[الحرب ضد ابن العفيف]
وكان مولانا الصفي أحمد بن الحسن (حفظه الله) جعل رتبة في جبل مرفد وهم عسكر الدامغ وأهل بلاد آنس ومن انضاف إليهم، وكانوا أكثر من ألف.
ولما انفتح الحرب على ابن العفيف وقومه أمر أولئك الرتبة المذكورين وعليهم الفقيه الفاضل محمد بن عبد الله بن عز الدين الأكوع أن يفتحوا الحرب على أهل ذي ناخب، فنزلوا من موضعهم ذلك للاتصال بجبل ذي ناخب فوجدوهم لزموا موضعاً ضيقاً[220/أ] منه فمنعوهم من الصعود وعن العود إلى موضعهم الأول أيضاً وعلوهم بالرمي فأصيب منهم فوق العشرين النفر، منهم الشيخ جابر بن أحمد الملاحي وغيره من كبار العسكر، ومشايخ آنس، فكانوا في شدة لذلك.
ورأى أهل ذي ناخب رايات الحق في أعلى جبل النفاخ والحريق والقتل الذريع فولوا هاربين، [وكانوا كذلك قد] سمعوا الخزائن ضربت للفرح، فاحتمل أهل حصن الدامغ، ومحطة آنس قتلاهم، وعادوا إلى محلهم الأول.
ثم إن مولانا الصفي أمر الفقيه بدر الدين محمد بن عبد الله الجملولي بعسكر إلى أسفل بلاد العفيف لحفظها من الانتهاب وأمر الناس بالرجوع، واحتملوا من رؤوس المفسدين نحو ثلاثمائة رأس، من غير ما تركوه لم تقطع لكثرتهم، [إلى مسجد النور] .
ثم بعد أيام [ ] استأمن ابن العفيف وهو الشيخ معوضة، وكان شيخاً كبيراً، ثم ولده الشرير المسمى محمد، وكان بعض المجاهدين [قد] وجدوا في شعب امرأة وجوار لها والآلات فاحتملوها بمن معها، فكانت امرأة ابن العفيف، فأمر مولانا أحمد (أيده الله) بمسيرها مع ثقات إلى حصن رداع رهينة.
وكتب إلى الإمام (عليه السلام) بذلك فأمر بإشخاصهم إليه، وقد استأمن أهل بلاد يافع جميعاً، وكذلك الشيخ القرعة من بلاد دثينة، فأرسلهم مولانا الصفي إلى مولانا عز الدين محمد بن الحسن، ثم إلى مولانا الإمام (عليه السلام)، وأخبروا ابن العفيف وهو في الطريق بأن امرأته قد صارت في الحصين، أو في رداع، وهو يظن أنها قد نجت فألم به الحزن الشديد والخوف الذي لا عليه مزيد، وتعلق به الألم، حتى كان من أمره ما سيأتي قريباً إن شاء الله.
نعم ! ولما رأي مولانا الصفي (أيده الله) بعد قبض أموال الخبيث بن هرهرة وما أمكن من الحبوب، أمر بقبض سلاح جميع أهل بلاد ابن العفيف وهي البنادق والعيدان والدرق، وأن لا أمان لهم حتى يسلموا ذلك، وكذلك الطاسات، وكان جملة البنادق المقبوضة نحواً من ثلاثمائة، وقدر حملين من العيدان والدرق، ومن الآلات الطرب المعروفة ما يدنوا من حمل من غير ما كان قد غنمه المجاهدون ولم يتركوا لهم فيما يقال سلاحاً.
ثم بعد ذلك ترجح للإمام (عليه السلام) أن تكون بلاد يافع وبلاد الرصاص وغيرهما بنظر ولده الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين (حفظه الله)، وكان مستقراً في بلاد يافع الفقيه الأجل شرف الدين الحسين بن يحيى المخلافي، وكان فيها، وأُمَّر فيها، وأحسن السياسة، وقويت يده عليها وهو من أهل صدق الحديث والمروة، والحلم والأناة، وكان في بلاد البيضاء وما إليها [220/ب]الفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي، وقطعة من العسكر نحو أربعمائة.
ولما صلح أمر يافع وبلادها، وكان الأمير أحمد بن شعفل في موضعه المسمى خرفة، وقد كان يكاتبه مولانا العماد يحيى بن محمد بن الحسن بأوامر والده محمد بن الحسن (أيده الله) بالوصول إليه إلى قعطبة، وأن ينظم إليه، ويفتح من جهته على يافع، وهو تارة يبعد وأخرى يقرب، ويتربص الدايرة، فإن كان يافع الظاهرين كان بمن أطاعه على من في قعطبة، وإن كانت الأخرى خاطب وكاتب.
فلما كان من أمر يافع ما كان أرسل مولانا صفي الإسلام (أيده الله) السيد الفاضل جمال الدين علي بن عبد الله بن حيدرة الغرباني إلى المذكور أن لا رخصة في أحد أمرين إما وصولك إلينا أو وصولنا إليك وعرف المذكور سوء تدبيره بسوء معاملة مولانا عز الدين محمد بن الحسن (أيده الله) وأن بلاده إليه، وعوايده المعتادة مجراة منه، فخاف لهذه الأسباب واستأمن إلى مولانا الصفي أحمد بن الحسن (حفظه الله)، وبعث عيون أهل بلاده إلى مولانا يحيى بن محمد يتمسك باليدين ويستر ما كان منه من الخيانة، وقد ظهرت في البلاد واشتهرت.
نعم! ولما صلح بحمد الله أمر يافع تقدم سادتنا (أيدهم الله) إلى الخلقة، وقد كتبوا إلى الرصاص وإلى العولقي وإلى الفضلي، وجميع سلاطين المشرق يطلبونهم الوصول إليهم، ومن لفظ كتاب إليهم: إما وصلتم إلينا أو وصلنا إليكم، فلم يتخلف منهم أحد إلا دخل في الطاعة، وسارع في الوصول.
وقد تقدم أن الأمير أحمد بن شعفل وصل إليهم إلى مسجد النور، وطلب العود إلى بلده وتلقاهم إلى ذمار، ففسحوا له ولقيهم إلى ذمار كذلك، ثم تقدم ساداتنا (أيدهم الله تعالى) بجميع سلاطين المشرق إلى الصلالة بالغنائم الواسعة والأسرى.
ثم خرجوا منها إلى قاع الرماة، ثم تقدموا من قاع الرماة إلى الزهراء، ثم من الزهراء إلى المعسال، ومن المعسال تقدموا إلى رداع ثم خرجوا من رداع إلى مشهد الإمام الديلمي عادت بركاته، ثم خرجوا منه إلى ذمار، إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله)، وتلقاهم بالتعظيم والضيافات السنية، وقدم لهم خيلاً محلية، وفي اليوم الثالث تقدموا جميعاً إلى حضرة الإمام (عليه السلام)، وقد رتب مولانا الصفي (أيده الله) كما أخبرني من شهد ذلك الجند الإمامي بين يدي سادتنا (أيدهم الله) وجعل سلاطين المشرق من بعدهم وتقدموا إلى معمور الحصين إلاَّ الرصاص وأصحابه، فإنهم أمسوا في معبر فكانوا هنالك، وتلقاهم الإمام (عليه السلام) بالتعظيم، وأمر من في حضرته من أهل الفضل والرئاسة[221/أ]، والنبل بلقائهم، وأعد لهم الضيافات السنية، والمضارب البهية والخيل المحلية، وأخذ في إعطاء العسكر والكسوة لكبرائهم، والتفقد لأحوالهم وأمر كل رئيس تحمل أرزاق أهل ديوانه لئلا يزدحموا عند العدد وليتم عطاؤهم من غير مشقة عليهم.
ثم أذن لهم بالفسح ، فذهبوا الأول فالأول، وأما السلطان صالح الرصاص، فقدم في اليوم الثاني من وصول سادتنا (أيدهم الله)، فأمر مولانا (عليه السلام) بتلقيه وتعظيمه، وهو على حالته المعهودة لباسه كأصحابه، ومن عادتهم يجعلونه وسطاً منهم، ويحفون به من كل جهة، ويمشي بينهم فلا يقدر أحد أن يسلم عليه، أو أن يميزه عنهم، وقد يركب من عبيده من يركب، وينفردون عنه، فلما دخل (عليه السلام) عظمه كثيراً، وجعل له داراً مستقلة فأقام ثلاثة أيام أو أربعة، وافتسح بعد أن أخذ الإمام (عليه السلام) تجديد البيعة وأعطاه ما لا يحتسب، وكذا أصحابه، وقد يأخذون عليه من عطائه أكثر من النصف، ومن طلبه من أصحابه شيئاً قال هو لك.
أخبرني بعض من سمع حديثه أن الإمام (عليه السلام) سأله ليؤنسه، فكان جوابه على الإمام (عليه السلام) بدون المقصود منه مما يفهم الفطين أن ذلك غياً وكلل، فتولى الجواب عبد للرصاص يسمى شليل، وكان متكلماً فسكت السلطان عنه، فلما خلى بأصحابه أراد أن يقتل العبد المذكور وقال له: تنازعني أمري فسقط العبد على أقدامه يقبلها، وأخذ في الاعتذار إليه، وعاد الرصاص معظماً مكرماً، ولسانه يذكر الإمام (عليه السلام) وإحسانه شاكراً.
رجعنا إلى ذكر آلات الملاهي التي قبضت من تلك الديار، وكانت أحمالاً وعرضوها على الإمام (عليه السلام)، وكان حاله (عليه السلام) فيها كما قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (عليه السلام) مفتخراً وناهيك به فخراً:
لا نعرف الملاهي .... ولا ندري بالعيان ما هي
وقال (عليه السلام):
لا نعرف الخمر إلا حين نهرقها .... ولا الفواحش إلا حين ننفيها
وأمر مولانا عليه السلام وأما السلاح المغنوم من جميع أنواعه فأمر به إلى بيت المال، وأما المشايخ ابن العفيف، وابن هرهرة، والناخبي، فأمر (عليه السلام) بإرجائهم عنده، وأجرى عليهم النفقات الكثيرة، وأعطاهم العطايا الغفيرة، حتى يقال إنهم كسبوا منها أكثر مما ذهب عليهم، وقد تقدم أن أولاد ابن العفيف أشخصهم مولانا الصفي (أيده الله) إلى الإمام (عليه السلام)، وكانو في دار في الحصين[221/ب] فأوى إليهم، وتعقب ذلك موته، ثم إن مولانا (عليه السلام) أقام أخاه مكانه في رتبة فمات عقبه أيضاً، وكذلك الناخبي لبث أياماً يسيرة ومات وسايرهم جدد عليه الإمام (عليه السلام) العهود، وأذن لهم في العود إلى بلادهم، وقد ولى عليهم كما تقدم ولده مولانا الحسين بن الحسن.
رجعنا إلى حديث السيد شرف الدين فإن يافع أطلقوه، وصار إلى أبين، ثم خرج منها إلى بلاد تعز من طريق عدن، وعاد إلى الإمام (عليه السلام).
[وفاة زوج الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
وفي أيام هذه المذاكرة، كان انتقال الشريفة الطاهرة فاطمة بنت الحسن بن أحمد بن حميد الدين بن مطهر زوجة مولانا أمير المؤمنين (أيده الله)، [إلى رحمة الله] ، وكانت هذه الشريفة من ذوات الفضل والخفر ، والطاعة لله عز وجل كانت أم المساكين وأم ذوي المروات من المسلمين.
قال الفقيه الأديب المهدي بن محمد بن عبد الله المهلا: فشيعها نحو من ألف رجل، وضج الناس بالبكاء لا سيما المساكين منهم والأرامل لما كان فيها من المعروف والشفقة على الضعفاء والقدرة على المروءة الكاملة، ولقد بلغني أن الإمام (عليه السلام) كان يرق لها من مباشرة أقوات الناس على طبقاتهم ويريد أن يخفف عليها فلم ترض بذلك وتصبر لمقصدها رضى الله عز وجل وتحتسب.
ومما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى إنها جمعت حليها والفاخر من ثيابها، وأرسلت بذلك كله إلى والدتها الشريفة الطاهرة زكية بنت أمير المؤمنين عبد الرب بن علي ، لتقطع نفسها عن الداعي إلى لبس شيء من ذلك قال (عليه السلام): وكانت تقول هذه بباب المباهاة نتركها في صنعاء أو كما قالت.
ومما قيل فيها من المراثي قول الفقيه الأعلم المهدي بن محمد المهلا، بعد أن قريت في محفل عام، وذلك بعد دفنها (رحمة الله عليها)، فلما سُمِعَّت أمر الإمام (عليه السلام) بنقلها إلى بعض كتبه، وتداولها الأصحاب، وهي:
أأم علي راعني يومك الذي .... تجهزت فيه للرحيل إلى القبر
لألف وست بعد ستين حجة .... درجت إلى الفردوس طيبة العطر
وفي صفر في سادس الشهر كان ما .... قضى الله والآجال مجهولة القدر
وأبقيت حزناً في القلوب ومدمعاً .... على الخد تجري في الحرارة كالجمر
وفتت أكباداً بإسكانك الثرى .... وقد كنت في القصر المشيد في ستر
وجاورت ترباً والجنادل والحصى .... وقد كنت بالحلي المصوغ بالدر
[222/أ]فإن عشت في أعلى العلالي مصونة .... وإكرامك الوفاء وكلاً على قدر
وإن كنت قد فارقت دنيا دنية .... فقد صرت في الجنات بالحلل الخضر
لجأ الله ذي الدنيا مناخاً لراكب .... يبت بأوجال ويسفر في السفر
وواراك في القبر الإمام وإنه .... صبور لدى البأساء محتسب الأجر
وما كان يرضى أن تكوني بعيدة .... ولا كان يرضى أن ينالك من ضر
ولكن قضاء الله والأمر أمره .... رضينا قضاء جاء من عادل بر
سقى الله قبراً أنت فيه برحمة .... ورضوانه الأسنى يدوم إلى الحشر
وهنيت جمع الشمل بالبيت فاطم .... أنست بها أنس الرضيعة بالحجر
سناوك بالإحسان قد طاب مسمعاً .... ومن عامل الرحمن خلد بالذكر
وفيك بلا ريب فضائل جمة .... وقصد لوجه الله في السر والجهر
صحبتي إمام العصر عشرين حجة .... بظل لدى الأضياف منشرح الصدر
وإنك من قوم بهم يفخر العلى .... ويكفيهم نص الأحاديث والذكر
وإن علياً بعد أن غبت طالبٌ .... رضي الله بالحمد المكرر والشكر
فصبراً جميلاً يا سليل إمامنا .... فحسبك أن الله أثنى على الصبر
وما دام إسماعيل والدك الذي .... هو الحجة العظمى المؤيد بالنصر
فزعنا إلى الرحمن ثم إمامنا .... لنلقى به وجه الطلاقة والبشر
فما همه إلا الدعاء لربه .... وإنفاذ أحكام الشريعة بالأمر
وكم حل عنا الله عقد ملمة .... بأدعية منه تقابل باليسر
وفي جدك المختار أعظم أسوة .... وكل الورى هذا إلى أجل تجري
وفي فاطم بنت النبي محمد .... وأولادها أهل الطهارة والفخر
عليهم صلاة الله ثم سلامه .... وإكرامه ما دار من غِير الدهر
وهاك نظاماً أرتجيك قبوله .... وفي القلب ما فيه فكن باسط العذر
ومنك الدعاء لي بالمثوبة والرضى .... وغفران رب العرش خاتمة العمر
[مراسلة السلطان بدر بن عبد الله الكثيري إلى الإمام المتوكل على الله]
فصل:ولنعد إلى أسباب المراسلة إلى صاحب حضرموت، ومعظم المراد منه ما يجب لله تعالى من طاعة، وطاعة الرسولًبطاعة إمام الزمن الداعي إلى دين الله سبحانه، والذاب عنه، والجاهد في إحيائه، ولا بد من ذكر ما كان من هذا السلطان وأخوته من العدوان على عمهم السلطان[222/ب] بدر بن عمر، وكيفية الاستيلاء عليه بالغدر، وأنه كان أقربهم إلى محبة دولة الحق في أيام مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (قدس الله روحه) فتعرض الرصاص ومن أجابه من أهل المشرق لجنود الحق، فكان ما سبق.
وقد ذكرنا تقدم الأمير الصالح صالح بن حسين بن مطهر بن الشويع إلى جهة حضرموت بمكاتبة من مولانا صفي الإسلام أحمد بن الحسن (أطال الله بقاه) عن أمر الإمام (عليه السلام) في شأن هذا السلطان فعاد الأمير المذكور بواجبات، وابتداءات إلى الإمام وأولاده، مما يدل على دهاء من هذا السلطان وبُعد غور، وبعض كمال في دنياه، حاصلها التلون، والمداجاة منها هذا الكتاب، وكان أصحبه الأمير المذكور: