قال الراوي: فلقد ضاقت الدروب والمحال بالعساكر، وأمر في تلك الليلة من يرصد أهل ذروة ويدري بأمورهم وكان بين أمرين إما غزا أهل الجوف إن استقروا وإما قصد أهل ذروة، فلما أصبح لم تبق قبيلة من الظاهر الأعلى وبلاد الصيد والبون حتى وصله وجوههم، ووصل إليه بنو فضل في جماعة وافرة وخيل لابسة وكان في عسكره عليه السلام في تلك الحركة من كبار الشرف [.....بياض في المخطوط.......] ومن كبار العرب الشيخ الأجل أسد الدين حارث بن منصور وصنوه الشيخ نجم الدين، والقاضي العالم الأجل ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي وغيرهم من كبار القبائل ومشائخهم.
رجع الحديث
فلما أصبح أمر بالنهوض الطريق المحجة الوسطى حتى أتى بيت كلاب[54أ-أ] فأضافوا العسكر بأجمعهم وكبيرهم يومئذٍ الشيخ عمرو بن قاسم ومرشد بن غنيمة وأصحابهما، ثم نهض العسكر بعد ذلك.

قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: فضاقت الطرق بالعساكر حتى أفاضوا على الحداب والشعاب، ولقد رأيت صيود الوحش تنفر من مراتعها وتروم الهرب فتسد عليها المسالك من يمين وشمال وخلف وقدام كل جهه تنفر إليها تتلقاها طائفة من العسكر فتخطف ما بين ذلك، رأيت غير واحد من صيد ذلك اليوم، وعميت الأنباء عن أهل ذروة ذلك اليوم فما علموا حتى دخلت العساكر بلد يسمى الشظبة من بلاد الصيد على ثلاثه أميال من ذروة أو دون ذلك، فضاقت الدروب من الناس، فباتوا في صوافح الجبال والكهوف كالجراد المنتشر، فلما مضى وهن من الليل بلغ العلم إلى أمير المؤمنين أن الأمراء الحمزيين قد أقبلت عساكرهم إلى ذروة وهموا بطلوع الجبل إلى الأقلاع مويضيع في سفح جبل ذروة ليظاهروا أهل الحصن، فأمر أمير المؤمنين طائفة من العسكر رصدا في جبل فرضة ليمنعوا من يطلع في الليل هنالك، فأما الرجالة من شرقي ذروة ولم يطلع الفجر إلا وقد استقل إلى رأس ذروة قريباً من خمسمائة مقاتل مقدمهم الأمير الكبير عز الدين محمد بن الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصوربالله عليه السلام، والأمير علي بن وهّاس بن أبي هاشم، والشيخ أحمد بن جابر بن مقبل مولى أمير المؤمنين، فاغتم أمير المؤمنين لذلك وتصور أن القوم لا يؤخذون قهراً، وحط الأمراء في باقي الرجل والخيل على بركة مذود وكانوا قريباً من مائة فارس فيما روي، وقيل: ثمانون. والله أعلم.
فلما أصبح ذلك اليوم وهو يوم الأحد نهض أمير المؤمنين عند أن ارتفعت الشمس قليلاً قاصداً إلى ذروة.
قال الراوي: فكان أول العسكر يحارب القوم في سفح الجبل جبل ذروة وآخره خارجاً من وطن الشظبة.

قال الراوي: فلما استقل أمير المؤمنين عليه السلام من الهضب المعروف بالمأثرة رأيت العسكر قد غشي السهل والجبل إلى الهضب فوق درب الإقلاع فسار أمير المؤمنين عليه السلام تحت الرايات، فلما استقل على رأس الهضب ورأى القوم في نهاية الشقاق والإقذاع والتسرع للحرب وأنهم لا يقبلون نصحاً ولا يرجعون عما هم فيه أمر بالجهاد والحرب.
قصة المحطة على ذروة وحصرها وفتحها وما كان في خلال ذلك
قال الراوي: وزحف المسلمون إلى موضع مقابل الهضب فوق الإقلاع فقاتلهم القوم أشد القتال ولم يكن للخيل مجال هنالك لوعورة المكان فاستشهد من المسلمين ذلك اليوم ثلاثة نفر من أهل مخلاف ثلاء ورجل من أهل الظاهر ورجل من بني مالك بن جابر بن حاتم، ثم إن القاضي ركن الدين مسعود بن عمرو العنسي ضربت له خيمة قريباً من موضع القتال تزيد على علق السهم قبلي ذروة، فلما نظر أمير المؤمنين إلى تلك الخيمة سأل عنها فأخبر، فقال: لم نرد المحطة هكذا ولعل الله تعالى أن يجعل ذلك يمناً وبركة، فأمر فضربت خيامه واستقرت المحطة هنالك، وأقبلت القبائل من وادعة، وبني قيس، وسفيان وغيرهم، فاجتمع هنالك القبائل والخلائق ما لم يخبر به أحد أنه اجتمع مثله مع قائم في أرض اليمن، وكان من غد ذلك اليوم أوثالثه، وأمر أمير المؤمنين قبائل وادعة فزحفوا في موضع شرقي ذروة ليفرق على القوم القتال، فلما تلازم الناس حمل القوم على وادعة في موضع وعر فانهزمت قبائل وادعة هابطين ولحق القوم منهم ثلاثه نفر فقتلوهم فأمر الإمام عسكراً آخر فردوا القوم وحملوا القتلى.

قصة قتل السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول
لما كان في ليلة الثالثة أو الرابعة من محطة ذروة وصلت البشرى إلى أمير المؤمنين عليه السلام إلى محطة ذروة يحكون أن السلطان قد كان أزمع على النهوض والطلوع بالخزائن والأموال لحرب الإمام فشرب الخمر في بعض لياليه في الجند في الدار السلطانية فلما أثمله الخمر ووثب عليه مملوك تركي فوجأه بسكين في بطنه ثم بعد ذلك ذبحه ذبحاً فكان ذلك من أعظم الفتوح، وسقط في أيدي أهل ذروة وأيقنوا بالهلاك فعند ذلك جرى الخطاب، ووصل إلى أمير المؤمنين الشرفاء الأمراء الكبراء آل يحيى بن حمزة من ذيبين ومن هنالك من الفقهاء الأطهار والمسلمين بالضيافات الجزيلة التي عمت العساكر، فلما علم الأمراء بطلوعهم إلى الإمام عليه السلام نهضوا من محطة مذود فحطوا في هضب وعر متصل بجبل ظفر حصن الأمراء الكبراء آل وهاس بن أبي هاشم الحمزي وأمر أمير المؤمنين الشيخ حنظلة بن سعد بن شبر والشيخ محمد بن يحيى بن علي بن شبر وإخوتهم وأولادهم بالمحطة والمركز في درب محروش في جبل ذروة وعند ذلك انقطعت عنهم المنافع والداخل والخارج، وأمر أمير المؤمنين بالخيل إلى ذيبين لمقابلة خيل الأمراء، فلما رأى القوم أنه لا طاقة لهم بحرب الإمام وأن القبائل قد اجتمعت عليهم دعوا للخطاب، فتوسط الأمير الكبير المؤيد بن وهاس والفقيه الفاضل المجاهد أحمد بن موسى النجار الصعدي ونزلوا عن حصن ذروة فهبطوا طريق قرظة في أمان أمير المؤمنين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ولقيهم العساكر والخيل من ظفر وراحوا إلى ظفار ولم يلبثوا أن صدروا مسرعين إلى صعدة، وكان الأمير شمس الدين أحمد بن أمير المؤمنين هنالك في شحنة حصونه وجمع أطرافه متوقعاً لإقبال الإمام.

رجع الحديث
فلما خرج القوم من ذروة طاف أمير المؤمنين عليه السلام الجبل جميعه وأحاط به معرفة وهو جبل عال متسع الأقطار فأخذ لنفسه قلة الجبل من عمارة الصليحي وأعطى الأمراء آل يحيى بن حمزة [55أ-أ] الجبل المنفصل شرقي ذروة المعروف بالمقطوع، فسمي حقيلاً، وشرط لنفسه نصفه معهم، وأمر بالعمارة، واحتط الناس أكثر الجبل، ولم يلبث عليه السلام بعد ذلك أن نهض، وكانت إقامته اثنين وعشرين نهاراً منذ خرج من حلملم.
قصة نهوضه عليه السلام إلى الجوف
نهض عليه السلام من ذروة في آخر شهر القعدة من السنة المذكورة فأمسى في بلاد بني قيس وأقبل إليه قبائل سفيان وبنو قيس بالضيافات الجزيلة لجميع العسكر، ثم نهض عليه السلام إلى حوث ولم يلبث إلا يومين أو ثلاثاً، ثم نهض قاصداً إلى الجوف وذلك في أول شهر الحجة سنة سبع وأربعين وستمائة فأمسى في وادي خيوان، ثم نهض من خيوان فأمسى العسكر موضعاً يسمى الباطنة، ثم نهض من الباطنة إلى الجوف الأعلى فحط في موضع يسمى الزاهر وكان ذلك ثامن شهر الحجة، فلما كان يوم العيد صلى بالناس في الصحراء ووعظهم وذكرهم بالله وأمرهم بأوامر الله ونهاهم عن معاصيه فاستقرت هنالك محطته وأقبل إليه قبائل الجوف من السلاطين آل دعام وقبائل دهمة وغيرهم، وأقبل إليه الشرفاء الأمراء آل أحمد بن جعفر من مدينة براقش بالخيل والعدد وكذلك قبائل بني منية آل جحاف وآل عزان منهم من أتاه طوعاً ومنهم من أتاه كرهاً،

وكان صعوده مع الأمراء الحمزيين وهم الأكثرمن آل جحاف بن حميدان، وأقبل إليه السلطان بدر بن محمد صاحب بيحان وصاحب حباب بدر بن محمد وقبائل نهم الجبالة والشاوية، ووصل إليه شيوخ جنب وكبارها وقبائل مأرب من بني مازن وغيرهم من زرعة وأهل بيحان، فاجتمع عنده عسكر عظيم من الخيل والرجل، وأتته الأرزاق من كل ناحية فأنفقها في سبيل الله على المجاهدين، وفي مدة إقامته تلك الأيام في الجوف لزم عبدالله بن الأديب الصنعاني وكان من حديثه أنه أفرط في بغضة أمير المؤمنين عليه السلام وبالغ في أذيته أشد المبالغة والفساد عليه، واختلف إلى الغز وجمع بينهم وبين الأمراء الحمزيين وكان ذا إحسان في مداخلة الملوك وغير ذلك، وقد كانت كتب إلى الإمام كتاباً عنيفاً إلى المحطة بذروة وطلب منه حاجة في أمان لبعض أقاربه فعلم أمير المؤمنين من قلة توفيقه وقلة حياه كتب يسأل حاجة مع كتابه العنيف فأجابه أمير المؤمنين في رقعة يقول فيها ما هذا لفظه وأكثر معناه: فأما رفضك للإمامة فكم

رافض لها لم يرفع له رأساً، وأما حاجتك فقد قضيناها، وأما والدك فإنه مات ونحن عنه راضون، وأما قولك كذا: {فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}(1) ثم قال أمير المؤمنين لبعض أصحابه: احتفظ بكتاب ابن الأديب فلعل الله أن يمن منه فنذكره بكتابه فكان الأمر كذلك.
وقصته: أنه خرج من ظفار هو والأمير علي بن وهاس يريدان حصن ظفر، ثم تقدم ابن الأديب إلى صنعاء للفساد [55ب-أ] على الإمام والاسنتصار بالغز وذكر أنه كان عازماً على الخروج إلى ديار مصر ليستنصر بأهل مصر على الإمام، فلما علم بخروجه وقد أمسى في موضع يسمى الركية في بلاد بني علي لم يشعروا إلا بالقبائل قد أحاطت بهم وبلغ الصارخ إلى بلاد الصيد وذيبين وغيرها فاجتمع من العسكر قريباً من ألفي رجل، فاستنزلهم من هنالك من أنصار الإمام عليه السلام وأسروه هو والأمير علي بن وهاس وجماعة معهما فأطلق الأمراء آل يحيى بن حمزة الأمير علي بن وهاس ومنوا عليه تذللاً على الإمام ووصلوا بعبد الله بن الأديب فأمر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص بإهانته، وكان الشيخ الرصاص ذلك الأوان حالاً في ذيبين.

قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أخبرني عبدالله بن الأديب بقضية للرصاص عجيبة فلم أحمله على صحة، فلما جرى من الرصاص ما جرى في آخر الأمر غلب على ظني صدقه، وهو أنه أقسم بالله اليمين البالغة أنه سلم إلى بعض العلماء جعلاً على العناية في إبطال إمامة الإمام أيام قيامه {والله متم نوره ولو كره المشركون}(1) ثم إن الإمام عليه السلام أمر بابن الأديب إلى حصن ذروة فأقام أياماً، ثم استدعى به الإمام إلى الجوف، فوصل إلى بين يديه، ثم رأى إعادته إلى حصن ذروة لغرض ذكره مع الأمر بالشدة عليه والنكال بالحبس والقيد، فلما استفتح مدينة صعدة أمر بضرب عنقه قبل أن يتم بينه وبين الأمير شمس الدي أحمد بن الإمام المنصور بالله عليه السلام كلام، وكان للرصاص في قتله عناية عظيمة كأنه خاف أن يكشف ستره إن سلم. والله أعلم.

قصة نهوضه عليه السلام من الجوف قاصداً صعدة
قال الراوي: فلما علم الأمير شمس الدين أن الإمام غير متأخر من صعدة وجه إليه الأميران الكبيران محمد بن حمزة بن الحسين من آل يحيى بن حمزة، وجعفر بن أبي هاشم بن محمد من آل الحسين بن حمزة للخطاب والصلح والتلطف للإمام، فلما وصلا إلى الإمام أحسن مقابلتهما وطول عليهما الإمام الكلام وهما عند الإمام كالجاسوسين لمن وجههما وقد عرف الإمام ذلك وعمل بحسبه، ثم نهض عليه السلام من الجوف في شهر محرم أول سنة ثمان وأربعين وستمائة وكان الأمير شمس الدين قد نهض إلى حصنه المعروف ببراش وهو الجبل الذي كان يسمى وتران وشحن في تلمص من الأجناد والخيل والعدة ما أراد، ثم إن أهل البلاد أقبلوا إلى الإمام منهم من وصل إليه إلى الجوف ومنهم من أتاه إلى الطريق وكان الأمير شمس الدين لما أحس بإقبال الإمام وجه الأمير أحمد بن محمد بن حمزة بن الحسين وكان هو ووالده بمكان عند الأمير شمس الدين إلى بلاد دهمة كالنازلين عليهم بالحريم ليكفوا شرهم، فأجاره شيخهم أحمد بن عمرو بن جيلان وحل عليهم بالحريم وعظم الأمر على دهمة وافترقوا فيما [56أ-أ] بينهم، وكان بينهم رجل يعرف اسمه منصور بن الرغيل حليف للإمام ومواداً فاستعطاهم من الركوب إلى الأمير المذكور والجيرة له وقال له: الزم حذرك مني فلم يلتفت عليه فوثب عليه ذات يوم فقتله، فلما بلغ إلى أمير المؤمنين عظم عليه الحال؛ لأنه لا يريد للشرق إلا الصلاح ولأجل ما بينه وبين الأمراء آل يحيى بن حمزة بذيبين؛ إذ هو صهرهم وهم خواصه وأكثر خلق الله مودة فتكلم في ذلك معهم وأقسم ما أمرت بقتله ولا رضيت على هذه الصورة مع أني أعتقد أنه من جملة المحاربين وإنما حقهم يقتضي الصفح عنه والاحتمال وأنا لكم لزيم بما تطيب به نفوسكم ومجبر هذه الحادثة. هذا معنى ما ذكره، فقبلوا منه وشكروه.

رجع الحديث
قال الراوي : فلما اجتمعت معه خيل المشرق من جنب ومأرب وأهل الجوف ومن كان معه من الظاهر نهض قاصداً صعدة فأمسى أول مرحلة عند المراشي، ونهض ثاني ذلك اليوم فحط وادي مذاب، وبلغ إليه العلم بنهوض الأمير شمس الدين إلى حصنه براش بجميع من معه من أهله وعسكره، ثم نهض الإمام من مذاب فحط عند درب الحناجر من مخلاف صعدة وهنالك أقبل إليه الأمراء الكبراء آل يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام ومن انضاف إليهم من بني عمهم وعشائرهم من خولان وهمدان، فقابلهم الإمام بالإجلال والإعظام والإتحاف والإنصاف وشكر سعيهم، وكان أميرهم وكبيرهم ومن إليه مرجعهم الأمير الكبير الناصر للحق أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وأقبلت قبائل صعدة ورؤساؤها وقبائل المخلاف حتى اجتمع من الخلائق ما لا يضبطه العدد.

18 / 56
ع
En
A+
A-