وقد كان هذا الشيخ أمر قبائله بالجلب إلى المحطة المحروسة بالله بكل ما قدروا عليه من أنواع المبيعات من الطعام والكناب والدوم والبقر والإبل والغنم والسمن واللبن فاستراح العسكر المنصور واطمأنوا، وكان قد لحقهم الجهد والتعب، ومما فعل[251/أ] هذا الشيخ المذكور من المعروف أن العسكر المنصور مع وصولهم هذا وجدوا في وادٍ زرعاً حاصلاً من الكناب والسيال ، فأكلوا من ذلك ما وجدوه، وأطعموا ركابهم، فوصل مولانا (أيده الله) فأنكر عليهم، وأمر من يقوم الحب والعلف، فكان قيمة ذلك ثمانمائة حرف، فدفعها إلى أهلها، واستطابت نفوسهم، وأدب من ابتدأ ذلك وأنكر عليه.
ثم ارتحل إلى وادٍ يسمى يبعث من أسفل الربد، فأقام فيه ثلاثة أيام، ولا مدد للعسكر المنصور إلا من بلاد العمودي، وهذه البلدة كثيرة بشجر السدر، ومعظم ثمرها الدوم، فأكل العسكر واستراحوا، ولقد أخبر من شهدهم أنهم كانوا يبتلعون عظم الدوم، مع قشره من غير كسره لشدة الجوع.

[ما حدث في وادي يبعث]
ومما اتفق مع هذه الشدة في وادي يبعث المذكور ما أخبرني به النقيب على بن ناصر جلا الأهنومي، أن ظبياً قطع المحطة، فقام إليه العسكر، وكاد يقتل بعضهم بعضاً، فاستدركهم مولانا الصفي (أيده الله) بأن ركب من فوره ولبس درعه، وحال بينهم وبين الظبي، وقبضه إليه وأعطاهم عوضه جملين، أقسمهما العسكر على عدد الرؤوس بداعي دفترهم، وعلى صفة تقسيم أرزاقهم.
ومن رواية النقيب المذكور أيضاً أنه مسه الجوع في قاع السوط، فقيل له: إن مع صلاح كاشف مولى مولانا الحسن (رحمه الله) قطعة شوى من جمل في خرج حصانه، وهي غداؤه فذهب إليه، وقال له: أطعمني، فقال: هذه القطعة قسمها بيني وبينك، فلما رآها النقيب المذكور اختطفها وهرب بها وهو راكب حصانه، فقفاه صاحبها راكباً كذلك، فاستجار بمولانا الصفي (أيده الله) فأصلح بينهم، وضمن لصاحب القطعة بجمل عوضاً عنها، ثم تقدم مولانا الصفي إلى رأس النقيل، وكان قد عمر معظمه في مدة إقامته، وهي ثلاثة أيام، وبعدها أرسل الأثقال مع مقدمته إلى موضع يأمن عليها فيه، وقد بلغه أن للسلطان محطة لازمة لهذا المحل، ولم يصح له حقيقة الحال، وعدد القوم، وعرف أنه لا سعة للقتال، فترك في محله الأول عامة الناس مع رؤسائهم، وسار معه من خف كاشفاً عن الحقيقة، فوجده خالياً من القوم وفيه الماء الكثير، وقد ترك على الأثقال الشيخ محمد بن الحاج (حماه الله).

ولما حصلت سار إلى موضع ريدة ، وهي بلاد واسعة، يقال إن فيها ثلاثمائة وستين درباً من حصون أهل تلك الأطراف، على النصف منها سلطان[251/ب] يسمى [ ] أبا مسدوس ، وربع منها للسلطان بدر بن عبد الله الكثيري، وربع للشيخ العمودي المقدم الذكر، وقد جعل مولانا (أيده الله) على مقدمته السيد الرئيس صلاح بن محمد الديلمي من أهل وادي السر في نحو ثلاثمائة، فكان في موضع يسمى ملاح على ماء واسع. وقد وصل الشيخ بامسدوس وغيره في نحو مائتي نفر فكساهم مولانا الصفي (أيده الله) وأمنهم، وقبض من هذه الحصون ما هو للسلطان بدر، وحصته منها الربع كما تقدم، ووجد فيها طعاماً وبراً وتمراً كثيراً، فرأس العسكر واستراحوا بعد أن كانوا قد نفد ما معهم، وقد بلغ ثمن الرأس البقر أربعين حرفاً، لشدة الفاقة، والقدح البر سبعة حروف، والقدح الطعام سبعة حروف على سواء، والقدح الدوم حرفين ونصف، وقد لا يكاد يجدون ذلك، فأكل الناس لشدة الجوع جمال بعضهم بعضاً، وقد صار فيهم تسامح لما يرونه في بعضهم من شدة الحاجة، وإذا أعيى الجمل أكله من قرب منه وهو حي لما أخذ الناس من الحاجة، ومولانا (أيده الله) يحسن لذلك ويلين، وقد يسلم القيمة منه، ففرج الله هذه الشديدة بما ذكرنا من هذه الغنيمة الواسعة، فإن الطعام والبر فوق ألف جمل، والتمر فوق خمسمائة جمل، والحمد لله رب العالمين، وأقام أيده الله في هذا الموضع خمسة عشر يوماً، وكفاية السوق يوزعها من عنده، ويستقيم غالباً عليها بنفسه الكريمة ليستنهض الدقيق، وسائر المبيعات من بلاد العمودي أحسن الله إليه خيراً.

ولما استتم له المراد ارتحل إلى موضع يسمى الدرب من بلاد بامسدوس، ثم منه إلى موضع يسمى القفر من بلاد ريده، وفي ذلك المكان واد كثير شجر السدر، وفيه ثمرة حادثة من الدوم، فاشترى ما في الوادي من الدوم جميعاً، وأمر العسكر أن يتزوده، ثم ارتحل إلى موضع يسمى القفر أيضاً من بلاد بامسدوس، وبلغه أن السلطان الكثيري قد لزم نقيل الهجرين موضع هنالك، فترك على المحطة والأثقال السيد صلاح المقدم الذكر، ولبس درعه ولامة حربه، وأمر أهل الخيل بذلك، وعبى العسكر تعبئة الحرب، فلما طلع أعلى الجبل لم يجد لذلك حقيقة، وأن السلطان وأصحابه لم يجسروا على المحط في هذا الموضع، فأرسل مولانا للأثقال والمحطة، وكانت الجمال التي تحمل الأثقال نحواً من ثلاثة آلاف، وتقدم إلى موضع يسمى الهجلا.
ولما استقر فيه تقدم أربعة أنفار من العسكر من بني الخياط يطلبوا الماء فوجدوا أربعة أنفار من أصحاب السلطان على الماء فقتلوا[252/أ] منهم نفرين واجتزوا رؤوسهما، وفر الاثنان الباقيان، ووصلوا بالرأسين إلى مولانا الصفي (أيده الله)، فاستبشر بذلك وأعطاهم، ثم ارتحل في اليوم الثاني إلى موضع يسمى الدس.

[السيطرة على الهجران الأعلى والأسفل من بلاد حضرموت]
وقد تراءى الجيشان، واستبان له (أيده الله) محل السلطان، وفتح الله عليه بموضع يسمى الهجر الأعلى، وهو حصن حوله قرى، فأمر من يحفظه، وأقام في موضعه يوماً، ثم أمر في اليوم الثاني السيد صلاح بن محمد ونحو خمسمائة نفر، ومن الخيل أربعين فارساً أن يغيروا إلى الهجر الأسفل ، وهو حصن كبير، ومدينة متصلة به فيها عالم من الناس، وأمر (أيده الله) بحصار الحصن ومن فيه من رتبة السلطان، وأن لا يدخلوا المدينة مخافة أن يلزمهم القتال فيها (لم يكن قد تعرف عليها) ولا عرف قربها من السلطان ولا بعدها عنه.

فلما وصل العسكر المذكورون دخلوا تلك البلد، وصعدوا دوائرها بأن علا بعضهم على بعض حتى فتحوا الحصن، وجزوا من رتبته نحواً من عشرين رأساً، ووصلوا إلى مولانا (أيده الله) فعتب عليهم كثيراً لعدم انتظار أمره في الإذن بالقتال، وربما أنه يرى أن عليه تقديم الدعاء، وقد علم من حالهم التمادي في الباطل، وأن دعاة الإمام (عليه السلام) في كل شهر ويوم لم ينجع فيهم، ويحتمل أنه كره لهم ذلك الشيء من التدبير النافع، وقد جعل الله في ذلك خيراً كثيراً على أي حال وأقام في هذا الموضع خمسة أيام يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وارتحل يوم الأربعاء إلى موضع أيضاً يسمى هجلة نجران، وهو موضع قريب من محل السلطان، وكانت المحطة الإمامية ظاهرة للعيون في موضع مرتفع، وكانت محطة السلطان في أسفل الوادي، في موضع أعلى وادي العشر. وقد جمع السلطان وألب، وروي أن خيله فوق الألف، وأن عسكره فوق خمسة عشر ألفاً من ألفاف المشرق والمعظة، وأنهم أمدوه من بلاد نجران، وقد أرسل الإمام (عليه السلام) القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن علي بن قاسم العنسي صاحب برط. وهو من عيون العلماء الفضلاء، وأمر بلاد برط، دهمة بالاجتماع إليه، وأن يفتحوا الحرب على قبائل المعظة ومن والاهم على نصرة السلطان، وأعطاهم (عليه السلام)، فانتهوا إلى موضع يسمى مجز من بلاد الجدعان والعرضان وبلاد تسمى الغير، فغزاهم دهمة وآل برط، فقتلوا منهم ثلاثة أنفار، وعقروا ثلاثاً من الخيل، واستاقوا من أنعامهم سبعمائة من الإبل، وما حواه محلهم، وقسمها القاضي أحمد المذكور بين القائمين.

وكان مسير القاضي (أيده الله) إلى هذا الموضع من بلاد[252/ب] برط اثني عشر يوماً، وكان هؤلاء الذين هم مع السلطان كما تقدم قد زادوا إلى بغيهم بأن لقوا قافلة إلى طريق يسمى حوره، فأخذوها وقتلوا من أهلها ثمانية أنفار، منهم نفران شريفان، كما أخبرني بذلك الشيخ عبيد بن ناصر المحمدي البرطي. وكان لذلك أثر في النصرة، ولأعداء الله نقمة وحسرة.
رجعنا إلى سياق مسير مولانا الصفي أيده الله تعالى، ولما استقر مولانا أيده الله يوم الأربعاء في الموضع المذكور خرج بالعسكر المنصور إلى موضع يرى منه جيش السلطان. ثم عاد إلى المخيم المنصور، وجمعهم وحرضهم على الجهاد، وعرفهم أنهم قد صاروا في بلاد منقطعة عن بلادهم، ولا يسعهم مع نصر الله سبحانه وتعالى إلا صدق العزيمة وخلاص النيات، وقد رأى من العسكر الإمامي ما راقه من حسن ثباتهم وعزمهم على الصبر. ثم أمرنا بالمنادي أن ينادي فيهم أن من خالف تدبيره في تعبئة الحرب فهو مؤاخذ، وأن كل فارس يطعن وينزل لقطع الرأس فهو مؤاخذ، وأن كل صاحب بندق يشغل بغير الرمي فهو مؤاخذ وأن قطع الرؤوس عهدة من لا خيل معهم، ولا بنادق وإن كل من اشتغل بالطمع مؤاخذ كذلك ولكل فارس يطعن جمالة، ولكل صاحب بندق يقتل جمالة أيضاً كذلك، وأمسى تلك الليلة وأصبح يوم الخميس لقتالهم. وقد جعل العسكر صفاً واحداً، والرايات أمامهم مصفوفة أيضاً والخيل قلباً وميمنة وميسرة وكان هو والخواص في القلب وقد احتاط بأن جعل مركزاً نحواً من خمسمائة نفر عليهم القاضي الأفضل الهادي بن عبد الله الحارثي .

فلما انهزم أعداء الله كما سيأتي إن شاء الله ظن مولانا، حفظه الله، أن ذلك مكيدة منهم، وأنهم يطاردوا لذلك فرد إلى القاضي المذكور خمسين فارساً وبشر الله سبحانه أن قبض بعض المجاهدين على عبد من عبيد السلطان فأخبرهم أن هزيمتهم جد لا لقصد، وإنما هي فشل وجبن، فأمر مولانا أيده الله بالاستيثاق منه والرباط له فلما صح له صدقه أطلقه.

[رسالة الصفي أحمد إلى الإمام يبين فيها سيطرته على حضرموت]
وكان تلخيص القضية وتفصيلها كما في كتاب مولانا الصفي أيده الله إلى مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخليفة الصادق الأمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، أيده الله بنصره المبين، وأعز به الإسلام والمسلمين، وقد نقل ذلك إلينا في كتاب البشرى، بما هذا لفظه وحروفه بعد حذف طرة الكتاب مفتتحاً باسم الله تعالى والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)[253/أ] وهو قوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وبعد حمداً لله على جزيل نعمائه وشكره على عظيم آلاءه، وجزيل عطائه، وصلواته وسلامه على محمد سيد أنبيائه، وعلى آله الهداة إلى الحق وأصفيائه، فالبشرى إلى قوله المطهر بن محمد، حفظه الله تعالى، وعليه جزيل السلام ورحمة الله وبركاته، وصول كتاب من الولد السيد الأكرم العلامة صفي الدين سليل الأئمة الهادين، أحمد بن الحسن أمير المؤمنين حفظه الله تعالى، وصدرت في مدينة شبام يوم السبت سابع شهر شعبان، وهذه ألفاظها:

بسم الله الرحمن الرحيم: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة اتخذها للقاه عدة، واستودعها ذخيرة عنده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المكشوف ببركته كل شدة، والمعد كل عقدة، (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) صلاة دايمة تستغرق أمدها كل مده، وعلى آله المخصوصين بالولاية بشهادة آية المودة، وصلوات الله وسلامه المباركات الطيبات الزاكيات الناميات، على مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعلم الأئمة الهادين ورافع رايات الجهاد في مراكز المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين أيده الله بنصره المكين، وتأييده المبين، بحق محمد الأمين، وآله الطاهرين. وبعد.. فالمرفوع إلى تلك الحضرة المقدسة والعقوة التي على قواعد الحق إن شاء الله مؤسسة، بما من الله به وله الحمد الجزيل، والثناء الجميل من الفتح المبين، والنصر والظفر والتمكين، من الاستيلاء على قطر حضرموت وتسليم حصونه ومصانعه وعلى ما فيها من الذخائر والسلاح، وإذعان أهل الحق جميعاً بالطاعة ومسارعتهم إلى الإنخراط في سلك هذه الجماعة، بعد أن توافق جيوش الحق، وأحزاب الباطل، موقفين اثنين أحدهما في بلدة الهجرين، فإنه كان أول قدومنا إليه، وأول الحرب عليه، وهو بلد حصين أعز ما يكون في حسابهم، وهو كذلك ليس في الجهة ما يماثله، وهو قريتان إحداهما كبرى والأخرى صغرى، متقاربتا الأطراف، منحصرتا الأكتاف، وكان فيها رتبة نحو خمسة عشر قصبة بنادق وفي الكبرى نحو

98 / 116
ع
En
A+
A-