[التحام الجيش الإمامي بعساكر الرصاص]
ذكر الوقعة الكبرى والملحمة الغراء في نجد السلف، ولما كان يوم الاثنين تقدم السادة الكرام بالعساكر المنصورة إلى موضع تسمى عفار، ثم منه إلى قاع الرماة غربي نجد السلف، وإلى جهة القبلة أقرب، وذلك يوم الثلاثاء، وكل هذه المواضع متقاربة، وأقاموا يوم الأربعاء في مواضعهم، وفي آخر ذلك النهار خرج السادة الكرام، بجمهور العساكر المنصورة إلى أكمة مقابلة لسواد أهل المشرق، وقد تراءى العسكران، وكاد أن يتصل بعضهم ببعض، فلم يره السادة تدبيراً.
وأرسل مولانا الصفي (أيده الله) إلى الرصاص: إنك إذا لم تطع الله سبحانه وتعالى بطاعة إمام الزمان، فارفع الحرم والأطفال، ومن لا حاجة إليه في القتال، فإني أبرأ إلى الله معرة تلحقهم بسببك، فكان الجواب على نحو ما تقدم من الهذيان، والبقاء على العصيان، والتعويل على زخارف الشيطان.

[200/أ] ولما أسفر نهار الخميس رابع شهر ربيع الآخر، زحفت العساكر الإمامية، وقد تعبَّوا أحسن تعبية، فكان مولانا الصفي ومعه جماعة من الرؤساء كالسيد المجاهد شرف الدين بن مطهر بن عبد الرحمن بن مطهر بن الإمام شرف الدين (أعاد الله من بركاته)، والشيخ المجاهد حسن بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي، ومن في صحبته من جماعة مولانا العزي محمد بن الحسن (أيده الله)، والفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل الأهنومي، ومن معه من وجوه أصحاب الإمام (عليه السلام)، كانوا قلباً، ومولانا محمد بن الحسين، ومولانا الحسين بن الحسن جانباً من ميمنة مولانا أحمد بن الحسن (أيده الله)، وطالت بهم الطريق إلى موضع خالفاً لأعداء الله، وكان مولانا عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين ووجوه من الأعيان في الجانب الشرقي، وهي الميسرة، وكان سواد أصحاب الرصاص ومن إليهم فوق المثلين، بما لا يعلمهم إلا الله من بني أرض، ومراد، ويافع، والعوالق [والمصعبين] ، ودنا الناس بعضهم من بعض، وكان قد جعل الرصاص أصحابه في النجد وغيرهم من المواضع سوراً بالغوا فيها على صفة المترس الحصين عمروه أياماً، ولا يظنون أن أحداً يقربه فضلاً عن أن يجاوزوه، وقدموا مقدماتهم إلى آكام خلف الدائر ، ورموا منها، وجنود الحق تدخل معهم، وقد صبوا عليه الرصاص كحاصب البرد.

أخبرني من شهد ذلك بعد ثمانية أيام من الحرب أنه رأى الشجر محصودة، كما يحصد الزرع لكثرة الرصاص، قال: وكان الشجر خضراً فرآها وقد يبست، قال: فما خلتها إلا القصب المقطوع بالمناجل والفؤوس، وسلم الله المجاهدين في تلك الحالة، فعلاهم أهل الميسرة.
قال بعضهم: فما كدنا نرقاه إلا بمشقة، ودلينا فيه بعضنا بعضاً فانهزموا إلى قريب من الدائر، وقد ازدحم الناس في الطريق بين يدي مولانا الصفي، وقتل جماعة من العيون، منهم حامل لوائه الأعظم، ثم غيره، وحملت الخيل، وأصيب جماعة، واقتحم الناس الدائر المذكور، وكان ذلك من أسباب الهزيمة، وقد بذل الناس جهداً، واستعملوا الضرب بالسيوف، واقتحام الأهوال والحتوف.
أخبرني من حضر من غير واحد أن أصحاب الرصاص قالوا: إنه كان من عناية [200/ب] الله لأصحاب الإمام والتقية على الفريقين، إن السلطان صالح الرصاص كان في مترس، وحوله من أهل البنادق ألوف، فسقطت عليه بندقه وانكسر كرسيها، فالتفت لغيرها فلم يجد، فقام إلى أخيه يطلب بندقاً آخر فظن أصحابه أنه انهزم، فانهزم أصحابه لذلك، مع جملة المجاهدين فنجا ونجوا لذلك، وقد أظهر السلطان حسين شجاعة وأصيب مع ذلك، فعاد إلى مضربه المضروب، وقال: من أراد السلامة لحق بصالح ومن أحب الموت كان معي، فقتل من استقام معه في موضع واحد، وكانوا أكثر من ثلاثمائة، ونجا الباقون وانهزمت الخيل، ويافع انهزموا قبل أن يصل إليهم خفاف المجاهدين.

وأما مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين (أيده الله) ومن إليه فإن الطريق طالت عليهم كما تقدم، وهم يظنون طوال القتال فيكونون من وراء العدو، فوصلوا مع آخر هزيمتهم، فكان مولانا محمد بن الحسين، وصنوه أحمد بن الحسين في أول قومهما، فأدركوا جماعة قتل منها مولانا محمد فيما أخبرني به رجل من أصحابه ثلاثة بيده، وصنوه الصفي ثلاثة، ومولاً له يسمى جوهر كذلك ثلاثة.

[انهزام الرصاص ومقتله]
وأما مولانا الحسين بن الحسن (أيده الله) فكان أقرب إلى القلب، فأدرك هو وأصحابه معظم القتال ونالوا من العدو منالاً عظيماً، وانتهب الناس ما في معسكرهم، وما كان معهم من السلاح وغيره ما يعظم قدره، ولا يمكن حصره.وأما البيوت الشعر فقد تقدم أن عددها إلى ألوف كثيرة.
قال القاضي العلامة الحسن بن أحمد الحيمي (أسعده الله): أنه أخبره بعض الأسرى أن عددها أربعة آلاف بيت، فاحتمل الناس منها، واجتز رأس السلطان حسين الشيخ جابر بن حسن الجبري، واستشهد حينئذ فأخذه منه رجل من سفيان ، يسمى داود السفياني، وصفة ذلك أن السلطان سقط في المضرب مع جماعة من أصحابه قد جرحوا، فاجتز الشيخ جابر رأسه كما تقدم، وكان يظن أن الذين حوله من المصرعين قد هلكوا، فقام بعضهم فطعنه بجنبيه حتى قتل الشيخ المذكور، ولا علم للشيخ ولا لخليفته السفياني أن الرأس المجزوز رأس الرصاص (لعنه الله).
وانجلت الوقعة على قتل شياطينهم، ورأس سلطانهم، وهزيمة من بقي، ونجا بعض حريم الرصاص على خيل العوالق، وطاروا على وجوههم.

قال القاضي المذكور: إن شجاعة أصحاب الرصاص الذين ثبتوا[201/أ] معه لا تقاس بها إلا ما قيل في الخوارج، ولا يقدر قدر ما رأى منهم، ولما انقضت الوقعة استقام السادة الكرام (أيدهم الله) وجمعوا الحرم ، وجعلوهن في مضرب واحد، وجعلوا عليهن من ارتضوه باطلاع الشيخ المبجل زين بن مصعب القايفي، واستشهد من المجاهدين ما يدنو من الخمسين النفر، من وجوههم الحاج الشجاع المشهور سعيد أبو راية الظليمي، والنقيب هادي الزوملي الشامي، وقاسم بن سعيد المذعوري، والشيخ صالح بن جابر من الكلبين ، وجماعة من كبراء العسكر، وباقيهم من عامتهم، واحتمل المجاهدون قتلاهم، وجرحاهم إلى المخيم المنصور، وعاد مولانا أحمد والسادة الكرام إلى المخيم المنصور، وقد حمل الناس من الغنائم ما يجل ويعظم، كما تقدم ومعظم ذلك صار مع (قايفة) و(بني ظبيان) لمعرفتهم الشعوب التي كانت البيوت فيها، فأمسى السادة الكرام في المخيم المنصور في قاع الرماة، ثم ارتحلوا يوم الجمعة إلى الصلالة التي ما بين النجد والبيضاء .

قصة السيد شرف الدين وأصحابه وما غنموه من الصلالة
وذلك أنه تتبع المنهزمة في أقل من خمسين نفراً، فوصل إلى قريب الصلالة، وخاف فعاد يريد المحطة، ويظن أن السادة الكرام في النجد، فرجعوا يريدون النجد، وقد افتقدهم مولانا أحمد في الليل [وشجن عليهم، فأرسل في أثرهم عسكراً من بني الحارث، وبني حشيش، زهاء مأتين، فوافقوهم] في الليل قريباً من محل الوقعة.
ولما تعارفوا في الظلام، عادوا إلى الصلالة في سواد الليل، فغنموا منها ما لا يحصى، وكانت هذه البلد مخازين الرصاص وأصحابه للحبوب، وقعد كل واحد منهم على ما وجد من المدافن، فباعوا القدح ببقشة واحدة، تأتي خمس دراهم، وأقل لكثرته، ولا يحتسب ما غنموه منها.
وأما السادة الكرام فتقدموا من قاع الرماة يوم الجمعة وصلو الجمعة قريباً من محل الوقعة وتقدموا إلى الصلالة، وأمر مولانا الصفي (أيده الله) بالتفتيش بمظان مواضع الحبوب فوجدوا كثيراً، وأرخص الله الأسعار، وحمل الناس من الطعام إلى بلاد قايفة ورداع، وذمار لكثرته، ولولا أن مولانا عز الإسلام (أيده الله) منعهم لحملوه إلى صنعاء لكثرته، وشدة الوقت.

ولما استقرت المحاط المنصورة في الصلالة بموضع منها يسمى وادي ذي باغم وأرسل مولانا الصفي (أيده الله) مقدمة إلى البيضاء بسؤال أهلها لحفظها من فيض ألفاف المحاط المنصورة، وكتبت البشارات إلى كل جهة، وبعثوا[201/ب] برأس الرصّاص إلى عند مولانا محمد بن الحسن (أيده الله)، فبعث به إلى الإمام (عليه السلام)، وكان لذلك موقع عظيم، ولا كاد البعيد، ومن في قلبه مرض يصدقون أنه المقتول، ونصب رأس الخبيث في جانب الحصين، وقد تقدم ذكر ما فتح الله به من الأمصار عقب قتله في كل جهة.

[تقدم القوات الإمامية إلى البيضاء]
نعم! وتقدمت المحاط المنصورة إلى البيضاء يوم الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر، ولما استقر السادة الكرام في معمورة (البيضاء)، وجماع أمرهم ومرجع تدبيرهم إلى مولانا سيف الإسلام أحمد بن الحسن (أيده الله) وقد تقدم أنه (حفظه الله) حفظ الحرم والأطفال، ثم أرسلهم بعدها إلى الرصاص، وهو السلطان صالح إلى موضعه المسمى عبرة من جبال المشارق المتصلة ببيحان، وقد صار فيها متوحشاً لا يقر له قرار، ولا تؤويه دار، وكان مولانا أحمد أيضاً قد أحسن إلى من وجد من ضعفاء أصحابه، وسلم إليهم أهاليهم، وأحسن إسارة من أسر منهم، وكان من جملة الأسرى عندهم الأكبر المسمى شليل، وله عندهم وعند أصحابهم محل ووجاهة، فأرسل إلى سيده، ووصف ما رأى من الكرم، ومحامد الشيم، والعواطف العلوية، والمراحم النبوية، فهان عليه بعض ما داخله من الفزع، فخاطب الأمان، وأرسل كاتبه المسمى الفقيه علي نافع، ورجلاً من بني علي يسمى حيدرة، وبعث معهما بكتاب إلى السادة جميعاً، ووصف حاله بعد أخيه، وقتل كبار أصحابه، وأنه لم يبق له ولا لهم سيف ولا لبد ، وسألهم الأمان والجبران، والصلح والإحسان ويصل إليهم، فأجاب مولانا الصفي (أيده الله) إلى ذلك، وكتب فيه إلى صنوه عز الإسلام (أيده الله)، واستورد الجميع رأي الإمام (عليه السلام)، فأجابهم (عليه السلام) يأمرهم بقبوله، والإحسان إليه من غير شرط معين، وقد تردد أصحابه على مولانا الصفي (أيده الله)، وحاولوا أن يرجع له حالة أخيه، فلم يجبهم إلى غير ما تطيب به نفس الإمام (عليه السلام) من البلاد وغيرها.

ثم بعد ذلك أخذوا عهداً ثانيا مؤكداً في الأمان من سادتنا (أيدهم الله تعالى) ولا يظنون لسوء عقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) أن الأمان منهم بدون ذلك، فلما أعطوهم ذلك طلبوا أن يلقاه مولانا شرف الدين الحسين بن الحسن (أيده الله)، وكانوا قد عرفوا منه (حفظه الله) ظهور الشفقة على مكالفهم وضعفائهم، وأنه الذي أسر العبد المذكور فأحسن إسارته، وطلبوا مع ذلك أن السلطان يقيم عندهم في (البيضاء)، كما أراد، ويعود إلى موضعه، فوضعوا له ذلك وتقدم إليهم[202/أ] يوم الاثنين سابع وعشرين من شهر ربيع الآخر، ولقيه مولانا الحسين بن الحسن (أيده الله) وخلع عليه في الطريق الكسوة الفاخرة ، وكاد المذكور أن لايقبلها، كما أخبرني بعض من شهد ذلك، لعدم اعتيادهم الكسوة، وإنما لباسهم كسائر مشائخ المشرق ميزر ولحفة من أغلى بز الشحر المنتخب، وسلاحه البندق كغيره، ويبالغ في حليتها وحلية العدة، وكذا كبار أصحابه غالب سلاحهم ذلك، ولا يركب الخيل هو ولا آباؤه، وإنما يسير مع أصحابه كأحدهم، ويطولون لون الشعر، ويسرحون حتى أنه كان شعر رأس حسين الرصاص كما أخبرني من رآه يقرب من ذراعين، وله خدم لتسريحه ولا يسكنون الحضر.

81 / 116
ع
En
A+
A-