وأما أم إسماعيل أبي البركات فهي آمنة بنت عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عمة القاسم بن علي أخت أبيه، وأمها زينب بنت موسى بن الحسين بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمها زينب بنت عبد الله النوفلي.
وأما أم أم الإمام المهدي فهي الشريفة المطهرة المباركة المنورة صفيهة بنت [بياض…….. في المخطوطة]، وعلى الجملة فإن منصبه فوق سماء العلى شامخ، وعلى قرارة المجد راسخ، وما أنا في تعليق ذلك وذكره إلا كمن يهدي إلى الشمس ضوءً، أو يزيد في القمر نوراً، أو يجلب المسك إلى أرض الترك والعود إلى بلاد الهند، والعنبر إلى البحر الأخضر.
فصل [في صفته -عليه السلام]
لم نذكر صفته إلا تقريباً لمن لم يره، فأما من شاهده فقد كفاه العيان عن البيان، وما عسى أن يصف الواصف من صورة براها خالق، وجعل عنصرها أصلاً للسعادة، وعنواناً للخير والبركة، وسم السيادة في غرتها والكرم في أسرتها.
كان عليه السلام أبيض دري البشرة، ربع القامة، أشكل العينين، ضليع الفم كأن وجهه مضحاة الفضة المجلوة إلى التوريد، أقنى الأنف، كث اللحية، جعد الشعر ليس بالقطط، عريض المنكبين، جليل المشاش، شثن الكف بين كفيه شامة لونها كلون حبة الإجاص، دقيق المسربة، سامي العنق، ضامر الخصر، عاري الأخمصين، إذا التفت التفت معاً، وإن مشى فكأنما يمشي في صبب، إن كُلِم أنصت واستمع، وإن سئل أعطى وأقنع، هيبته تصدع القلوب، ومقابلته وإقباله حياة النفوس، ليس بالملق ولا بالضجر ولا بالقلق ولا بالصخاب ولا العياب، أحب المجالس إليه مجالس العلم والذكر، وأسر الأيام إليه يوم ينال فيه من أعداء الله، استشهد عليه السلام وقد وخطه الشيب قليلاً وما أحقه بقول بعضهم:
عقم النساء فما يلدن بمثله
متهلل بنعم بلا متباعد
نزر الكلام من الحياء تخاله ... إن النساء بمثله عقم
سيان منه الوفر والعدم
صمتاً وليس بجسمه سقم
فصل
وأما مولده عليه السلام فكان بـ(هجرة كومة) المعروفة بجبل شاكر من ظاهر همدان، ولد لاثني عشرة ليلة من شهر القعدة سنة اثنتي عشرة وستمائة للهجرة النبوية، وله من الفضائل عند مولده ما سنذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى من فضائله.
(فصل في نشأته -عليه السلام-)
نشأ في حجر أبويه سنيناً قريبة، واختار الله لوالده رضي الله عنه ما هو أصلح من الانتقال إلى دار رحمته وهو ابن سبع سنين بعد أن كان قد أكمل كتاب الله تعالى، ثم كفله عمه السيد الشريف الزاهد الطاهر سليمان بن أحمد بن القاسم، وكان رحمه الله[4أ-أ] أحد الزهاد في زمانه، رفض كثيراً من ملاذ الدنيا من مناكحها وملابسها، ولازم الزهد والعزلة عن الناس، فعني في تعليمه وتهذيبه وتأديبه، وكان عليه السلام ممن شهدت له الفراسة رضيعاً أن لا يكون وضيعاً، وحكمت له الشمائل غلاماً أن يكون قرماً هماماً، تخيل فيه مخائل الإمامة، وتلوح على غرته أنوار الزعامة، وكان ابتداؤه بالقرآن الكريم وهو ابن خمس سنين أو يزيد قليلاً، ولقد روى لنا عن نفسه عليه السلام من عجيب الفطنة وروى غيره من الثقات ممن كانوا يشاهدونه من توقد فطنته وألمعيته ما لم تجر العادة بمثله فيمن هو في سنه، ولم يزل في دراسة القرآن العظيم وتلاوته، والتعليم في غيره لمن يصلح لما هو في سنه من الشعر، وما يجري مجراه من الأراجيز والحكم حتى بلغ اثنتى عشرة سنة أو يزيد قليلاً، ونقله عمه الطاهر من الهجرة المباركة إلى مدرسة (مسلت) ببلد قيس من ظاهر همدان، وكانت المدرسة في ذلك الآوان نظام عقد العلم، وقبلة أهل الإسلام والفضل، كان سكنها في ذلك العصر الفقيه الإمام الألمعي ترجمان المتكلمين عمدة المجتهدين والمتهجدين حميد بن أحمد المحلي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أبي القاسم بن علي المحلي الصنعاني رحمة الله عليه، وكان يسكن حيناً في الشاهل غربي بلد بني شاور السود، والفقيه العالم الفاضل الحافظ
المحدث الكامل ترجمان القرآن جمال الدين عمران بن الحسن بن ناصر، وأخوه الفقيه العالم شرف الدين أسعد بن الحسن بن ناصر، والفقيه العلامة اللسان المنطيق نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الزاهد الورع قدوة الزهاد فخر الدين أحمد بن عريق بن عواض الشاكري، والفقيه العالم الأديب سابق الدين محمد بن علي بن أحمد بن نعيش الصنعاني، والفقيه العلامة شرف الدين الحسن بن البقا التهامي القيسي، والفقيه الطاهر العالم سعيد بن حنظلة، وغبر هؤلاء من عيون أهل الدين المتمسكين بالعلم، فاختص به ليلاً ونهاراً الفقيه الزاهد المطهر فخر الدين أحمد بن عزيق فكان سميره وقرينه، والمتولي لتهذيبه وتأديبه، وتعليمه طرائف الآداب والطهارة حتى لقد كان الناظر يعجب من آدابه وطهارته مع صغر سنه، ثم ابتدأ بعد ذلك من الفنون بعد معرفته لأبواب في الطهارات، ونكت في العبادات، وجمل من أصول الشرعيات بالتوحيد، فكانت قراءته أولاً على الفقيه العلامة اللوذعي قاسم بن أحمد الشاكري؛ إذ كان في ذلك الفن خليجاً تطمو مدوده، فقرأ عليه مختصراً مفيداً، ثم قرأ كتاب (الخلاصة النافعة) بشرح واسع، ثم قرأ (المؤثرات) للشيخ الإمام حسام الدين الحسن بن محمد الرصاص، كل ذلك يضبطه غيباً، ثم قرأ شرح (الإيضاح) الذي وضعه الفقيه الإمام حسام الدين بن أحمد، كل هذه الكتب يضبطها غيباً ويعقل معانيها، وتعجب العلماء من حسن بهجته وبراعته، ثم قرأ مذاكرة عقوداً على كتاب (التحصيل) للشيخ الإمام الحسن بن محمد الرصاص، وكانت هذه المذاكرة من العجائب، أخذت معانيها من كتاب المحيط [4ب-أ] بالتكليف لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، ثم من كتاب (الإكليل شرح معاني التحصيل) للفقيه العلامة الحسن بن مسلم التهامي، ثم من كتاب (التبيان بشرح ياقوتة الإيمان) للحسن الرصاص، ثم من (خلافية أبي رشيد) وغيره، هذه الكتب المعينة.
كان الفقيه القاسم بن أحمد الشاكري يترجم هذه المذاكرة ويضبط معانيها من الكتب المذكورة وغيرها، ثم يلقي عليه الصفحتين والثلاث وربما أكثر من ذلك، فأكثر ما يقرأ عليه شرفين أو ثلاثة، ثم يضبطها غيباً ويحفظها، ولعل هذه المذاكرة تمت في قريب من مائتي معشر، ولعل نساختها في ثلاثين سلطانية أو نحو ذلك، وكان عليه السلام في حال قراءته يقرأ عليه عدة من الدرسة وهو في وقت المقبولة وفراغ الخاطر لا يشتغل بغير النظر في الكتب والمراجعة حتى أتم المذاكرة، وهو معدود من العلماء في ذلك الفن، ثم انتقل إلى المدرسة المنصورية بـ(حوث)، وفيها عدة من عيون العلماء كالشيخ العلامة المصقع ترجمان الكلام جمال الدين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، والشيخ الطاهر بقية الحفاظ محيي الدين أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة، والفقيه العالم أحمد بن علي الصميمي، والقاضي الفاضل محمد بن يحيى الصنعاني، والقاضي العلامة الفضيل بن يحيى بن جعفر بن أحمد بن أبي يحيى، وعدة من العلماء والفضلاء غاب عني تعيينهم لكثرتهم لا لقصور في فضلهم وعلمهم، فقرأ على الشيخ العلامة أحمد بن محمد في الكتب المبسوطة في علم الكلام كـ(شرح الأصول الخمسة)، (والمحيط) وغيره، وقرأ عليه فى الكلام كتاب يذكره ابن مثوبة، وأخذ عنه كتاب جده أبي محمد شيخ الإمام المنصور بالله عليه السلام المعروف بـ(الكيفية في الصفة والأحكام) وهو من لطيف كتب الكلام حتى لقد كان يحفظه غيباً كما يحفظ الناس السورة من القرآن الكريم، ثم قرأ كتاب ابن الملاحمي (المعتمد)، (والفائق) وغيرهما، ثم قرأ كتاب شاه سربيجان شرح الأصول الكبير، وقرأ كتاب أبي رشيد المعروف بـ(الخلافية) وأتقن ذلك معرفة، وكتابه (المحيط) المعروف بـ(شرح الدعامة) وفيما أحسب أنه قرأ (تعليق الإكليل) وقرأ (شرح النفحات المسكية) للفقيه الشهيد حميد بن أحمد المحلي، ثم قرأ كتاب (الإحاطة)، ثم كتاب السيد أبي طالب في اللطيف، ثم فن الخلافية بين
البغداديين والبصريين.
هذا ماذكرته من ذلك عند التعليق وما غاب عني من ذلك فليس بالقليل إلا أنه على الجملة لم يدع كتاباً مشهوراً مما يزداد بقراءته فائدة إلا أتى عليه، وهو في تلك الحال إليه تنتهي الغوامض، وبه تحل المشاكل ويفتح المقفل، ثم في خلال قراءته تلك سمع على الشيخ الحافظ المحدث محيي الدين أحمد بن محمد المعروف شعلة الأخبار والسير، فقرأ عليه كتاب (أصول الأحكام) للإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان سلام الله عليه، وضبط شطراً منه غيباً، والباقي كرره حتى كاد أن يتلوه غيباً، وقرأ عليه أمالي أحمد بن عيسى، وقرأ عليه سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان قرأها على الفقيه العلامة الحافظ عمران بن الحسن بن ناصر، وقرأ (أمالي[5أ-أ] المرشد) والسيد الجرجاني، وكتاب (الرياض)، وكتاب (الأنوار)، وأمالي أبي سعيد السمان، وسمع كتاب (المستصفى) للشافعية، وقرأ كتاب (تيسير المطالب) للسيد أبي طالب، وقرأ كتاب (نهج البلاغة) وأعلامها حتى كاد أن يتقن ذلك غيباً، وقرأ كتاب (العمدة من صحاح الأخبار)، وعلى الجملة فإن سماعات الكتب المشهورة من طريق الإمام المنصور بالله عليه السلام والشيخ محيي الدين حميد بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه صحت له سماعاً، وتعيين ما قرأ في السير والأخبار أكثر من أن يحصى، ثم قرأ في أصول الفقه، فأول ذلك قرأ مذاكرة عقوداً موسومة ككتاب (الحاضر) على الفقيه العالم الزاهد فخر الدين أحمد بن عريق الحميري رحمه الله تعالى يشتمل على عيون كتاب أبي الحسن البصري رحمه الله المعروف بالمعتمد، وكتاب الإمام المنصور بالله المعروف بـ(صفوة الاختيار) وكتاب الرصاص المعروف بـ(الفائق) وغيرها من كتب الفقهاء فأتقن ذلك غيباً، ثم قرأ كتاب (المعتمد) حتى كاد أن يأتي عليه غيباً، ثم قرأ كتاب (التجريد) لابن الملاحمي وقرأ كتاب أبي طالب (المجزي) وكان معجباً به.
قال المصنف: ثم (المعتمد) لقاضي القضاة، وغير ذلك من الكتب الموجودة في اليمن مما أمكن تحصيله؛ لأن الكتب كثيرة في الأقطار، وإنما الكتب المشهورة عند الزيدية باليمن حتى كان المشار إليه في ذلك الأوان بالتحصيل في الأصول الفقهية ومعرفته في ذلك أشهر من نار على علم:
وهل تجحد الشمس المنيرة ضوؤها ... ويستر نور البدر والبدر زاهر
ثم التفت إلى الدرس في فروع الفقه من سنة سبع وثلاثين وستمائة، فأول كتاب قرأه كتاب (التحرير) لأبي طالب عليه السلام وحفظه غيباً بعد أن كان قبل ذلك يحفظ معانيه وأصوله وأدلته قراءة على الفقيه العالم التقي محمد بن أبي السعادات، وكان أوحد في معرفة ذلك ومعتاداً، فلقد كان يعرف فى حسن معرفتة وذكائه، ويقول استفاد عليه أكثر مما أفاده أو كما قال في ذلك، ثم قرأ كتاب (شمس الشريعة) للفقيه العلامة الحافظ المجتهد سليمان بن ناصر، وكرر ذلك، ودرس وقرأ (شروح التحرير) للقاضي زيد وتعليق السيد المؤيد بالله، ثم تعليق أبي مضر حتى لقد كنا نسمعه ويسمعه غيرنا أنه لقد كان يتصور صفحاته ومسائله غيباً، وقرأ كتاب (الإبانة) وشرحها وكررها، وقرأ كتاب (الكافي) للناصرية، وكتاب (الوافي) لابن بلال، وكتاب السيد علي بن سليمان، ومجموع علي خليل كرره مراراً، وقرأ كتاب الإمام المنصور بالله وكان معجباً بفقهه، وأراد أن يشرح المهذب المنصوري، وقرأ مسائله الفقهية في رسائله، وقرأ كتاب الهادي عليه السلام (الأحكام) وقواعده، وقرأ عدة من كتب القاسم عليه السلام وأولاده المفردة، وكان شديد الحرص في نصرة أقوالهم، وأطل على شيء من تعليقات السيد العلامة جمال الدين[5ب-أ] علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام، وأجاز له كتاب (القمر المنير) وأمره بتصحيح ما عثر عليه، وكان السيد علي بن الحسين يقول: إنه لا يشك في بلوغه درجة الاجتهاد، وما أنسيته مما قرأه من كتب الفروع وغيرها وليس بالقليل إلا أنه غني ذكره والله الموفق
للصواب.
ولم يزل عليه السلام في القراءة والاستمرار في قراءة الفروع وعلوم القرآن من سنة سبع وثلاثين إلى أول سنة ست وأربعين وستمائة، ثم قرأ كتاب الحاكم (التهذيب في تفسير القرآن) على الفقيه أحمد بن حنش، فلقد كنا نسمعه يطري عليه ويثني، ويظهر أنه يستحقر نفسه أن يقرأ مثله وما أراه ينكر ذلك، فلما ختم قراءته أقرأ هذا الكتاب جماعة من العلماء وكانوا يشاهدون منه ما لم يسمع من غيره في معرفة كتاب الله تعالى وما يشتمل عليه من الأحكام، ثم قرأ كتاب (الطوسي) ثم قرأ في كتب المتشابه ككتاب الطربيني، وكتاب قاضي القضاة، وقرأ تفاسير أهل البيت عليهم السلام وسيرهم، وقرأ في فقه الشافعية وكان يتعجب من حسن تصانيفهم في الفقه وفيما أحسب أنه قرأ كتاب الثعالبي أو شطراً منه قبل قيامه فأما بعد قيامه فذلك ظاهر، وقرأ على الفقيه الإمام العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي عدة كتب بعد قيامه في السير وغيرها، وقرأ في النحو واللغة.
أول قراءته في النحو (الملحة) وشرحها، ثم كتاب (التهذيب) للفقيه العلامة محمد بن علي نعيش، ثم كتاب (المحيط)، ثم كتاب طاهر بن أحمد شرح المقدمة، ثم (شرح الجمل) حتى صار من أهل المعرفة في ذلك الفن، وقرأ في كتب اللغة على التعيين كتاب محمد بن نشوان على الفقيه العلامة الحسن بن البقاء التهامي، ثم قرأ ديوان الأدب وكتاب ابن قتيبة (أدب الكاتب) على الفقيه اللسان ترجمان الأدب صالح بن سليمان بن الحديب، وقرأ عليه كتابه المشهور بـ(الزبد الصربية)، وكان حسن المعرفة شديد العناية في تعليم أهل البيت، ولقد كان هذا الفقيه يتعجب ويعجب من معرفة الإمام المهدي سلام الله عليه ويشهد باجتهاده بعد بلوغ الدعوة، وقرأ غريب أبي عبيدة وغيره من غريب القرآن والسنة، وحفظ من عيون الشعر لفحول الجاهلية والمخضرمين ما فيه كفاية للشواهد والحجج، وقرأ في الفرائض كتاب (الوسيط) وغيره على الفقيه أحمد بن نسر العنسي، وقرأ في الوصايا ودقيقها على الفقيه العالم علي بن يحيى بن حشيم وغيره، وكانت له صنعة حسنة في فروع الفرائض وكيفية أعمالها، وقرأ في السير والتواريخ قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب (الدولتين) وشطراً من كتاب الطبري وغير ذلك، وكتب الإمام القاسم بن إبراهيم وأولاده ومصنفاتهم، وسيرة الإمام القاسم بن علي وولده، وسيرة الهادي عليه السلام وولديه، وسيرة الإمام أحمد بن سليمان، وكان له في آخر الدرس إطلالاً كثيراً، وقرأ في السير ولم يدع فناً يشار إليه مما يفتقر إليه المجتهد في كمال الاجتهاد إلا وقد أخذ منه بنصيب حتى كان[ 6أ-أ] المشار إليه بالبنان في الفضل والعلم، واشتهر أمره، وسار في الأقطار ذكره، ووردت عليه المسائل من الأقطار للاختبار والاسترشاد، فكان سلام الله عليه يفتح المقفل ويحل المشكل، ويأتي بالبيان ويوضح البرهان، وعلى الجملة فإن المشك في كلمه مكابر أو مشكوك في علمه؛ لأن ذلك من المشهورات التي اجتمع عليه
المخالف والموالف، وكذلك فإن من ادعى قصوراً في فضله وأنه كان أفضل أهل زمانه فإنه مطعون في دينه إن كان سالماً في عقله، ومما يدل على سعة علمه وكماله ما أجاب به على الشيخ العالم عطية بن محمد النجراني بالمسائل المركبة في الفروع التي تشتمل على مئيين من المسائل قريب من ألف مسألة، فأجاب عنها بنهاية الإرشاد وبغية المرتاد، وكذلك المسائل التي وردت من الجهات الحرازية وغيرها من الفتاوي في الفروع التي تبهر من رآها.
(فصل)
وأما خصائصه في العبادة فإنه كان عليه السلام حليف العبادة، والورع، والزهد، كان قبل قيامه عليه السلام مصابراً على صيام أيام مشهورة فاضلة، وله وضائف في العبادة، كان يقوم في الثلث الأخير من الليل فلا يبرح قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، مع المبالغة في الطهارة والوضوء لأكثر الصلوات، قلما يصلي المغرب إلا بوضوء جديد، وقلما يوتر إلا في الثلث الأخير، يلاحظ أوقات الاختيار، ويتهجد في الأسحار، وعلى الجملة فإن الله سبحانه قد وفقه من طاعته وحببها إليه إلى ما يباهي الشمس ظهوراً ويجاري القطر وفوراً. انتهى.
ومن ورعه عليه السلام أنه ما سمع قبل قيامه يقسم قسماً تجب فيه الكفارة مع الحنث، ولا خالف قوله فعله، ولقد أشهد الله في بعض المواقف أنه ما خطر له ببال أن يعصي الله تعالى، وبخط المصنف قال: سمعته أنا وهذا كما ترى يقضي بالعصمة، ويدل على نهاية الفضل والشرف الذي لم ينفرد به إلا هو، ولو فتش أحد في زمانه إلى من يجاريه في الخصائص الشريفة لكان ذلك كالممتنع، ولوجده في بعد مرامها القمر الأزهر، والكبريت الأحمر، وجوهر الجوهر، فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
(فصل)
وأما خصائصه في الكرم فما أظن عدواً له ينكر ذلك ولا يدفعه، فكيف بأوليائه، حاز خصال السبق في مضمار الكرم، وبرز إلى حيث لا يبلغ أحد إلى عشر معشار، فإن نظرت في شرف نفسه قبل قيامه فهو من قد عرف الخاص والعام، يقصده القاصد ...... يناديه القاصد فيكرم كل واحد منهما ترحيباً وتكريماً، وإجلالاً وتعظيماً حتى يستحقر ماوراء ذلك من المطاعم، ويستصغر في جنب ذلك مناقب الأكارم، لا يدع نوعاً من أنواع الكرامة مما يدخل تحت إمكانه حتى يأتيه، ولا مفخراً مما يتفاخر به الأجواد حتى يرتقيه ما لم يكن ذلك مكروهاً، فما أحقه بقول القائل:
يجود بالنفس إن ظن الجواد بها
... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ولقد كان يمضي وهن من الليل وهو منقبض عن أكل الطعام ينتظر طارقاً غرثاناً.
وأما بعد قيامه فمناقبه أكثر من أن تحصى، روى الثقات أنه وهب في موضع واحد في ساعة أو ساعتين اثني عشر فرساً.
وأخبرني هو عن نفسه أنه أعطى في مقامه بالجنات في أربعة أشهر وأيام نيفاً وثمانين فرساً -ليس الخبر كالعيان- وهب وهو على عضادتي المطهر بقارن أربعة عشر فرساً، وأعطى رجلاً من كبار العرب في يوم واحد اثني عشر فرساً، ولقد كان يعطي لله ولنفع الإسلام والمسلمين، وكفاً لعادية المعتدين، ولقد روى عن نفسه وأشهد في الرواية الفقيه العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي رضوان الله عليه أنه أنفق في أول سنة من قيامه في دون الستة الأشهر نيفاً وثلثمائة ألف درهم أكثر ذلك مما رزقه الله تعالى من البر والنذور، ولقد كان يستقل الكثير للسائل ويعتذر مع الإنعام العريض الطائل، وما ظنك بواحد بذّت عطاياه عطايا الملوك الجزيلة حتى زاحمهم على مملكتهم، واستولى على معاقلهم، ولقد كان يتهلل للوافد والسائل كأنه المعطى كما قال زهير في مدح هرم بن سنان:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله