ثم منها إلى واد يسمى ماطر من بلاد الواحدي أيضاً، ثم إلى أسفل الوادي المذكور إلى موضع يسمى قرية الفقيه علي، ثم منها إلى موضع يسمى عزان من بلاد الواحدي أيضاً، ثم منه إلى وادي ميفعة، وهو من بلاده أيضاً، وأقام فيه نحواً من شهر، واستراحت الخيل وسائر الدواب بخصب ذلك الموضع، وجلب إليهم سائر المبيعات من بلاد الواحدي وغيرها، وهذا المحل متصل بجبل النعمان الآتي بعض صفاته وأهله إن شاء الله تعالى، وضرب في هذا المكان الضربة نقش فيها اسم الموضع المذكور.

[دخول القوات الإمامية إلى أحور]
قصة أحور ودخولها. وهو بندر على ساحل البحر، ومحاد لبلاد العوالق وما إليها من قوم يسمون آل رياب، وآل باكاذي، وهو سوق مجمع لتلك القبائل من أجناس مختلفة، وذلك بمكاتبة من المشايخ منهم العولقي، وترجحات من غيره، أن فيها طعاماً وبيعاً وشراء، وبيت مال للسلطان، وثمرة حاصلة، فأرسل إليها مولانا الصفي (أيده الله) وهو حينئذ في حبان القاضي الفاضل يحيى بن أحمد بن قاسم السباعي الخولاني في أنفار وأربع من الخيل فتلقوه بالإكرام، وكان في البندر المذكور عامل السلطان صاحب حضرموت وهو من أصحابه وشجرته آل كثير، فحملوا من الطعام قافلتين، ووافق وصول ذلك الطعام إلى ميفعة من بلاد الواحدي.
ثم أرسلوا قافلة أخرى كذلك، فأنس المجاهدون بذلك وصلح حالهم، ثم إن مولانا الصفي (أيده الله) أرسل أهل الجمال التي في المحطة المحروسة بالله عليهم الفقيه بدر الدين محمد بن قاسم بن محمد بن أبي الرجال، وكان من كبار عسكر مولانا أحمد (أيده الله)، وقدر الخيل ثلاثة عشر فارساً، وقد تقدمهم نحو من عشرة أنفار سلاحهم البنادق فحسب.

ولما وصل الفقيه محمد بن قاسم المذكور أحور استقصى في طلب الجمال والمسارعة في حمل الطعام على من قدر عليه، ثم قيل له إن مع البدوان جمالاً كثيرة، وهم يسمون آل ذنيب، وآل كاذي، وآل علي، لا يعرفون من الإسلام إلا السماع، والانتماء إليه، فأغرق من أهل الخيل نحو من خمسة فرسان في مساكن القوم، فحصل بين أولئك الفرسان وأهل الجمال اختلاف، وظن أهل الجمال أن هذا ليس بأجره، وإنما يريدون أخذها، وكان الفقيه محمد بن قاسم قد أمر منادياً مع وصوله أحور بالأمان، وأن البيع والشراء بالتراضي والحمول بالأجرة، وظن أنهم قد عرفوا المقصود من طلب الجمال، [249/أ] فعدوا على الخمسة الفرسان فقتلوهم، وهم يأكلون طعامهم، وعلى فراشهم، فبلغ الخبر إلى الفقيه محمد بن قاسم المذكور، فأسرع إليهم ليعرف حقيقة المواقع، ولحقه العسكر، وكان أولهم، وذلك قبل أن يصح له قتل أصحابه الفرسان، وإنما ظن أنهم محصورون.
فلما دنى من القوم تقحم به حصانه، فوقع على الأرض، فقتلوه أيضاً، ثم قتلوا فارساً آخر يسمى مهدي السعواني، وعاد حصان الفقيه محمد لنفسه إلى أحور، وعقروا ما بقي من الخيل، وكان للسلطان منصر العولقي أخ يسمى الشيخ عز الدين مظهراً للموالاة، وهو الخائن، فإنه وأخاه منصر قد شاعت موالاتهما للسلطان صاحب حضرموت، وقبض عطاياه على أن يحدثوا شراً ويثيروا فتنة لشغل مولانا الصفي (أيده الله) من ورائه.

وكانوا قد جعلوا صائحاً في سوق أحور قبل هذه الواقعة للاجتماع، وأنهم يريدون اللحوق بمولانا الصفي (أيده الله)، وعرف أهل الفطنة إنما يريدون غدراً بمن في أحور لما تقدم، ولما كان هذا الشيخ عز الدين مع أصحاب الإمام (أيده الله) قتله أصحابه على سبيل الغرر، ولجهل دهمائهم لمعرفة شخصه، وأخذه الله في العاجلة بذنبه، وجلده في النار بكسبه.
ثم اجتمعت الغارات على أصحاب الإمام الذين في أحور، وهم في المدينة، وقد تحصن فيها أولئك العسكر مع القاضي يحيى بن أحمد، وكان والي حصن أحور من قبل السلطان رجل من يافع، وهو غير والي البلد، ومعه من أصحاب السلطان ثلاثون بندقاً، وكان أصحاب الإمام (أيده الله) قد هادنوه وآمنهم وآمنوه، وعلى أنه يبقى في موضعه لا ينفعهم ولا يضرهم، حتى يتضح له الحال أو يعذر في عهدته.
نعم! فدافع أصحاب الإمام على أنفسهم بما بقي معهم من البنادق، وتحصنوا في الدور المانعة، ونفذ عليهم البارود والرصاص، قال الشيخ سعيد بن علي الشامي القحطاني، وكان حاضراً، إنا طلبنا البارود والرصاص لأهل البنادق بكل حيلة فلم نقدر على شيء، ولا سمعنا له بذكر، وكدنا نيأس من أنفسنا، وإذا في البيت الذي نحن فيه جراب مملوء ففتحناه، فوجدناه باروداً، ورصاصاً كأنها مصبوبة على بنادق أصحاب الإمام (عليه السلام). قال: فاستبشرنا حينئذ وأصابتهم البنادق وانزاحوا عنا.

وأما صاحب الحصن فوفى لهم بما وضع من المهادنة، وكان في أهل الخيل فارس الأشراف آل المنصور بالله بني حمزة وأهل الجوف، يسمى الشريف صالح بن هادي من آل الشويع، وعبد فارس من عبيد مولانا الصفي (أيده الله) يسمى الحاج توكل، فركبا في الليل على مخاطرة، وقطعا المفاوز التي [249/ب]لا حي فيها، ولا يعرفونها ليلاً حتى وصلا إلى المخيم المنصور ثالث يوم، وقد تمزق عليهما من الكسوة لكثرة الشجر، وعرفوا مولانا (أيده الله) بما وقع، ودفعوا إليه خطاً من القاضي يحيى، فأمر الشيخ المجاهد الرئيس عز الدين بن دشيلة الجبري في نحو مائتين وخمسين نفراً سلاحهم البنادق، وأصحبهم باروداً ورصاصاً كثيراً، وأمره بأن يدفع عن أولئك المحاصرين، ويؤمن من وصل إليه من القوم ويقلل الواقع، وهذا من تدبيره النافع، لئلا ينفتح عليه باب من ورائه يشغل المسلمين من ورائهم.
فلما وصل الشيخ عز الدين دشيلة المذكور أمن البلد، وجمع الناس وانظم إليه من كان في أحور وانساق إليهم بيع وشراء، وقد أقام السوق فكانوا كذلك هنالك نحو خمسة عشر يوماً، وأراد أهل تلك البلاد الغدر بالشيخ المذكور ومن معه من المجاهدين مع صلاة الجمعة.

وكان قد بلغ الشيخ عز الدين ذلك، فلزم الحذر منهم وقد صارحوهم الحرب، وواثبوهم إلى المصلى للطعن والضرب، فرماهم العسكر المنصور، وقتلوا منهم ستة أنفار، واجتزوا رؤوسهم، فعاد القوم إلى مواضعهم، ثم قصدوهم مرة أخرى عند غروب الشمس، فخرج عليهم العسكر فهزموهم بإذن الله، وأخذوا منهم اثني عشر نفراً أسرى، وقتلوا ثلاثة أنفار من غيرهم، فامتنع جانب أصحاب الإمام (أيده الله) وهابوهم، وطلبوا منهم الأمان ليدخلوا السوق فأجابهم الشيخ عز الدين إن ذلك لا يكون إلا بأمر مولانا الصفي (أيده الله)، لما علم من غدرهم وعدم وفائهم.
ثم إن الشيخ عز الدين بعدها استدعى وصول مشايخ آل رباب ليخرجوا القافلة لتلحق بمولانا (أيده الله)، وكانت نحو خمسين جملاً، وأهلها كذلك، وأصحبها من العسكر خمسين نفراً، وسبعة فرسان، وقد استخلف المذكورين من أهل القافلة على بلاغهم، وأحسن إليهم، وقطع بوفائهم، لما رأى من حاجتهم إلى الأمان ليدخلوا أحور، وأسواقها ، فمضى أهل تلك القافلة نحو مرحلتين، وفي اليوم الثالث توهم أهل تلك القافلة من الرفق المذكورين أمارات الغدر، وعنوان المكر، وكان في العسكر الذين معهم نحو من عشرين بندقاً، وسبعة فرسان، ومن الرجال مع أهل الجمال نحو من مائة نفر، فلبس أهل الخيل وحضروا للقتال.

فلما رأى ذلك القبائل وعرفوا أنهم لا يهلكون إلا وقد أهلكوا كثيراً منهم، فقبلوا منهم جملاً يرضونهم به في دعوى جعلوها عذرهم إلى الغدر، وكسوة ودراهم مع الجمل، وهم مع ذلك يضمرون أنه إذا دخل الليل انسلوا عليهم ويثورون[250/أ] عليهم في الليل ففطن العسكر لذلك، فأسرعوا المسير بقية نهارهم بما أمكنهم من القوة إلى موضع يسمى الجون -بالجيم وسكون الواو- وبلد الشيخ عبد المانع من صوفية تلك الجهات.
وكان الشيخ المذكور قد هلك ولده محمود بن عبد المانع، وللبدوان فيه اعتقاد، ولمكانه منه احترام، ولجأ العسكر والقافلة المذكورة، فحاول البدوان رخصة من الشيخ محمود فيهم أو أن يخرجهم إلى غير محله فأبى ذلك عليهم، وكرهه منهم، فكان العسكر عنده في أمان أكثر من أربعين يوماً، حتى فتح الله سبحانه وتعالى بما سيأتي من النصر المبين والفتح المستبين، والاستيلاء على جهات بلاد حضرموت جميعاً، والقبض على ملكها وسلطانها، ونفذ أولئك العسكر في نعمة من الله سبحانه وتعالى، وقد أحسن إليهم الشيخ المذكور كثيراً، فشكروه لذلك، وأثنوا على إحسانه ووفائه.

[بقاء أحمد بن الحسن في ميفعة]
رجعنا إلى سياق مولانا الصفي (أيده الله تعالى).
ولما أقام في ميفعة شهراً كما تقدم عجز أهل تلك الجهات المقاربة له عن القيام بمنافع المحطة المنصورة، وقلت عليهم المواد، وانقطع السياق، وحصل في الطريق من العوائق والحوادث ما سيأتي قريباً إن شاء الله، وقد أرسل مولانا الصفي إلى الأمير علي بن الحسين أنه يحسن المخرج من عند السلطان، وقد وصلت كتبه سراً بما عليه السلطان من الغدر والمكر، وعدم صحة ما في كتبه كما رأيت ذلك في مكاتبته (أيده الله) إلى صنوه مولانا العزي (أيده الله) بما هذا لفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحضرة العالية الشأن، السامية البرهان، النامية المكانة والإمكان لسيدي الصنو السيد الإمام، وسيط عقد الأئمة الكرام، عز الإسلام والمسلمين، محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين حفظه الله على الإسلام، وأهدي إليه أفضل الصلاة والسلام، والإكرام والإنعام، صدرت لاستمداد الدعاء، والتعريف لكم عرفكم الله بكل يمن وخير، إنه وصل إلينا صبح الخميس سادس وعشرين ربيع الأول محمد بن شيبان بكتب من السلطان والأمير علي بن الحسين، يذكر أن الأمير عرض على السلطان ما توجه له من عنده، وأن ذلك أمر يتوجه علينا عذر السلطان منه، لما يخشى من الاحتلال في بلده إن غاب عنها. وأن ولده وصنوه حسن يكفيان في ذلك، وعداله حصون عمد وأحور مع ذلك، وتجهيزه عن أخيه فرأينا بعد استخارة الله تعالى الجواب عليهما أنه لا غطاء لانكشاف هذه الحركة إلا وصول السلطان نفسه، ولا نقبل سواه، فإن رأي صلاح نفسه فعله، ونبهنا على الأمير أنه إن لم يدخل السلطان[250/ب] في ذلك استخلص نفسه بحال جميل، وأنفذنا إليه ولده السيد شرف الدين حسين بن محمد بن الشويع بجواب المولى أمير المؤمنين (حفظه الله) إليه، ومعه عشرة أنفار صحبة ابن شيبان، هذا ما تجدد من الخبر، والله نسأل أن يحسن لنا التدبير، ويتولانا بحسن التيسير، ويمتع بحياتكم إنه عزيز قدير، والسلام، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين، حرر غرة ربيع الآخر سنة سبعين وألف [16ديسمبر 1659م]، وكان وصول هذا الكتاب من ميفعة.

نعم! ولما أراد مولانا الصفي عافاه الله تعالى الارتحال من ميفعة جعل على مقدمته الشيخ الأجل علي بن خليل الهمداني في نحو من ثلاثمائة رجل، وسار إلى موضع يسمى الصرة من بلاد النعمان، ثم تقدم أيضاً إلى موضع يسمى الشطارة، وقد لحقه السيد الأعظم أحمد بن الحسن بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن أمير المؤمنين في محطة كبيرة من أهل كوكبان، ثم الشيخ الكامل الفاضل العالم محمد بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي.
فلما استقر الشيخ محمد في الموضع المسمى الصرة، ارتحل مولانا الصفي (أيده الله) وكان في موضع الشيخ المذكور، ومع ذلك المشقة حاصلة مع العسكر بخلاف الدواب، فإن هذه البلدة خصيبة، فأقام فيها نحواً من ثمانية أيام حتى اجتمعت له الأثقال فإنها كثرت، وقد هلك بعض الجمال والقبائل نافرة عن الوصول، ولولا ما جعل الله سبحانه وتعالى لمولانا الصفي (أيده الله) وجنود الحق من الهيبة، وأن القبائل يخافون البنادق لحالوا بينهم وبين صعود الجبل، وهذا الجبل قل مثله في الجبال، وسنرى بعض صفته في كتاب القاضي الأعلم بدر الدين محمد بن علي بن حسين المسوري.
ثم ارتحل من هذا الموضع إلى أعلى الجبل المذكور، وقد كان في المحطة الأولى من أهل كوكبان، فأقاموا فيه يوماً، وكان هنالك ماء عذب في موضع صعب، ثم ارتحل من هنالك إلى السطارة حيث قد صارت مقدمته مع الشيخ علي بن خليل، وإلى هنالك وصل السلطان الأفخم والشيخ المكرم، محمد العمودي بن عبد الرحمن بضيفة كبيرة بقراً وغنماً، وطعاماً، وثمان مائة جمل تحمل الأثقال، وأقام مولانا الصفي (أيده الله) بالسطارة أربعة عشر يوماً.

97 / 116
ع
En
A+
A-