فكان أن قام الإمام سعياً منه للحد من نفوذهم التجاري ببعض الإجراءات، والتي يذكر منها مؤرخنا ما قام به في عام(1059هـ/1649م) من فرضه للجزية عليهم، على أن يكون (...على كل نفر قرشاً في كل شهر...) مقابل إقامتهم في البلاد، غير أن غالبيتهم رفضت دفع الجزية (...وعادوا إلى الهند وهو الذي أراد -عليه السلام- من تقليلهم...) يضاف إلى ذلك أنه حدد أماكن خاصة بهم للبيع والشراء ، بعد أن تم رفع العديد من الشكاوي ضدهم من قبل الأهالي بسبب تعاملهم بالربا. وهو ما كان من شأنه أن شل حركتهم، وحد من انتشارهم في العديد من المدن والمناطق، مما أدى بالتالي إلى تضاؤل نسبة بيع بضائعهم وانحسار تجارتهم.
وقد بين مؤرخنا في سيرته حرص الدولة في تأمين وسائل العيش للتجار القادمين إلى المدن سواءً الأجانب منهم أو التجار المحليين، حيث أشار إلى إنشاء أماكن خاصة بإقامتهم.
ففي صنعاء مثلاً أنشأ محمد بن الحسن سمسرة (لم يُعمّر في صنعاء مثلها، ولا في اليمن ما يشاكلها اشتملت على طبقات تحتوي على مائة واثنتين منزلاً...، فتبادر إليها التجار وأخذوا من مرافقها خطوطاً...) .

وشمل ذلك الإهتمام بالمدن الساحلية، وبالتحديد الموانئ البحرية فيها، وهو ما أشار إليه مؤرخنا حين ذكر أنه أثناء زيارة أحمد بن الحسن لمدينة عدن في عام (1072هـ/1661م) أمر ببناء (الداير المتصل بالساحل مما يلي البحر نحو نصف ميل . كما أبدى الإمام المتوكل على الله إسماعيل حرصه الشديد على سن الأنظمة والقوانين التي تحدد معايير التعامل بين التجار والأهالي، وهو ما وضحه الجرموزي، حيث أشار إلى تفقد الإمام في إحدى زياراته لمدينة صنعاء في سنة (1072هـ) (قانون المدينة) -وهوالمسمى بقانون صنعاء-والذي سنه في عام (1066هـ/1655م).
وبإزدياد حركة النشاط التجاري بين اليمن والعالم الخارجي، ابتدأ تأسيس نظام جمركي للبضائع الواردة، وقد أورد الجرموزي في مخطوطته أرقاماً لما تم توريده لخزينة الدولة من رسوم جمركية على البضائع، حيث يذكر أن السلطان بدر الكثيري أرسل في سنة (1067هـ/1656م) رسالة إلى الإمام يوضح فيها إجمالي الرسوم المستحقة على التجار البانيان في ميناء الشحر لمدة ثلاثة أشهر، ومقدارها (مائتان وعشرون قرشاً وثلاثمائة حرف وخمسة عشر ذهباً أحمر) .

ولما كانت العملة تعد أساساً للإستقرار الإقتصادي والمعيشي في أي بلد، ولذلك نجد أن مؤرخنا الجرموزي لم يغفل هذا الجانب في سيرته وقد ذكر -كمبدأ متعارف عليه- أن الإمام أمر أثناء إقامته في شهارة سنة (1056هـ/1646م): (بإقامة دار الضرب فيها، وجعلها أربعة أنواع: درهماً كبيراً على وزن الدرهم الإسلامي في نهاية من طيب الفضة، مكتوب في أحد جانبيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر: المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل وتأريخ الضربة، ومحلها بمحروس شهارة.
والنوع الثاني قطعة أغلظ منها وأثقل في الوزن مكتوب في جانبه اسمه -عليه السلام- وشهارة المحروسة، فالثمان من الأولى حرف واحد، ومن الثانية الخمس منها حرف واحد، فيكون الحرف من الأولى ثماناً ومن الأخرى خمساً.
والنوع الثالث: كل بقشة بقشتين يكون الحرف منها عشرين كبيراً.
والنوع الرابع كما سبق قبلها من ضريبة اليمن البقشة برأسها، والحرف أربعون كبيراً .
فكان لهذه العملة كما يشير الجرموزي رواجاً كبيراً، وتداولها الناس حتى أنها وصلت إلى (مكة والمدينة) .

ولقد تطرقت السيرة إلى تلك العلاقات التجارية التي أقامها الإمام المتوكل على الله إسماعيل مع الهند، ويتضح ذلك جلياً من خلال التجار الذين كانوا يصلون إلى اليمن، فعلى سبيل المثال يذكر الجرموزي أنه في عام (1072هـ/1661م) وصل إلى ميناء عدن عدد من التجار الهنود على مركبين كبيرين، وكان كل مركب منهما- كما يصفهما الجرموزي- قد (شُحن بأربعمائة بندلة... وكل بندلة لم يسعها باب الفرضة وإنما أخرجوها من باب الساحل . ويوضح لنا هذا حجم البضائع التي كانت تستوردها الدولة، يضاف إلى ذلك وجود العديد من التجار البانيان -كما أشرنا آنفاً- الذين كانوا يمارسون النشاط التجاري في أغلب مدن اليمن كصنعاء وعدن والحديدة...وساحل الخليج العربي .
ولم تكن العلاقات التجارية تنحصر بالهند وحدها، بل كانت هناك علاقات تجارية مع دول أخرى كتلك التي مع كل من مكة والحجاز ، وإيران ، والحبشة .
وأما بالنسبة للدول الأوربية فيوضح مؤرخنا أن اليمن أقامت علاقات غير مباشرة مع كل من هولندا وبريطانيا، فهو يذكر أنه كان لتجار تلك الدولتين (مواضع في المخاء لبيع التجارة مثل الجوخ والأمتعة الغالية) ، إلاَّ أن تلك العلاقات لم تشهد تطوراً ملحوظاً -كما أشرنا- ويعود السبب كما يشير مؤرخنا إلى قيام السفن البريطانية والهولندية بأعمال القرصنة في البحرين الأحمر والهندي ضد السفن المارة فوق مياههما، وبالذات تلك المتجهة إلى اليمن فترتب على ذلك أن قلّ التبادل التجاري مع تلك الدولتين حينذاك.
ج‍ - النهضة العمرانية

لقد كان من الطبيعي أن يصاحب ذلك الإنتعاش الإقتصادي والتجاري حركة دللت عليها الكثير من الشواهد التي أبدى الجرموزي حرصه في تدوينها في مؤلفه، وكان أبرزها ما يذكره من الأعمال التي قام بها الإمام نفسه، وكذا كبار مسؤلي الدولة كمحمد بن الحسن بن القاسم، والذي كان مسؤلاً عن إدارة مدينتي إب وتعز، حيث قام بتوسيع الجامع الكبير بذمار، وأصلح مرافقه؛ يضاف إلى ذلك قيامه بعدد من الإصلاحات في العاصمة (ضوران)، حيث أصلح مرافق الجامع المقدس في الحصين، وأضاف في بنائه، فضلاً عن اهتمامه بالنواحي الخدمية للعاصمة، ومن أهمها: إستخراج المياه الجوفية لتلبية مطالب المدينة منها؛ كما أنه بنى (حصن كحلان في نواحي خُبان) . وأقام عدداً من الأماكن الخاصة لطلبة العلم في مدينة دمُتْ، ولعل أهم ما قام به هو إنشاؤه للسمسرة التي في مدينة صنعاء كنزل للتجار القادمين إلى المدينة، وكذلك (الدار الكبرى الواقعة على المدينة بالقرب من المدرسة الشرقية) .
وأوضح مؤرخنا كذلك اهتمام الدولة بالمدن الرئيسية التجارية، والتي تعكس الصورة الحضارية في اليمن أمام العالم الخارجي. فهو يذكر أن أحمد بن الحسن أقام العديد من المنشآت الحيوية في مدينة عدن (1072هـ/1661م) حيث استدعى عدداً من (العمارين من بلاد يافع واليمن وصنعاء لتعمير الدوائر وخاصة الدائر المتصل بالساحل، وكذلك عمر دار السعادة والتي كانت دار إلإمارة، ثم عمر ستة دوائر غيرها) يضاف إلى ذلك قيامه بترميم وإصلاح بعض مدارس العلم في المدينة.

3- الأوضاع الاجتماعية
في إطار حديثنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية، يمكن ملاحظة الأثر الكبير الذي انعكس على الوضع الإجتماعي، وبهذا الخصوص أورد مؤرخنا بين دفتي مخطوطته ما يوضح ذلك، حيث برزت -إستناداً للجرموزي- في مناطق ألوية صنعاء وحجة شمال البلاد قبيلتان هما: حاشد، وبكيل، ظهرت أهميتهما بالعديد من الفخوذ والبطون المتحدة والمتفرعة منها.
وفي مناطق تعز وإب -ما كان يسمى باليمن الأسفل- برزت مجموعة من القبائل -كما يتبين في المخطوطة- كان لها محيطها المؤثر.
أما بالنسبة لمدينة عدن ولحج ويافع وحضرموت، فكان للقبائل فيها دورها البارز الذي لعبته في التاريخ السياسي لفترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، حيث يشير مؤرخنا إلى أن قبائل (يافع، بني بلاد الرصاص..المصعبين..العوالق، آل كثير، وبلاد الفضلي والعمودي، وما والاها إلى حضرموت) جابهت القوات الإمامية في بدايات مد نفوذه إليها.

ويورد مؤرخنا الجرموزي في مخطوطته ذكر عدد من حركات العصيان والتمرد لعدد من القبائل في السنوات الأولى لتسنم الإمام المتوكل لزمام السلطة، فعلى سبيل المثال يذكر أنه لما أعلن إبراهيم المؤيدي في سنة (1054هـ/1644م) دعوته ومعارضته لدعوة الإمام قام بتجميع عدد من قبائل صعدة حوله، مما اضطر الإمام إلى الإسراع في قمع عصيانها . وتكرر مثل ذلك العصيان -في صعدة- مرة أخرى في سنة (1061هـ/1650م) بمساندة من قبائل مداك وعرو آل بوصان . ويبرز مؤرخنا في موضع آخر صورة أخرى من صور العصيان القبلي تمثلت في امتناع بعض القبائل من تسليم الزكاة كما فعلت أهالي بلاد خولان العالية ، أو الامتناع عن تسليم الواجبات كما في حال قبائل شرعب ، وقبائل يافع .
كما رسم مؤرخنا الجرموزي عبر صفحات مخطوطته صورة واضحة للفئات والشرائح الإجتماعية القائمة آنذاك، ويمكن تقسيمها حسب درجات القرابة والعلاقة والتعامل العلمي -تبعاً للجرموزي- إلى أربع طبقات:
الأولى: وهم طبقة الأشراف من (أهل بيته وشركاه في نسبه الطاهر) .
الثانية: وهم الذين عاصروه من أصحاب أبيه وأخيه، الإمام المؤيد بالله من الحكام ورؤساء القوات الإمامية والمقربين إليه.
الثالثة: وهم (الذين فقهوا في زمانه وانتشر علمهم وفضلهم في أوانه) .
أما الرابعة: فتمثلها العامة من الناس.

ولقد أوضح مؤرخنا -كما أشرنا آنفاً- هذا التقسيم أثناء رصده لممارسات الإمام لحياته اليومية، فهو مثلاً يذكر أن الإمام أمر في إحدى زياراته لمنطقة كوكبان سنة (1064هـ/1653م) لتفقد أحوال الرعية هناك، بـ (أن يكتب له أسماء كبار الأشراف في كوكبان، ثم من بعدهم في طبقاتهم، ثم لكل بما يليق به، وأعطاهم، ثم من بعدهم كذلك...) .
ومما لا شك فيه هو أن ما يكون من عادات وتقاليد لأي أمة، لا يمكن تجاهله أو إغفاله مطلقاً عند الحديث عن نوع الحياة الإجتماعية السائدة فيها، ذلك أنها جزء لا يتجزأ من مجمل النشاط الإجتماعي لأفرادها. والجرموزي وهو يسعى لتصوير الحياة الإجتماعية لمجتمعه في هذه الفترة من حكم المتوكل، وقد رصد -بين ما رصده من ممارسات وطقوس إجتماعية ودينية- لواحدة من أبرز الظواهر التي درج على ممارستها أفراد مجتمعه حتى كادت كل منطقة من اليمن لا تخلو من نوع من ممارسنها، وتلك هي ظاهرة الشعوذة والإعتقاد بالمشعوذين. وهي الظاهرة التي لا تزال قائمة إلى حد التاريخ.
أمَّا ما ذكره الجرموزي عند تناوله لهذه الظاهرة، فيمكننا أن نورد واحدة من الصور التي احتوتها مخطوطته، وهي الصورة التي نقلها لنا من يافع، حيث يذكر أن رجلاً كان بها يُدعى الحبيب بن سالم، وكان من أمره أن كان يدعى المعرفة بأعمال الغيب، فكان أن (أمه كثير من الناس للإستشفاء به...وكان يوهم الناس أنه يذهب إلى الصلاة في أوقاتها إلى مكة...) بينما جسده باقٍ في منزله!.

وهكذا تتواتر جهود الجرموزي وهو يرصد مجتمعه في كل حركته وسكناته في كبير أمورها وصغيرها، حيث نجده يصف في موضع آخر، عادة كانت تمارسها الناس، وهي الملبس والسلاح، حين يذكر لنا طريقة لبس السلطان صالح من بلاد يافع، ومعه سائر أفراد قبيلته، فيقول: (وإنما لباسهم...كسائر مشائخ المشرق، ميزر ولحفه...وسلاحه البندق كغيره ويبالغ في حليتها وحلية العدة وكذا كبار أصحابه غالب سلاحهم ذلك.. ولا يركبون الخيل هو ولا آباؤه، وإنما يسير مع أصحابه كأحدهم ويطولون الشعر ويسرحونه) .
ونراه في موضع ثالث يتتبع نشاط بعض من المذاهب الدينية، فهو مثلاً يذكر أن الإمام تصدى للطائفة الإسماعيلية -والتي كانت تشكل على امتداد تأريخ الأئمة مصدر قلق وإزعاج لها- مخافة اتساع محيط دائرتها في أوساط المجتمع خاصة، وقد بلغه أن في (همدان، صنعاء، وحراز، من أتُهِم ببقائه على باطنهم الخبيث، وأنهم ألحقوا القديم بالحديث...) .
وقد رصد مؤرخنا -في مخطوطته- إحدى رسائل الإمام الموجهة إلى دعاة الطائفة، يدحض فيها بالبيان والحجة ما تدعو إليه هذه الطائفة، ويذكر أن الإمام قد استمال بعض الدعاة، ممن كشفوا له النشاط السري لأفراد الطائفة مثل عبدالله بن سعيد، الذي (باين الدعاة وخالفهم ودلّ على عوراتهم...) .
وسنرى أنه ونتيجة لما كانت تسببه هذه الطائفة من إقلاق وإزعاج للسلطة، بأن الإمام قد حصر نشاطها، وهوما يتضح جلياً من خلال أوامره باستباحة دم ومال من ينخرط فيها . يضاف إلى ذلك ذكره -أي الجرموزي- لانتشار الجبرية، والإباحية في حضرموت.

ولعلنا نقول: إن الناحية الدينية قد برزت إلى السطح كجزء من الصراع السياسي في بعض المناطق، وهو الأمر الذي يذكره الجرموزي عند إشارته إلى أن قبائل يافع كانوا (يكرهون الزيدية خصوصاً...) ، الأمر الذي استغله رؤساء قبائل يافع في تأجيج قبائلهم وحثهم على محاربة قوات الإمام عقب سيطرة الإمام -كما أشرنا عند حديثنا عن الناحية السياسية- على هذه المناطق، وضمها تحت لواء الدولة اليمنية الموحدة.
وفضلاً عن ذلك كله تطرق الجرموزي إلى ظاهرة انتشار الأوبئة والأمراض التي كانت تصيب الأهالي. فهو يذكر مثلاً أنه في سنة (1063هـ/1652م) (انتشر الجذام وعظم في بلاد صعدة ونواحي قحطان ..) .

8 / 116
ع
En
A+
A-