقوت والدرر
ظلالها فوق هذا الخلق منتشر
في برده سر رب العرش مستتر
وقلب هذا كليم الله والخضر
وبشرتنا به الآيات والسور
هذا الذي فرق الإسلام تنتظر
أهل الهياهل ما صلوا وما فخروا
أذية الناس قل الناس أو كثروا
من فضل هذا الإمام السمع والبصر
ما شاركته به بدو ولا حضر
به الخناصر وانقادت له مضر
ولو جرى فيه سادات الورى حسروا
فويل قوم لعهد الله قد غدروا
عاراً قصاراه في خسرانهم سقر
عظيمة الشأن لا تبقي ولا تذر
منهم ويقصر عن إدراكها القصر
بيض الصوارم في الأيدي لها شرر
والسمر وسط صدور القوم تشتجر
إمامها وسبيل الحق مشتهر
فما أجابوا لداعيهم ولا ازدجروا
وفوق ما اقترحوا منها وما ذكروا
وهذه السنة الغراء تعتبر
إن كان ينفع في تقريبكم سير
حكم النبي ولا أعفوا ولا عذروا
بها وجاش بها المكر الذي مكروا
وتحتها من مراقها رفضهم صوروا
وآمراً غير شك بالذي أمروا
منهم وغروا ولم ينفذ لهم غرر
ولم يكن مثل ما راموه يستتر
إلى التي انصدعت من عظمها الحجر
يرمون جهلاً بقوس مالها وتر
تكاد منها سماء الأفق ينفطر
عشر وفي دونها يستوضح الخبر
يؤثر لكم في اعتراض ظاهر أشر
شك هناك ولا عي ولا حصر
له القلوب وما اشتاقت له النظر
من الخلافة أحكاماً لها خطر
سفينة ليس يخشى عندها الخطر
سبيله فلديه الفوز والظفر
ليست إذا عددت ياقوم تنحصر
من الإباحة يثنيكم ولا حذر
مال اليتيم وهذا كله شكر
ومهدت لكم الأنماط والحبر
دموعه من عظيم الجيش تنحدر
شك لواطيكم يجري ولا وحر
ما يجهل الشمس من في عينه عور
وبعد طول مداها كيف تعتذروا
يا خسر قوم لدين الله قد خسروا
قال الراوي: ولما وصل أهل البلاد اليمانية وحصونها من هداد والكميم وغيرها نهض أمير المؤمنين عليه السلام إلى الجهات الظاهرية لحرب القوم وحصر البغاة الذين بغوا عليه والمحطة عليهم بذروة، فنهض أمير المؤمنين من حصن مدع وذلك في النصف الأخير من شهر صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وفي ذلك الأوان اشتدت الحطمة والجدب ودارت رحى الموت في الناس من ذمار إلى صعدة إلى الجوف إلى مغارب حجة، وبلاد حجور، وبلاد خولان القبلة، وجبل رازح إلى راحة، ونجران، والمشارق إلى سراة الحجر، والتهايم وما بين ذلك، فبلغ السعر في صفر وربيع صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذرة بعشرة دراهم، وربما بلغ البر الصاع الواحد ستة دراهم وأكثر، وبلغ رأس البقر خمسائة درهم، وبلغ السمن والسليط الرطل ستة دراهم، وبلغت الشاة إلى قريب من الخمسين الدرهم، وأكل الناس أولادهم، وأكل بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والحمير، وأكلوا أنواعاً من الأرواث والتراب والأشجار، وانقطعت المناهل، وعدم الطعام في كثير من البلاد، وخلت بلاد من أهلها، وصار الأموات صرعى في الشوارع والسكك تجرهم الكلاب والسباع، وربما تثب الكلاب على الضعوف فتأكل منهم وهم صرعى يصرخون.
وكان أول هذه الأزمة من شهر رجب من سنة خمس وخمسين ثم سنة ست وخمسين معظمها، ثم سنة سبع وخمسين، ثم إلى سنة ثمان وخمسين، وكان في ذلك الأوان زحل في أول درج من برج الدلو، واستمرت الأزمة إلى أن كاد أن يخرج من برج الحوت فهلك خلق كثير من الناس، بل ربما أن نصف الناس في هذه الأقطار هلك على التقدير. والله أعلم.
وربما أكثر وهلك عيون العلماء، والأفاضل، وبلغ حمل الإنسان من الماء سبعة دراهم لأجل انقطاع المناهل.
رجع الحديث
وكتب الفقيه العالم الفاضل الحسن بن أبي الفتح بن أبي القاسم بن أبي عمرو التميمي هذه الرسالة على هذه الفرقة المتبدعة، وسارت في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم
{الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(5)وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
أما بعد..
يا بني الزمن ومعاشر اليمن فقد أضللتكم طحنات الفتن تبدي ما كمن، وتظهر ما بطن، وتقلقل ما سكن، وتسحب أذيال المحن، ولئن أغدقت سحايب ركامها، وترادفت سدف ظلامها، فما يريد الله إغواءكم ولا ضلالكم، ولا استمراركم فيما لا يرضى، وإصراركم {إنما يريد الله أن يبلوكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} ويخرج من خياركم أشراركم: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}.
منجا امرئ تليت عليه الآيات فتدبرها، وعرضت عليه الشبهات فأبصر الحجج، والبينات فآثرها، وعنت له الشهوات فنهى نفسه عن الهوى وزجرها، وعرف فئة الحق وإن قلت فصحبها، ورأى سفينة النجاة ولو صعبت فركبها {إنما يذكر أولو الألباب} وإني أراكم قد أصغيتم لناعق هذه الفتنة، من آذانكم وألغيتم، وقد سمعتم واعية إمام زمانكم، وهو سفينة نجاتكم، وماء حياتكم، وحجة الله عليكم، وابن رسوله إليكم، يستنصركم وتخذلون، ويستنفركم بلقاء العدو وتتخلفون، ويدعوكم إلى اتباعه إلى الحق وأكثركم للحق كارهون، أفما أنتم بموقنين بما وعد الله الصادقين، وأعد للمتقين القائمين بنصرة الأئمه السابقين، ومناصحي ولاة المسلمين من الخير الجسيم في جنات النعيم: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولكم فيها من كل الثمرات} وما وعد به المتخلفين والمبطلين الراغبين بأنفسهم عن نفس إمام المسلمين، وسامعي الواعية غير مجيبن من الشر العظيم، والكب على المناخر في نار الجحيم، والنكال بأصناف العذاب الأليم، كلا أما لو آمنتم بذلك وصدقتم واطمأننتم إليه وأيقنتم لرجع عاصيكم وتاب من قريب ومن بعيد، ولا ازداد مطيعكم في اكتساب الخير كل مزيد، فإن الإنسان عن الشر ليحيد، وإنه لحب الخير لشديد، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وانتظرتم ما تنقلب به الأمور، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، فإن كنتم في ريب من رب العالمين فتفكروا في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري بما ينفع الناس، وما أنزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون، إن في السماوات لآيات للموقنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، وإن يك ريبكم في الكتاب والرسول فبأي حديث بعد الله وآياته
تؤمنون، وإن كان الريب في إمام عصركم، وخليفة الله فيكم المتقلد لأمركم فما غركم به وقد نشأ بين أظهركم، وتربى في حجور علمائكم وفضلائكم، أناشد الله من عرفه أو سمع به قبل قيامه ألم يكن أشهر أهل وقته فضلاً، وأكملهم نبلاً، وأبرهم وأقتاهم قولاً وفعلاً، وأقومهم طريقة، وأحسنهم خليقة، أو ما معروفاً بالورع والعفاف وسمت الصلاح، مشغوفاً بإحياء الدين، ونشر العلم للطالبين، متحلياً بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، يكرم الضيف، ويعطي السائل وابن السبيل، ويرحم المسكين والضعيف، بلى ولقد كان مخلصاً تقياً، ورضياً مرضياً، عالماً مجتهداً ينسال، ويقلد صديقاً برا لا يفند، يشيرون إليه بالبنان، ويروون فضائله بكل لسان، يستسقون بوجهه الغمام، ويستشفون بريقه فيشفي السقام، ويستدعون ببركته البركات في الأموال والأنفس والتمرات، ويتستصرفون به بالنذور، له عنها الآفات حتى يمحص ....... ويعرنق في قصب العلى، وتمكن في قلل الشرف الأقصى بحيث لا يزاحم في مرتبته، ولايرتقى إلى درجته أفلا ضم إلى هذه المحامد المذكورة والفضائل المشهورة السبق إلى الإمامة، والفوز بحصيل الزعامة، والاختصاص بشرف هذه الكرامة شهادة الخاصة والعامة، اعترض الشك في سيرته، وظن السوء في سريرته، هذا ما لا يسع أحداً من المكلفين أن ينبت منه على ظن وتخمين، فإن الكلام في الإمامة من مسائل أصول الدين وما يجب الوصول فيه إلى العلم اليقين، والإتيان على صحته أو فساده بسلطان مبين، فأما مجرد التقليد والقذف بالغيب من مكان بعيد فبعيد بعيد أن يقدح ذلك في أمر قد رسخت قواعده، وظهرت ظهور النهار شواهده، وتمكن على التقوى أساسه، فشمخ حيث لا ينال رأسه: {أفمن أسس بينانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}.
ولما نكثت هذه الفئة الباغية بيعة إمامهم، وجعلوا يموهون بإجماعهم في ذلك على عوامهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم بالشبهات المردودة، ويصدوهم عن طاعة إمامهم بالمعامات في المحافل المشهودة وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، رأيت أن أبين وجوهاً يتضح بها نهج السبيل، ويتميز بها الدليل عن شبهة التضليل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ونعم الوكيل، فمنها أن العوام لا يرجعون إلى العلماء في شيء من خصال الإمامة إلا في كونه عالماً، والعلماء باقون على الإقرار بذلك لا يمكنهم الرجوع عنه، وإنما قلنا: إنهم لا يرجعون إلى العلماء فيما سوى العلم من المنصب، والسخاء، والشجاعة، والورع، وحسن السياسة؛ لأن العلماء والعوام في معرفتها فيمن اجتمعت فيه بمثابة واحدة؛ إذ طريق الكل في ذلك واحدة، وهي الخلطة والمشاهدة.
وبعد فإن العوام إنما عرفوا لما رأوا من انتصابهم للفتوى، وسؤال الناس لهم، وأخذهم عنهم من غير نكير، فمن يرى ذلك في مدعي الإمامة لا يحتاج فيه إلى العلماء؛ لأن الطريق التي عرف بها كونهم علماء يكفيه هاهنا، وتلك حال أهل قطرنا هذا مع إمامنا عليه السلام، فإن الناس كانوا يرجعون إليه في الفتاوى، ويسألونه، ويأخذون عنه العلم، ويستطرف العلماء ما ظهر لهم من فتاويه، ويستجيدون اجتهاداته، ويستحسنون ما رآه ويصدرونها في كتبهم وتصانيفهم فهم إذاً في غنية عن العلماء، ولو أنهم قد جحدوا ذلك كيف وقد شهدوا له بالكمال، وضم جميع الخصال، ورجوعهم بعد ذلك لا يعتمد عليه، ولا يلتفت في إبطال الإمامة إليه.
فأما التهويل بكونهم علماء الإسلام، وفضلاء الأنام، وقلة من بقي منهم مع الإمام فلا تعويل عليه لذوي الأحلام فإن الحق إنما يتميز عن الباطل بالدليل لا بالتعظيم والتبجيل، والتكثير والتقليل، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زلات العلماء فقال: ((أخوف ما أخاف على أمتي زلات العلماء، قيل: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: إذا زلو فلا تتبعوهم))، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو إمام الأئمة، والحجة على الأمة للحرث بن حوط وقد ارتاب في أهل الشام لما كثر عليه اجتماعهم على مكانتهم من العلم والعبادة، وشدة الورع والزهادة مع البسالة والجودة، وشدة البأس والنجدة، فقال عليه السلام: يا حار، إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا، وحاربهم عليه السلام على مثل ما هؤلاء فيه، وكانوا يصومون سرمداً، ويحيون الليل فنوناً وتهجداً، فقتلهم ركعاً وسجداً، وأحصاهم إلا القليل عدداً، مضياً على البصيرة الباقية، والعزيمة القاضية، وأين حال أولئك عن أهل زماننا هذا وأكثرهم خلف قد أضاعوا صلواتهم، واتبعوا شهواتهم، وأخلفوا دياناتهم، وخانوا أماناتهم، وأصروا ...... هم ومروءاتهم، وما أرى حجتهم لكونهم أهل العلم والفضل ورجاحة العقل إلا حجة قريش على إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحلامهم وعقولهم، وسفه أحلام المؤمنين[149ب-أ] حيث قالوا: {أنؤمن كما آمن السفهاء} فقد أحسن الله الرد عليهم فقال: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ومنها أن هذا الإمام عليه السلام لم يرد بالقيام مكابرة ولا مفاخرة، ولا إدراك أغراض دنيوية، ولا شفا غيظ مغياظ لحمية، ولا دعا إلى عصبية، ولا إفادة مال، ولا علو حال، شهد بذلك مشاهد الحال، وما يغني فيه النظر عن السؤال إذ كان نائلاً كل منال، حيث آتاه الله من عظيم الشأن ورفيع الصوت