[كبار أعيان يافع يطلبون الأمان]
وفي يوم السبت والأحد والاثنين وصل كبراء يافع وعيون عامتهم بعد أن طلبوا الأمان، وجأروا بالاستغفار، وقد أرسل مولانا الصفي (أيده الله) السيد المجاهد صلاح بن محمد الديلمي في جماعة تكف عن أولئك وتجمع المستأمنين، ويصل بهم إليه؛ لأنهم قد فرقوا، ولا يحوزون السلامة فأمنهم مولانا الصفي وأحسن إليهم وكساهم ورفعهم إلى مقام أخوته فكسوهم أيضاً، وعظموهم وأمنوهم.
وأما الشيخ عبد الله بن هرهرة، وهو المتولي لقبض أوقاف الخبيث سالم المذكور ونذوره والزكاة، وينتهي إليه أصناف ما يقدم للخبيث في حضرموت وفي يافع، فأمر سادتنا حفظهم الله تعالى بقبض [ما هو بيَّنه للخبيث المذكور من الأموال والحبوب والخيل والأنعام الثلاث، وصوافي بن وغيرها] ، وقد تلكأ عن المبادرة أهل ذي ناخب لوعورة جبالهم، وأنها مشحونة بأهل البسالة من قبائل يافع.
ثم استأمنوا بعد أمان الشيخ ابن هرهرة، ثم وجههم مولانا الصفي (أيده الله) إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (حفظه الله)، وهو وجههم إلى الإمام (عليه السلام)، وقد عرفوا أن التوبة مقبولة، فأظهروا الندم الكثير، والاستغفار الغفير، والاستكثار من الكلام الذي إليه يشير، وأولاهم العفو والإحسان، وأعطاهم مالاً يقدر قدره من الألبسة، والنقود والسلاح لكبارهم والخيل لمن يعتادها منهم.

فملؤا قلوبهم رغبة بعد أن كانت مملوءة رهبة[215/أ] وتقدم سادتنا أيدهم الله تعالى إلى مسجد النور، وتفقدوا المظالم، وعلموا الشريعة، ولم يكشفوا أحداً من أهل الحرائم، ووصلت أوامر الإمام (عليه السلام)، وترجيح مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن (أيده الله) أن يستعمل على بلاد يافع السيد المجاهد شرف الدين بن المطهر، وهي بلاد يافع وما يلحق بها، وأن يكون على بلاد الرصاص ودثينة وما والاها الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل.
ولما تقررت بحمد الله الأمور، وقطعوا بصلاح الجمهور، وإرسال كبراء أهل يافع وغيرهم إلى الإمام (عليه السلام)، وقد تكاثر الجنود المنصورة والخيل الكثيرة، وسائر الدواب، ولا بد لكل مما يقوم به فضجر العسكر المنصور، فرأى عند ذلك مولانا الصفي وأخوته السادة الكرام العود إلى مكان أوسع من مسجد النور، والقرب من المدد الجاري على يد مولانا عز الإسلام من جميع الجهات، لأنه أيده الله في هذه الأيام الماضية كلها استلحق أهل البيع والشراء في جميع أنواع المبيعات، وأمر بالسياق كذلك من بيت المال من جميع الجهات، وكان في ذلك الوقت شدة وغلاء، فعادوا لهذه الأسباب إلى الخلقة، بموضع يسمى الحصن، فأقاموا فيه نحو عشرة أيام.
ومنها نصبوا في تلك الجهات القضاة والولاة، وأشعروا بعمارة الحصن المعروف، وكان هذا الحصن ركناً ليافع؛ لأنه يغلق على بلاد الخلقة، وهي سوقهم ومواد أرفاقهم، ولذلك أخذ عليهم الرصاص لا لقوته عليهم، وإنما لكون قومه لا يخالفونه في الإصدار والإيراد منه حقاً كان أو باطلاً.

وأما قبائل يافع فقوم كثيرون ورؤساء كثيرون أيضاً، ولكنهم لا يحتكمون لأحد منهم، ثم ارتحلوا من الخلقة إلى موضع يسمى ذي ناعم، بموضع يعرف منه يسمى الصلالة، وهذه البلاد كثيرة الآبار والطعامات والعلوفات.
وفي يوم السبت خامس وعشرين شهر رجب ارتحلوا إلى بلد الزهراء، فأقاموا فيها إلى عاشر شهر شعبان المعظم، ووصلتهم الأخبار بعود الأمير الأفضل صالح بن حسين بن الشويع المتقدم ذكره، وأنه وصل من عند السلطان صاحب حضرموت بوفد من خاصته، بعد أن أظهر الطاعة، وخطب للإمام (عليه السلام).
ثم وصل كتاب من الأمير المذكور إلى مولانا الصفي (أيده الله) يعلمه بذلك، وأنه قد أخرج المحبوس وهو السلطان الأجل بدر الدين بن عمر المتقدم ذكره، والآتي تفصيل أخباره، فأظهر مولانا الصفي هذه البشرى وكتب بها.

وفي يوم الخميس سابع عشر شهر شعبان ارتحل الجند المنصور من الزهراء إلى وادي خريص المعروف[215/ب] بالمرسى، وفي صبح الجمعة تقدموا إلى محروس مدينة رداع، واستقبلهم مولانا عز الإسلام بالتبجيل والتعظيم، وأعد لهم الضيافات السنية، وقدم لهم خمساً من الخيل النجائب المحلية، وكان الإمام (عليه السلام) لم يعلم بقدومهم إلا وهم في الزهراء، لأنهم تحركوا للقفول قبل عود الإمام (عليه السلام)، للقطع بأن الكفاية قد حصلت، وبما وصل إليهم من الكتب من جهة حضرموت أيضاً، فإن المحاط لما تحركت من مواضعها المتقدمة كان أن تقطع السياق إليهم وقوام الأسواق لاشتغال العسكر بالحركة وإياس أهل البيع والشراء من الاستقرار، وقد رخص سادتنا أيدهم الله لبعض أهل الأثقال والحالات القوية أن يقدموا من أثقالهم، فخف معهم من خف، ووصلت كتب الإمام (عليه السلام)، وهم في الزهراء يأمرهم بالبقاء، وكان قد سار كثير من العسكر، فأقاموا على مشقة كما تقدم، ووصلهم الرأي الكريم رأي الإمام (عليه السلام) بالتقدم إليه.
ولما كان يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر شعبان خرج سادتنا الكرام (أيدهم الله) من مدينة رداع إلى جميمة عنس ثم منها إلى مدينة ذمار، فأقاموا في ذمار المحروسة ثلاثة أيام.

ثم نهضوا إلى حضرة الإمام (عليه السلام)، فتلقاهم (عليه السلام) ومن لديه من المسلمين بالجلالة والتعظيم، والإنصاف والتكريم، وأعلنوا بالحمد لله والشكر كثيراً، وهنأهم المهنئون بالظفر، وبلوغ ما أملوه في الدارين من الوطر، وكان الإمام (عليه السلام) قد أمر لهم إلى المنشية المعروفة بثمان من الخيل العتاق المنتخبة عليها من الحلي العظيمة الفاخرة المعجبة.
ومما قيل في قدومهم من الأشعار قول القاضي العلامة شيخ الإسلام صفي الدين أحمد بن سعد الدين (أطال الله عمره):
نصر من الملك الجليل لعبده .... وعطية مشكورة من رفده
وكرامة من ذي الجلال تزلزلت .... منها قواعد كل ناكث عهده
فتلقها يا ابن النبي بذكر من .... أولاكها وبشكره وبحمده
عفر له خديك واسجد واقترب .... فلقد حباك بنصره من عنده
وأتاك بالفتح المبين معززاً .... وموفقاً للحق صادق وعده
فاشكر أمير المؤمنين عطاءه .... والبس من الإنعام صافي برده
[216/أ]واذكره جل معاً أولي العزم الأولى .... ولهم من الإكرام صافي ورده
يابن الوصي وفاطم ومحمد .... خير البرية أنت واري زنده
ومؤيد الدين الحنيف بقوله .... وبفعله وبعزمه وبجده

وبخيله وبرجله وبنفسه .... وبماله وبباله وبولده
وبوعظه وبأمره وبنهيه .... وخلوص نيته وصالح قصده
فلذاك أولاك الكريم مواهباً .... وأمد جندك في الجهاد بجنده
وأغاض من عاداك ثمت أصبحوا .... جزر السباع بغوره وبنجده
وأراهم حسرات أعمال لهم .... خلفوا بها رب الورى في عقده
صاروا بها مثلاً وأصبح ريعهم .... منهم خلا من بعد كثرة حفده
لله سادة آل أحمد من لهم .... بيت الفخار فشيدوا من مجده
بعزائم بيض تسود وجه من .... يعصى المهيمن في تعدي حده
ويضيع حق أئمة الآل الألى .... جعل الإله ودادهم من وده
يحذون حذو محمد خير الورى .... إذ أصبحوا سفن النجا من بعده
لله در عصابة منصورة .... تهدي إلى جدد السبيل ورشده
أعني بني المنصور بالله الذي .... أجرى له الرحمن عادة سعده
رب الكرامات التي شهدت له .... بكرامة الباري له في مهده
فغلت به كلم الإله فأصبحت .... مشدودة أزراً به وبشده
وبولدهم وبولده فيهم حمى .... سرح الهدى في قربه أو بعده

ابن النبي محمد ووصيه .... وبني الهدى والقاصدين لقصده
[وبني الإمام القاسم بن محمد] .... [هادي العباد بجده وبجهده]
أحييتم الدين الحنيف وثرتم .... غضباً له ولجزيه من ضده
وشرحتم صدر الإمام المرتضى .... فجزاكم الرحمن جنة خلده
يا أيها المولى الإمام ومن له .... من ربه عوناً يقوم بعضده
يا حجة الله المنيرة في الورى .... وأمينه القافي لمنهج جده
أمددهم يابن الكرام بدعوة .... ليعينهم رب السماء بمده
ويريك ما ترجوه منهم للهدى .... يقفونه في حله أو عقده
والصبر أوصيهم به فهو الذي .... يسمو به السامي مقاعد حمده
وبذكر ربهم ونصرته على .... باغي الضلال ببغيه وبصده
وإدالة الإسلام ممن لم يزل .... يلقى الهداة بكفره وبجحده
أغواه إبليس اللعين ببغيه .... فهوى على خر الجبين لخده
وأمد جند المؤمنين بدعوة .... فهم جنود محمد وموده
والجاهدون بجهدهم في نصركم .... والصابرون لدى الوطيس ووقده

[216/ب]يابن النبي محمد يا خير من .... صدق الإله ببره وبزهده
هنَّاك ربك ما حباك كما حمى .... بك دينه لما انبريت لعمده
وأراك ما يرضيك في نصر الهدى .... وعلو دعوته ورفعة حده
وأقر عينك فيه ربك مثلجاً .... منه الفؤاد بشرحه وببرده
وأرى أعاديك البوار فكلهم .... مردي بسوء صنيعه في لحده
هذا وعد في الشكر لله الذي .... وعد المزيد لمن يزيد لحمده
واسجد له متبتلاً فهو الذي .... يهدي القبول إلى ممرغ خده
واضرع إليه وسله جل مزيده .... في عدة الدين الحنيف وعده
وأمدني بدعاء أمر صادق .... لأكون في حزب النبي ووفده
إني بعروة آل أحمد ماسك .... إمساك عبد لم يزل عن وكده
وعلى النبي وآله صلوات من .... يزجي السحاب ببرقه وبرعده

[البانيان وما وقع بينهم وبين أهل صنعاء]
وفي أيام هذه المذاكرة خبر الجزية على البانيان وما وقع بينهم وبين أهل صنعاء.
نعم! ومن المعروف من شأن الإمام (عليه السلام) وهديه اللجوء إلى الله عز وجل عند كل مهمة، وأنه إذا عظم عليه أمر انقطع إلى الله وتضرع إليه، وإن كان شأنه في كل حال ذلك، ويأمر براتب القرآن، والاجتماع عليه في المساجد، لا سيما في المدائن، كصنعاء وشهارة، وصعدة، وغيرها.
وكان قد كثر في اليمن طائفة البانيان من براهمة الهند، لما رأوا من الأمان على أنفسهم وأموالهم، والعدل فيهم، وفي غيرهم، فقلَّ مدينة أو سوق لم يخل منهم في برٍ وبحر وسهل ووعر، حتى لقد استقروا في سوق شهارة، ومال إليهم الناس للشراء منهم والاستدانة والمرابحة في أموالهم لما الناس عليه من الحرص في طلب الأخف في الثمن والتيسير في المعاملة، فشق ذلك على كثير من أهل البيع والشراء من المسلمين، وعظم ذلك في صنعاء المحروسة، وشكوا ذلك إلى الإمام (عليه السلام)، فأمر (عليه السلام) أن يجعل للبانيان مواضع مقصورة عليهم، فأقبل إليهم أولوا الحاجات على عادتهم فأعاد أهل صنعاء الشكوى على الإمام (عليه السلام)، وحضر كبار البانيان، وقالوا: وماذا لنا من ذنب إلى أهل صنعاء، إلا أنهم أفرطوا في التحيل والغرر، ونحن قبلنا القليل من الفائدة، وأمهلنا الضعيف، وأخذ عوض البضاعة بضاعة، رعاية للأسهل للمعاملين لنا، أو كما قالوا، فأمر الإمام (عليه السلام) بإبقائهم في مواضعهم، وقد تكلم أهل صنعاء أن صنعاء لا تسعنا وإياهم.

ولما عاد البانيان إلى صنعاء ازداد أهل[217/أ] الحاجات بالإقبال إليهم لشراء ما في أيدهم، والمعاملة لهم وربما ازدادوا إليهم حسناً وتودداً، فأكثر أهل صنعاء القول والشكاية إلى أهل العلم والفضل، وقالوا: إن أصحاب الإمام نصروا الكفار على المسلمين، وغروا أمير المؤمنين أو كما قالوا.
وكان القاضي العلامة الفاضل شرف الدين الحسين بن يحيى السحولي الحاكم (أطال الله بقاه) ملازماً للجامع الكبير، ويحضر على قراءة القرآن، والراتب المحافظ عليه، وفي تلك الأيام فإنه قل من لم يحضر الراتب في أيام المخرج المنصور، فاجتمع ألفاف من أهل صنعاء أكثرهم ممن لا بيع له ولا شراء.
وربما ونفقتهم من بيت المال إلى الجامع المقدس، مع هذا الاجتماع العام وفي أيديهم الشموع مسرجة، وصاحوا في أهل الراتب، وقالوا: يكون قرآنكم ودعاؤكم على من نصر الكافرين على المسلمين، وصرخوا على القاضي واستعدوا إليه، وولوا عنه من قبل أن يحث عليهم على المعهود من حال أمثالهم من أهل المدينة، وفي القاضي (أيده الله) رقة وعرب وأناة، فلم يقدر على غير السكوت عنهم.

86 / 116
ع
En
A+
A-