4- الأوضاع العلمية
شهد عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل نهضةً علميةً وفكريةً لا مثيل لها، كانت وليدة للإستقرار السياسي والإقتصادي، حيث (نبغ علماء وأدباء كبار في اليمن في حقبة تدنى فيها الفكر العربي الإسلامي...) .
ولنا أن نشير في هذا السياق إلى أنه لم يكن الإستقرار السياسي والإقتصادي هو العامل الأول والوحيد في إرساء القواعد الصلبة والثابتة لنمو نهضة علمية وفكرية بذلك المستوى الرفيع الذي ظهرت به أيام المتوكل، بل إن هنالك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذا العامل -إن لم تكن أيضاً تتفاوت أهميتها نقصاً وزيادة لهذا الأخير - كانت قد لعبت دوراً فاعلاً في إرساء المناخات الصحية اللازمة- كما هو الحال في كل زمان ومكان -لبلوغ المجالات العلمية والفكرية مقاصدها وتحقيقها أعلى مراتب التفوق والإنجاز. ويمثل الفكر الزيدي واحداً من أهم تلك العوامل، كان لها الفضل الكبير في أن تكتسب النهضة العلمية والفكرية شأواً عالياً في مجمل الحياة العامة.
ويعود ذلك إلى أن هذا المذهب لم يكن كغيره من المذاهب حيث (تميز بالحرية الفكرية والحرص على ضرورة حض العلماء على الإجتهاد والبحث عن حلول لما يواجههم من المشكلات الشرعية والإجتماعية ورفض المقولة التي تذهب إلى أن باب الإجتهاد قد أوصد منذ زمن بعيد في نظر بقية علماء المسلمين ومقلديهم...) .

وليس بغريب أن تشهد الحركة العلمية ذلكم النمو والإزدهار، طالما ووجدت الدولة التي ترعى متطلبات نهوضها، والدولة في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، كما يذكر لنا الجرموزي، قد جسدت هذه الرؤية خير تجسيد، فكانت النموذج الأول في ذلك، حيث أولت العلم والعلماء النصيب الأكبر من جل إهتماماتها المختلفة، وحفظت لهم مكانتهم العالية ومرجعية ذلك هو أن الإمام نفسه كان -وهو أكبر باعث لهذا الإهتمام- أحد علماء زمانه، وكان قد برع في علوم الدين، وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم. ولم يكن الإمام صاحب قدر بسيط في علمه، بل إنه عَلَمٌ من أعلامه، وواحد من جهابذته، ذاع صيته عالياً في الداخل والخارج، حتى أن ذِكْرَهُ كما يقول الجرموزي (ملأ الرقاع والبقاع) .
ولقد قرّب العلماء منه وأجزل لهم العطاء، وكان إذا ما زار مدينة أو قرية اصطحب معه (أكابر العلماء وطلبة العلم يأخذون عنه ما يريدون، وهو يبذل ويفيض عليهم من بيوت الأموال ما يحتاجون إليه...) . وقد أثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات في مجال الفقه والحديث والتي ما تزال مخطوطة .
ولعل هذا الإهتمام الذي أبداه الإمام المتوكل على الله إسماعيل بالعلماء قد كان له وقعه وأثره الفاعلان على رجال الدولة في العناية بطلاب العلم. وهذا ما رصده مؤرخنا في سيرته، فعلى سبيل المثال أشار إلى قيام محمد بن الحسن بإنشاء وإصلاح العديد من دور العلم في كل من ذمار وإب لتلقي (الدرس والتدريس) وكذا قيام أحمد بن الحسن في سنة (1072هـ/1661م) بإصلاح وترميم بعض المدارس في مدينة عدن .

وكانت المساجد هي مراكز تلقي العلم، حيث لم تكن توجد في تلك الفترة، أماكن بعينها عُدت لهذا الغرض -كالمدارس والجامعات، وغيرها من دور العلم الحديثة- فكانت المساجد بمثابة المدارس .
وإزاء تزايد أعداد طلاب العلم، وخصوصاً الوافدين إلى المراكز العلمية في المدن، اهتمت الدولة ببناء المنازل لغرض (إقامة الدَرَسْة) وهيأت لهم الظروف المعيشية فيها؛ ولأن صنعاء قد مثلت أيامها واحداً من أهم المراكز الإسلامية العلمية البارزة في ذلك الوقت، فقد أمّها عدد غير بسيط من العلماء العرب والمسلمين، أمثال الشيخ العلامة أحمد بن محمد الجوهري ، والشيخ العارف منصور بن يوسف بن منصور المصري الأزهري ، ويذكر مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته، بأن هؤلاء العلماء قد تلقوا كل إهتمام ورعاية من قبل الإمام، حيث أمن لهم محل إقامتهم، وهيأ لهم سائر جوانب معيشتهم الأخرى. بل وأكثر من ذلك، حيث يشير إلى تلك الجلسات العلمية التي عقدها الإمام معهم، والتي تبودلت خلالها العديد من المناقشات والمناظرات الدينية القيمة، ولقد اتخذ بعض من هؤلاء العلماء من اليمن مقراً دائماً لإقامتهم، مثل الإمام المحّدث عبدالرحيم اللاهوري الهندي الذي (تعلق بجانب الإمام للحمة العلم) .

ولم يقتصر ذكر الجرموزي على إهتمامات الإمام بالجانب الديني وحسب، بل تعداه إلى جوانب أخرى كثيرة، شملت الأدب الذي كان -كما يقول مؤرخنا- محل اهتمام خاص لديه، الأمر الذي يفسر تصدر الشعر في العديد من المناسبات، والتي رصدها لنا الجرموزي في مخطوطته، وهي دليل على ازدهار الأدب، وبالذات الشعر حيث احتّل موقع الصدارة بين غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
ولابد من الإشارة إلى أن الإمام كان ممن يقرض الشعر، وقد أورد مؤرخنا بعضاً مما قال في إحدى قصائده عند بسط نفوذه على حضرموت، حيث قال:
يقول إمام الحق والله عونه .... على خاذل للحق رام التباسه
عزمنا على اسم الله ننصر دينه .... ونهدي إليه من أراد اقتباسه
وقد ضمن مؤرخنا بين دفتي مخطوطته ذكر العديد من العلماء الذين عاصروا الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وكانت لهم بصماتهم على الحياة الفكرية، وأثروا المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات. نذكر منهم على سبيل المثال أحمد بن صالح بن محمد بن أبي الرجال (ت 1092هـ/1681م)، والحسين بن يحيى بن محمد السحولي (ت1073هـ/1662م)، وأحمد بن سعيد الهبل (ت1061هـ /1650م)، وعبد القادر المحيرسي (ت1077هـ/1666م)، وأحمد بن يحيى بن أحمد حابس الدواري (ت1061هـ/1650م).

5- الظواهر الطبيعية
لم يقتصر مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته على التطرق للموضوعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية منها، بل سعى إلى رصد الظواهر الطبيعية، كَسْير النجوم ومواسم الأمطار، وسقوط الشهب، ووقوع الصواعق، وهبوب العواصف، مماعاصر حدوثها أيام حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
فهو على سبيل المثال، قد رصد وقوع كارثة ألمت بذمار سنة (1056هـ/1646)، عندما هبت رياح شديدة -ما يسمى بالإعصار في وقتنا الحاضر- على المدينة وأدت إلى حدوث أضرار مادية جسيمة فيها. حيث نجده يذكر هذا الحدث بقوله: (وفي سنة ست وخمسين وألف وقع في محروس ذمار ريح زعزع لم نعهد مثلها، وأخربت بيوت مما ضعف عمارتها، وزلزلت البيوت الكبار) .
وفي موضع آخر نجده يصف وقوع صاعقة شديدة على مدينة صنعاء في سنة (1055هـ/1645م)، أدت -كما يقول- إلى سقوط الأجزاء العلوية من (المنارة الشرقية في الجامع الأعظم، وشقت الجدار الشرقي من الجامع وجمعت فراش شرقي الجامع بعضه على بعض) .
ونجده أيضاً يتتبع مواسم هطول الأمطار، حيث يسجل لنا ما أحدثته هذه الأمطار في آخر سنة (1072هـ/1661م) من خراب في مدينة صنعاء، نتيجة لهطولها المتواصل، فيقول: (وفي أواخر سنة اثنتين وسبعين وعشر من ثلاث وسبعين وألف حصل المطر، السانع في اليمن، غالب أوقات الليل والنهار وطال، فخرب من دور صنعاء نحواً من سبعين داراً، وقل ما بقى من بيوتها ومساجدها لم يتشقق) .

ويتطرق مؤرخنا كذلك إلى ذكر ظواهر كونية، فهو مثلاً يصف تساقط بعض النجوم سنة (1062هـ/1651م) حيث يقول: (وفي عام اثنتين وستين وألف، انتشرت النجوم وتساقطت في نحو ثلثي الليل حتى ظن من رآها أنها تقدم من السماء) .
وفي موضع آخر نراه يتتبع سير أحد النجوم، في سنة (1062هـ/1665م) فيقول: (وفيها أو بعدها بعام طلع نجم صغير له شعاع يقدمه ويعقبه شعاع حتى غلب ذلك الشعاع جرمه، فصار كأنما هو شعاع ابتداؤه من جهة الجنوب، ويسير جهة الشمال، ويمضي في كل ليلة نحو ثلاث منازل حتى قطع أفق السماء ما بين عدن والمشرق إلى جهة القبلة في نحو عشرة أيام) وهكذا يكون مؤرخنا قد استوفى في مخطوطته، ذكر وقائع الأحداث لما شاهده أو نُقل إليه من أخبارها خلال معاصرته لفترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الأمر الذي جعل من مخطوطته ودراستها وتحقيقها وإخراجها إلى حيز الوجود ضرورة تستوجبها الأهمية التي اكتسبتها هذه المخطوطة، إلى جانب الأهمية التي اكتسبتها الفترة الزمنية التي أرخت لها، والتي تعد واحدة من أهم الفترات الزمنية- كما أشرنا في بداية دراستنا- في التاريخ اليمني الحديث.
منهج النشر
إن الغرض من تحقيق أي مخطوط هو ضبط نصه، كما أراده صاحبه، فإن كان بخطه فهو الأصل، وإن كان للمحقق تصحيحات عليه فله أن يضعها في الحاشية.

أما إذا كان من نُسخٍ ليست أمهات-أصول- فله أن يأخذ من أقدمها وأفضلها الأصل وما عداها مساعداً، وفي هذه الحالة وعندما يوجد خطأ ما في الأصل وكان هنالك ثمة تصحيح في النسخ الأخرى فلا مانع من تثبيت الصحيح والإشارة إلى ما جاء في أصل النص في الحاشية، وإذا كان هناك خطأ إملائي كرره المؤلف أو الناسخ مراراً، ففي حالة كهذه يتم تصحيحه على ما هو دارج في كتب اللغة والأدب.
ولعلي أستطيع -على ضوء ما سبق- أن أقول إني قد إتبعت عند تحقيقي مخطوطة تحفة الأسماع والأبصار -موضوع الدراسة- أصول وقواعد المنهج العلمي المُتَّبعُ في تحقيق النص. واعتمدت عند تحقيق المخطوطة أربع نُسخ، اخترت أفضلها، لأسباب أوضحتها في معرض حديثي عن نسخ الكتاب.
وعند نقلي لخط الناسخ صادفتني بعض الصعوبات، تمثلت في صِغَرْ حجم كلمات المخطوطة، نتيجة التصوير على الميكروفيلم مما أدى بالضرورة إلى استخدامي لعدسة مكبرة بشكل مستمر- وهو ما عانيت منه الأمرين-. يضاف إلى ذلك وجود عدد كبير من الكلمات المهملة، قمت توخياً للدقة والأمانة بنقل هذه الكلمات عن طريق فك رموزها وتقريبها إلى معانيها الصحيحة بعد مقارنتها بالنسخ الأخرى؛ ذلك أن أي خطأ في تصويب المعنى سيؤدي بالنتيجة إلى تغيير لمعنى العبارة كاملاً، وأمَّا التي لم استطع التوصل إلى فك رموزها، فلم يكن أمامي من حل سوى تركها كما هي برسمها، مشيراً إلى ذلك في الهامش بعابرة (كذا في الأصل) أو بعبارة آخرة (لعلها كذا).

وقد عمد الناسخ عند نسيانه لكلمة ما أو لعبارة ماء أثناء نسخه وضع إشارة (7) أو (صح) تنبيهاً للقارئ لما أراد الناسخ أن يوصله إليه، وإزاء ذلك قمت متوخياً الدقة التي انتهجتها في نسخ المخطوطة، بوضع الكلمة في مكانها الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الهامش.
وقد كان من الضروري التنبيه إلى الأخطاء واللحن عند مؤرخنا كي لا يظن القارئ أن ما كتبه المؤلف صحيحاً، ومن ثم عملت على تصحيح ما هو مهم في الأصل، والإشارة إلى ذلك في الحواشي مثل: (..وهو حينئذٍ لم يكن قد كتب..) سنجد أن العبارة في الأصل: ( وهو حينئذ لم قد كتب...) وتمَّ -لهذا الغرض- إضافة كلمة أو حرف ووضعها بين حاصرتين معقوفتين من لدينا ليكتمل بذلك المعنى، وأشرت في الهامش: (وهو لحنٌ وقومته).
وصحِّحت الأخطاء الإملائية -بما يتوافق وأسس الكتابة المتداولة في عصرنا- كأن تكون التاء التي استخدمها الناسخ مفتوحة على أنها مربوطة، فأقوم بتعديلها إلى الصحيح مثل زكوات صلوات فصارت زكاة، صلاة.
أمَّا ما يخص الأخطاء النحوية واللغوية فلم أصحح منها إلا ما كان مُخِلاً بالمعنى، أو مثل تصحيحه ضرورة مُلِحة، فمثلاً: الهمزة: دأب الجرموزي على إهمالها أو عدم وضعها في مكانها الصحيح مثل: فقاها (فقأها)؛ وفي موضع آخر عمد مؤرخنا على تخفيف الهمزة، واضعاً عوضاً عنها ياءاً كأن يرسم وسائط بهذا الشكل (وسايط) أو الفائضة بال‍(فايضة)، وهو ما لم أذهب إلى تغييره، بل تركته كما في المتن، لكونها
-أي مثل هذا الرسم للكلمة- تعود إلى لغة العصر، مع الإشارة إلى ذلك مرة أو مرتين، وإيضاح أن ذلك لن يتكرر.

وأمَّا ما تم اضافته من النُّسخِ الأخرى إلى النسخة التي اعتمدت عليها- في نسخي للمخطوطة- من عناويين أو مواضع أو تواريخ فقد تم وضعها بين حاصرتين معقوفتين.
وبالنسبة لأسماء الأعلام والمواضع والمصطلحات عملت على تضمين رسالتي بتعريف لكل منها كما خرجت الآيات والآحاديث، تاركاً بعض الأماكن التي لم أعثر لها على تعريف المصادر، سواء كانت (معجم البلدان لياقوت الحموي) أو (معجم القبائل والبلدان للحجري) أو (اليمن الكبرى للويسي) وكذا (كتاب الإحصاء الصادر عن الجهاز المركزي للتخطيط). والظاهر أنها قد اندثرت أو أنها أماكن صغيرة أو غير مأهولة بالسكان حالياً، فكان أن أغفلتها هذه المراجع.
وما جاء في النص من الأعداد قد صاحبتها الأخطاء بشكل أو بآخر، فقمت بتصحيحها وأنوه هُنا إلى أنني اتبعت نمطاً واحداً في صياغة الأعداد، فمثلاً عمد الناسخ إلى كتابة العدد بهذا الشكل، أربع مائة، ومرة أخرى أربعمائة، فجعلت رسم العدد على النحو التالي: أربعمائة ونحوه، مكتفياً بالإشارة لمثل ذلك مرة أو مرتين في الهامش.
كما عمدت إلى وضع ما صادفني من إضافات كُتبت بغير خط الناسخ في الهوامش مع الإشارة إلى ذلك.

ومما لفت انتباهي أثناء عملية النسخ، وجود بياض في أكثر من موضع فعلى سبيل المثال، يسرد المؤلف أبياتاً من الشعر بمناسبة معينة، فإذا ما انتهى منها يورد هذه العبارة: (ومما قيل في هذه المناسبة) ولا يأتي بالقصيدة، إلا أن الناسخ كان يشير في بعض جوانب تلك الأوراق بعبارة (بياض في الأم) وهو ما أشرت إليه بوضع نقاط على السطور أثناء النسخ [....] لنذكر في الهامش أن الورقة بياض، مع الإشارة إلى مقدار ذلك البياض في ورقة المخطوط.
وقمت بوضع عناوين جانبية للمخطوطة والتي أوردها الناسخ على حواشي أوراق المخطوطة، وقد أشرت إلى ذلك في هوامش النص.
أمَّا بالنسبة للعناوين التي تدخلت في وضعها فقد أبرزتها ما بين معقوفتين، ونوهت إلى ذلك في هوامش النص بالعبارة التالية (ما بين المعقوفين عنوان أضفناه على طريقة النسخ).
وأمَّا بخصوص الآيات القرآنية التي جاءت أكثريتها ناقصة، فقد اكملتها في الحواشي، وفيما يتعلق بالأحاديث الشريفة فقد اقتصرت على الإشارة إلى أوثق المراجع وأكثرها أهمية، أورد ذكر هذه الأحاديث التي تضمنها النص، وكانت هذه المراجع التي أشرنا إليها في الهوامش متأخرة أو أقل أهمية من الكتب الستة.
ولقد أورد مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته وقائع وأحداث رحلة الحبشة التي قام بها العلامة الحسن بن أحمد الحيمي -كما أشرنا سابقاً- ولم يقم مؤرخنا سوى بنقلها كما أوردها مؤلفها -الحيمي- إلى مخطوطته.

9 / 116
ع
En
A+
A-