قال: ثم أخذ يسألني عن الإمام، وقال ما معناه وأكثر لفظه أما السيد محمد ففيه بركة، وأما الكذا بما لا يجوز ذكره الحسن والحسين، فإنهما فعلا مع الباشا حيدر كذا، ومع الباشا عابدين كذا، مما تقدم من الجهاد الصريح والدين الصحيح قال فجاريته مستهزئاً به من حيث لا يشعر، فإنه من لديه يعتقدون أنه[194/ب] لا يخالف فيه مخالف، وقمت إلى أقدامه فقبلتها، وقلت: يا سيدي أولادك الحسن والحسين لا يغرك فيهما أحد، ويوقعون في نفسك عليهما، وهما داعيان لك ذاكران لا ينسيانك وقتاً، وسألته لهما الدعاء والرضى، فصدقني، وطلب مني صفتهم فأخبرته بما رضيه مني، وخلصت من شره.
قال: وكنا كذلك فنادى المؤذن لصلاة الظهر فقال من حضر: الحبيب ذهب الحبيب ذهب، وقال: وإذا به ساكن لا يتحرك، حتى كأنه ميت، وهم يتلاكؤن بأنه ذهب مكة، فانتظروه وقتاً طويلاً، وإذا به قد تحرك وتكلم فقاموا للسلام عليه.
وأخبرني غير الشيخ المذكور أن هذا خلقهم حتى الآن، وأنه لا يخلو مجلس لهم من خاص أو عام من آلات الملاهي، واستفاض ذلك.
قال بعض المترددين إلى تلك النواحي: من أعجب ما رأيت أني وقعت على شيخ يعمل الثياب الحضرمية، فيعمل فيها ساعة، ويطرب لنفسه أخرى ولا معه غيره على الجملة، فلا يسمع في بلادهم موضع خال من اللهو.

وأخبرني غير واحد مما أفاد خبره الاستفاضة لمطابقته الأخبار الكثرة أنه وجد في قبة على بعض جهلتهم، وحولها مسجد كبير مأهول للصلاة والجماعة في كل وقت، وتأتي النسوان لكل صلاة باللباس الحسن والستر المشروع ، والزيادة عليه فراقني ذلك كثيراً، وقلت هؤلاء أهل السنة وحضرت معهم مجلس القراءة، فإذا هي حكايات بهتية، وأكاليم كفرية، وفي الطرب كغيرهم، فمما قالوا في ذلك الكتاب في ذكر مناقب الشيوخ، أما الشيخ فلان فتجلى له الرب العظيم، وأما الشيخ فلان فعرضت عليه النبوة مراراً، وهو يأباها إجلالاً لرسول الله ، ونحو ذلك من الخزعبليات.

[ذكر بلاد الرصاص]
وأما بلاد الرصاص، وما يتصل بها من المصعبين ومراد فجهلة عميان وأنعام مكلفون، لا يوجد فيهم من الألف من يصلي، ويعرف شيئاً من التكليف الشرعي، ولا العقلي، كما استفاض عنهم لا سيما بدوهم ويفخرون بالضيافات، وأمان الطرقات، ولا يذكرون شيئاً من الواجبات أو المقبحات بتحريم أو تحليل.
ولما عظم ذلك منهم، واشتهر عنهم، وقد مات السلطان أحمد بن علي الرصاص، كما أخبرني الولد الفاضل العالم شرف الدين الحسن (حفظه الله) عن من حضر وفاته لا رحمه الله [195/أ] أنه حمل من موضعه إلى مقبرة لهم على أعواد والنساء يميناً وشمالاً، ناشرات شعورهن متكشفات، وأما العوادات ، وأهل آلات الطرب واللعب، الذين قد صارت المشارق لهم مأهلاً، وأموال أهلها مأكلاً، فيسرن بالقرب من جيفته ويحلقن من شعورهن ويعقرن جمالهن ورجالهن كذلك، حتى أن في الخطوة والخطوات عقاير كثرة، والأصوات المرتفعة بالتفجع، والندب بحالها، وكان هذا أحمد بن علي أقرب إلى المعقول ممن بعده وخلفه، ولده علي بن أحمد فكان تلو أبيه، وأراد يافع انتزاع الخلقة منه، وهي من بلادهم، وإنما غلبهم عليها والده المذكور، فأوقع بهم وقتل منهم زهاء من ثلاثمائة رجل، وأخذ أسلابهم، وغلب على الخلقة، وسعى بينهم صوّفيهم الآتي ذكره بالصلح فيما وقع.

ثم مات علي وخلفه حسين بن أحمد الآتي ذكره، فكان أنهض من أخيه وأبيه في الجهل والعمى، لا يعرف شيئاً من العقليات، خمِّير سفاكاً، كما أخبرني من خالط بلاده وعرفها أنه إذا غضب على الرجل نادى من قرب منه اطعنه يا فلان فإن سارع وإلا قام هو إن لم يقتل المأمور، حيث لم يسارع، ومن غضب عليه من الرعايا أو غيرهم أخذ ماله جميعاً، وغلب على بلاد خصيبة معمورة من بلاد بني طاهر، كما سيأتي صفتها إن شاء الله تعالى.
وقد غفل عنهم ملوك اليمن، ولم يتعرضها أحد إلا سنان باشا ، أيام الوزير حسن المذكور في أخبار مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد (صلوات الله عليه)، فإنه فتح بلادهم وبلاد يافع، وما والاهما في نحو أربع سنين.
ولما قام الإمام (عليه السلام) ارتفعت عنهم الأتراك فعادوا لحالهم الأول لهم بلادهم، ولهم أيضاَ جوامك وعوائد كثيرة لا سيما الرصاص، فإنه عظم ذكره وهيبته، وظهر على خصومه من العوالق، ومراد وغيرهم فهادوه، وواصلوه وأخرهم الإمام (عليه السلام) على ما سبق، وكان السلطان أحمد بن علي الرصاص يواصل مولانا الحسن (رضوان الله عليه) بالمكاتبة.
ثم إنه (رحمه الله) وجد منه أيضاً مكاتبة إلى الترك (أخذهم الله وأقماهم) فيها الغدر والخيانة لمولانا الحسن (رضوان الله عليه) قد ذكرناها في سيرته فقطع عوايده.

ولما مات أجراها عليه مولانا المؤيد بالله عليه السلام، فلما ظهر منه ما ظهر من الطغيان، واشتهر عنه ما اشتهر عن كبائر العصيان، وهو مع ذلك (لا يعرف شيئاً من التحسين والتقبيح إلا كما قال الإمام المنصور بالله سلام الله عليه) [195/ب]في من هو أحسن منه حالاً:
فمبلغ علمهم إنكار فضلي .... وغاية فقههم أن يرفضوني
وهذا لا يعرف من الاعتقادات غير بغض آل محمد صلى الله عليه وعليهم، والنقيصة لهم، وأنه لا يرى الزيدية ولا يرونه، ويأمر أهل الحضر من بلاده بالخطبة لسلطان الروم، والدعاء له تقليداً لشيخه الخبيث المتقدم صفات ذكره، فبلغ الإمام (عليه السلام) فكتب إليه رسائل نافعة.
فأخبرني من حدث عنه أنها كانت تقرأ عليه فلا يعرف شيئاً من معانيها، وربما يضحك ويقول: هذا كلام مليح ولكن وايش يبغي مني الزيدي، فقيل للإمام (عليه السلام) إن هذا قد غمره الجهل البسيط، وإنه لا يعرف ولادتك من رسول الله ، فكتب إليه أخرى، ووضع علامته الشريفة بتسطير اسمه الشريف، بعد لقبه العالي المنيف، وسرد نسبه العالي المفضل إلى رسول الله (صلى الله عليه)، فلم ينجح ذلك ولا عرف المراد منه، وقد اتضح له أن الإمام (عليه السلام) من ولد رسول الله فقال ما معناه بكلام جهلة البدو أن من شجرته الخبيثة.
كما أخبرني الشيخ الأجل أحمد بن مسعود الجريدي مكاتبة: إني لا أفشل مما كان عليه أبوي ، ونحو ذلك، ولكن أخطب لمن كانت لهم الخطبة أولاً مع بوي، وهو لا يعرفها، وإنما يأمر بذلك في حضر بلاده، ولا يعرف الصلاة أيضاً.

قال بعضهم: إنه قد يصلي في كل جمعة ركعتين، على غير صفة الصلاة بعد أن يغسل رأسه بالسدر ونحوه، وله امرأتان، عليهما تسريح شعره، وكل أهل الجهات المذكورة إنما يبالغون في تطويل الشعر كما تقدم في صفة خبيثهم المجدوع وضالهم الخادع المخدوع.

[تجهيز الجيش من قبل الإمام المتوكل لمحاربة آل الرصاص]
فصل: ولما لم يجد الإمام (عليه السلام) عن قتالهم عذراً ولا بقي له ولأهل جهته المذكورة حجة، أمر (عليه السلام) بالتهيئ للمخرج المنصور، ولم يورِّ به كما قد يفعل في غيره، ومع ذلك وكتبه وتذكيره بالله تعالى إلى جميع أهل المشرق لا يزال عموماً وخصوصاً، وكان أول من وصل للنفير مولانا العلامة العلم، ومنبع الحكمة والكرم، عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوه سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوهما شرف الإسلام والمسلمين الحسين بن الحسن، ومع مولانا عز الإسلام ولده ضياء الإسلام إسماعيل بن محمد، ومع مولانا الصفي (أيده الله) ولده محمد ووجوه ديوانهم وكبراء أصحابهم، وكان وصولهم إلى محروس الحصين بعد أن قطعوا ما بينه وبين صنعاء يوماً واحداً [196/أ]قبيل غروب الشمس، وخيلهم مع ذلك تباري في أعنتها لم يمسها لغوب ولا يرى عليها أثر الركود والنصوب لما عودوها، فإنهم كما قال الإمام الأعظم المنصور بالله عبد الله بن حمزة (رضوان الله عليه) مخاطباً لمثلهم:
فلا تيدنوا الجرد العتاق فيدنها .... على مثلكم من موجبات اللوائم
وقوله:
وقود جياد الخيل تكبو من الجوى .... وهن أبران فيه عوائد
تغير إلى شرق وغرب وتارة .... تأم بقيفيه الفراقد

فهذا من ذاك فإنهم (أيدهم الله تعالى) لعلو همتهم قد روضوا أنفسهم على الكد والكدح، وباعوا رفيع الرفاهية بالغالي من المدح، فإنهم وصلوا كما تقدم وكل واحد منهم معتقل لعامله كآحاد الجند، فتلقاهم الإمام (عليه السلام) بوجوه الناس، وعلمائهم، فالخبيث منهم الفاهم بأسفل المدرج، وبعضهم أقرب لسرعة تعادي الخيل بهم، وباتوا ليلتهم في بيت الإمام، وهو بيتهم وبيت أبيهم (رحمة الله عليه)، فإن الإمام (عليه السلام) لم يكن له إلى تاريخها بيت يملكه في محروس (الحصبن) و(الدامغ)، وقد تقدم سعة عمائره في المصالح الدينية، ونزل أصحابهم في مواضع بالقرب منهم.
ثم استقر مولانا عز الإسلام في دار والده المعروفة في البستان وصنوه الصفي أيده الله تعالى في داره المعروفة بالقرب منه، وهي من عمائر أيام والده (رضوان الله عليه)، وهي دار عظيمة واسعة المنازل، حسنة التفصيل، وفي كل الأيام والإمام (عليه السلام) يتابع لهم ولأصحابهم الضيافات الحسنة، وينزل كلاً منزلته، وهم يعينون الإمام (عليه السلام) في مهمات المسلمين، ويتناظرون مع ذلك في المخرج المنصور، وما يبتغي تقديمه، والكتب كما تقدم والتذكير لا يزال وقد وصل عيد النحر فتضاعف السرور بالاجتماع الميمون، وكثرت النفقات في طبقات المسلمين على العموم مع العطاء والكساء، وكان مقاماً محموداً، ووقتاً مسعوداً، وهم في أكثر الأوقات يجتمعون ولإمامهم (صلوات الله عليه) يعظمون.

كما قال عروة بن مسعود الثقفي (رحمه الله تعالى)، وقد بعثته قريش إلى رسول الله يوم الحديبية: (يا معشر قريش إني والله قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه) ، وهم كذلك يسارعون إلى مراضيه ويتوخون مقاصده الرشيدة، فيما يذره ويأتيه، وقيل في ذلك من الأشعار .

[رسالة القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري]
[196/ب]ووصلت مكاتبة من القاضي العلامة، الحبر الحافظ الفهامة شمس الإسلام والمسلمين، وقاموس علم الأئمة الهادين أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري (أيده الله) من شهارة المحروسة بالله، فإنه تأخر عن الإمام (عليه السلام) لعارض مرض والدته، ولم يكن لها من الولد غيره (أطال الله تعميره) وقد أنافت على الثمانين، وببقائه في محروس شهارة فإنه (أيده الله تعالى) حياة المكان ولأهل الحق لسان، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب البيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والعشر المباركة العظام، ورب الإهلال والإحرام، صلي وسلم على محمد وعلى آل محمد، وعلى مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين، وأخصصه من بركة هذه الليالي العشر وأيامها الزهر، ويوم عيد الحج والنحر، بأفضل ما خصصت به خلفائك وأكرمت به أمنائك، وأنله من تلك البركات من نفسه ومن يحوطه بنفقته وفي الإسلام والمسلمين ما يملي عينه قرة، وقلبه مسرة، وجنانه نضرة، ومحله جيرة ، وأعدها عليه وعلى أحبته أعواماً غير محصورة العدد ولا محصاة المدد، مقرونة بكرامتك وعصمتك ورحمتك ونعمتك في الدين والدنيا، إنك سميع الدعاء، وأشركني ومن أحب والمسلمين في مقبول دعواته، ومرفوع قرباته، وصالح أقواله وأفعاله ونياته، وصلي وسلم على محمد وآل محمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

79 / 116
ع
En
A+
A-