قال: وهي بالقرب منهما، ووصف لهم عزة وقوة واعتزاء إلى هذا المذهب النبوي، وأخبرني أن مسير بلد الديلم أكثر من أربعين مرحلة من غير جيلان وما والاها، ودخل المشهد المقدس بكربلاء، وأن الزيدية فيها أقل من غيرها، وأن غالبهم إمامية.
قال: ووصل مكان السيد إبراهيم بن عبد الله الديلمي المشهور، وهو يسمى مدينة (الباغ) مدينة متوسطة كتعز العدنية، وأن فيها حياة في العلم، وأن أعظم علمائها بعد السيد إبراهيم القاضي أحمد بن إسحاق.
وأخبرني غير السيد المذكور: أن السيد إبراهيم من أولاد الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليهما السلام).
وأخبرني غيره أيضاً: أن هذا السيد إبراهيم إمام القاسمية في الجيل، وأن الناصرية في هذا الزمان أئمة منهم، وأنهم اختلفوا في إمامين، فتحاكموا إلى السيد إبراهيم في خبر أطول من هذا يدل قضاؤه أنه على مذهب الهادي (عليه السلام).
وأخبرني الشيخ يحيى الحساوي المتردد إلى حي مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام) في عام إحدى وخمسين وألف [1641م] أنه قام إمام من الزيدية ولعله ناصري المذهب في عام خمسين وألف [1640م]، وقتله الشاه. والله أعلم.
وقال السيد الأهدل أيضاً: أنه دخل بلاد المغرب الأقرب، وأنه سمع ببلاد الأشراف الإدريسية، وأنها مملكة عظمى، ولا لصاحب الروم منهم إلا هدية سنوية، وأنهم يتظاهرون أنهم مالكية، قال: وهم زيدية حقيقية كما سمع في تونس، وبلاد باجة من بلاد المغرب الأقرب.
قال: وسمع القاضي بطاش وهو المسمى قاضي العسكر تحدث عند فتح (مالطة)[192/أ] هذه مالطة قد فتح الله بها وعمرت فيها مساجد فعلينا أن نقول للسلطان يفتح بلاد طليطلة من المغرب الأقصى، وأنها من أهم ما ينبغي تقديمه، وأن فيها قبور ثلاثة أشراف فضلاء نحب استقادهم ، وهذا يشهد بصحة المسموع أن مشهد الإمام إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قد استولى عليهم الإفرنج (أقماهم الله)، والله أعلم.
ومن أخبار الروم من رواية السيد المذكور: أنه كان في سنة تسع وخمسين وألف [1649م] في (اصطنبول) فسمعوا زلزلة عظيمة ظنوها مدافع جاءت بها النصارى، وكان للسلطان رتبة محاصرة لقلعة في البحر تسمى (تكيراوه) بالتاء الفوقانية وكسر الكاف، وسكون الياء، وحركة الراء، وحركة أيضاً والواو، وسكون الهاء، من قلاع الكفار فانهارت في البحر، وانصبحت أحجارها، وصارت بعد ذلك بحراً، وهلك من كان فيها من النصارى.
وأخبرني أيضاً أنه مر على موضع في الروم يسمى (اسبارطة) في جهة (قرمان) ، وهي مدينة عظيمة تتصل بها خمسة وعشرون قرية، كثيرة الأنهار والبساتين الجامعة لأجناس الأشجار، وعاد إليها في عام ستين وألف [1650م] فوجدها بحراً، فسأل من كان يقرب منها أين صارت، وكيف كان ذهابها؟
فقالوا: إن الله سبحانه أرسل عليهم الثلج، ثم المطر الغالب فغطى عليها وعلى أهلها، فلم ينج منهم إلا من كان غائباً عنها.
قال: وتقدير طول هذه المدينة المذكورة وما يتصل بها من القرى والبراري مسافة يومين للبريد، وعرضها مثل ثلث طولها تقديراً والله أعلم، سبحان القادر على ما يريد، انتهى.
[وصول الشيخ أحمد بن محمد الجوهري إلى الإمام]
وممن ورد على الإمام (عليه السلام) في شهر صفر عام ثمان وستين وألف [1657م] الشيخ العلامة أحمد بن محمد الجوهري ، من أهل شيراز من جلة أهلها، وهو شيعي، ومنشأه بمكة، ولذلك له العبارة الفائقة، والاستحضار الهائل، إذا ذكرت عنده القضية الحادثة ذكر لها من النظائر والأشباه ما يفعم المشايع، مع حسن تأدبه، وآداب غضة، ووالده من أرباب التجارة الكاملة.
قال القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال (أسعده الله، وهو الراوي لهذه الجملة من أخباره): إن السيد رضي الدين زيد بن علي بن إبراهيم الجحافي أخبره عن والد الشيخ المذكور، وقد عرفه في بندر المخاء، أنه رآه في رأي العين لا تصلح أن تكون أباً له؛ لأنه مقارب له[192/ب] في الشيب والغضارة، ولهما من جودة النظر في أمر المعاش ما تم لهما به التعفف عن التناول حتى من مولانا أمير المؤمنين (حفظه الله)، فإنه لم يتحيل ليناوله شيئاً إلا بكسوته (حفظه الله)، فلم يتجاسر الشيخ أحمد [على ردها] وله طرافة وأدب، ومجالسة ونجب، مع علم وحسب، وأنه حكى للإمام (عليه السلام) وأهل مجلسه الشريف ومقام إملائه: أنه ورد إلى أبواب ملك الهند من تلقى الشريف الأشهر، والشاه الأكبر عباس شاه الحسني، السيد المعظم أحمد بن معصوم الحسني، ووصف كثيراً من أدبه، ودرراً من نخبه، وأنه قال في الوصف في الغزليات ارتجالاً بيتين من الشعر فراق من سمعهما من أهل الأدب وقطعوا بان لا ثالث لهما، وهما قوله:
تراءى كضبي نافر من حبائل .... يصول بطرف فاتن منه فاتر
وقد ملئت عيناه من سحر جفنه .... كنر جس روض جاده وبل ماطر
فأجازهما الشيخ المذكور، وقد أعرب هو ومن سمع في وصفهما، وأنه قد أتى بالعجب العجاب الموافق لما [سبق] قبلهما فقال:
وظبي غرير بالدلال محجب .... يرى أن فرض العين ستر المحاجر
رماني بجفن أسبل الدمع دونه .... لئلا أرى عينيه من غير ساتر
فلما سمع الإمام (عليه السلام) ذلك استحسنه والتفت إلى أصحابه معجباً لهم فقال السيد الأفضل الأديب الحسن بن المطهر (أسعده الله) على سبيل البديهة والاقتضاب في مقام الحضرة الإمامية (أعزها الله تعالى):
وريم فلا أصل المحاسن فرعه .... تبدى كبدرٍ في الدجى للنواظر
سباني بجفن أدعج سال ماؤه .... فطرز شهب الدمع ليل الغدائر
وقال القاضي أحمد بن أبي الرجال ارتجالاً كذلك:
ومكحول طرف لا يزال مسدداً .... عدى حاجري عن رعي تلك المحاجر
وحجبه عني ربيع وجعفر .... يفيضان بالنعمان من لي بناصر
وقال الفقيه الأديب حسن بن يحيى با عفيف الحضرمي:
وخشف عليه الحسن أوقف نفسه .... له ناظر يحميه عن كل ناظر
نظرت إليه ناثراً در دمعه .... فنظام فكري هام في در ناثر
انتهى. وقال في المعنى [عن ذلك] بغير رؤية وفي غير الحضرة، والسبب، وألحقناه بهم لجامع ذكر الحضرة الإمامية، ومن يجتمع إليها من علماء الشرع والأدب كالشيخ المذكور[السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الجحافي] في حل بيت فارسي من الشعر معناه: [193/أ]أن المشتاق لا يقدر أن يصف لوعة اشتياقه، إذ شوقه نار، والقلم قصب ولا يجتمع النار والقصب، فقال في الشوق:
نار لذا الأقلام عاجزة .... عن أن تحرره في اللوح والكتب
لكن معجز حي قد أثار هوى .... مؤلفاً بين نار الشوق والقصب
ونقل القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال (عافاه الله) ذلك إلى السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم الجحافي (أطال الله عمره)، وهو في حبور، وكأنه عتب عليه طول المغيب عن الحضرة الإمامية (أدامها الله تعالى)، فأجابه استظهاراً بما قاله الشيخ المذكور، فقال:
يا غائبين وفي قلبي محلهم .... وعاتبين لبعد العهد بالكتب
وصفي لشوقي محال أن أسطره .... فالشوق نار وأقلامي من القصب
وللشيخ المذكور في الحكمة:
أن حزت علما فاتخذ حرفة .... تصون ماء الوجه لا تبذل
ولا تهنه أن ترى سائلاً .... فشأن أهل العلم أن يسألوا
وله أيضاً في التشبيه:
بدى مثل الهلال فصار بدراً .... بأفق الحسن في عين التمام
فهم بالبدر والأيام بيض .... فهذا الفصل أبان الهيام
[ويعلق بمحبة القاضي أحمد المذكور لجمة الأدب، ومجلس المفاكهة بالرغب، ولما توجه إلى بلاده قافلاً، وبالإشارة لما رآه في المقام الإمامي من جوامع الكمال ناقلاً قال مشافهاً للقاضي المذكور مرتجلاً، وقد أوجس في نفسه بلابلاً:
أيابن أبي الرجال ملكت رقي .... بما أودعت من حسن الوفاء
سأنشده إذا زاد اشتياقي .... جبودي كرنبودي أييشناء
أراد باللغة بالفارسية ليتنا ما تعارفنا، وله مقاطيع فائقة وأبيات فائقة] .
[ذكر بلاد حضرموت ويافع]
ذكر المخرج المنصور إلى جهة المشرق ونواحي حضرموت.
ونبتدي بجمل من أخبار أهل تلك الجهات المذكورة، وهم طبقات بلاد يافع، و(بني أرض) ، (بلاد الرصاص) و(المصعبين) ، وبلاد (مراد)، وبلاد (العوالق) ، وبلاد (آل كثير) ، وبلاد (الفضلي) ، و(العمودي) ، وما والاهما إلى حضرموت، فأهل حضرموت وبواديهم وسواحلهم غلب عليهم الصوفية ، مع أن غالبهم جبرية محضاً، وفيهم أشعرية وغيرهم ممن يلحق بهم في التأويل، هذا حال فقهائهم والديانين منهم، وحشوهم جبرية وحلولية كما تواتر عنهم.
وأما بلاد يافع، وما يتصل بها فيحتكمون لرجل من آل أبي بكر [193/ب]بن سالم من الأشراف آل بالعلوي، ويقال إنهم من ولد الحسين بن علي (عليه السلام)، ومن ذرية موسى بن جعفر الصادق (عليهما السلام) كما ذكره الأهدل في تاريخه المسمى (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، ويلهجون بذكره ويدَّعون له الخوارق المؤثرة في العالم ويبغضون أهل العلم، ولهم في ذلك ما يطول، ويكرهون الزيدية خصوصاً، وغيرهم من أهل العلم خلا أنهم يصلون ويصومون ويحلون الطرب وجميع الملاهي، ويجعلونها عبادة وطاعة، وأهل حضرموت بدوها وحضرها كذلك مع ما تقدم.
أخبرني الصنو الفاضل غوث الدين بن محمد (رحمه الله) أنه وجد رجلاً من مغارب ذمار في عام ثمانية وثلاثين أو تسع وثلاثين وألف [1628/1629م] [عليه لباس أهل حضرموت] ، وحرفة التصوف، وفيه خشوع وإقبال، قال فسألته: أين كان؟ فقال: عند الحبيب حسين الآتي ذكره وبعض صفاته، وكان قبله مع أبيه أبي بن سالم، وأنه دخل معهم في طريقهم حتى غلبه الهوى في استحسان القبائح، ثم أنه حدثهم بكثير من أمورهم، منها: أنه اتفق من رجل من أهل بلد سماها، أظنها بلد السلطان، وجد مع امرأة لها فيهم قدر رفيع، والرجل كذلك، فقال من حضروا واقعتهم منكراً عليهم أتأتون المنكرات، وتفعلون الحرام، وأكثر عليهم الصياح، فقالوا جميعاً: وما ذا لنا من فعل، وإنما ذلك حكم القضاء والقدر، وظهر أمرهم إلى من يدعي العلم فعظم الرواية وفخم الحكاية، وقال الحمد لله الذي ألهمنا إلى القول بالقضاء والقدر، ثم أمر أن يزف كل واحد إلى بيته معظمين مكرمين.
قال: ولما رأيت ذلك منهم عرفت خطأي الدخول معهم، وهربت بنفسي إلى هذه البلاد تائباً نازعاً من المقام بين أظهرهم.
وأما بدوهم فكغيرهم ممن سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
وأما الحبيب حسين فأخبرني الشيخ البهال الأسدي، وكان رجلاً بادياً، صدوقاً، من حذاق العوام، وله ديانة أيضاً في عام أربعين وألف [1630م] أو إحدى وأربعين أن مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله (عليه السلام) أرسله إلى سلطان حضرموت، وهو عبد الله بن عمر بن بدر بن جعفر الكثيري بكتاب ضمنه ما يضمنه الأئمة (عليهم السلام) من دعائها ومواعظها، قال: ولما وقف عليه السلطان وهو إذ ذاك في محله المعروف بسيئون .
قال لي بعد الإقامة عنده نحواً من ثمانية أيام: لا يكون الجواب على الإمام إلا بعد تعريف الحبيب، وأخذ رأيه الكريم، فيكون عندنا حتى يعود جوابه[194/أ]، وأمر كاتبه يعني السلطان بالمسير إلى الحبيب المذكور إلى موضعه المعروف بـ(عينات) ، وأرسل معه بكتاب الإمام (عليه السلام) فقلت للسلطان: وأنا أحب زيارة الحبيب، ومرادي معرفة حاله لاخبر الإمام عليه السلام بها فأركبوني معهم ووصلنا محله على بقية من الليل، وتركوني في منزل وصاحب السلطان في آخر، وكلنا بالقرب من قبة والده الشيخ أبي بكر بن سالم ، والقناديل فيها مسرجة، ولا فراش فيها، والقبر عار كذلك، وفيها وحولها نحو من أربعمائة نفر أكثرهم من يافع يهللون ويصيحون بالأصوات المرتفعة: يا حبيب يا حبيب يعني الحبيب المذكور، والضال المضل المغرور، وهم مع ذلك يضربون الدفوف والطارات ، ويرفعون الشبابات .
قال: فسألت من وُكل بضيافتنا عنهم، فقال منهم من يقيم الشهر ومنهم الشهرين، وأقل وأكثر لا يرون الحبيب وقد يتجلى لبعضهم فيظهر عليه ويخبره عن نفسه واسمه واسم زوجته وبلده.
قال الشيخ المذكور في روايته: فعرفت أنه يتركهم على ذلك حتى يعرف كثيراً من أخبارهم، ويتصل به أخبار خواصهم في بلادهم، فينتشرون في الأرض ويشهدون له بعلم الغيب.
قال: وكنا كذلك لم يؤذن لنا، وأما صاحب السلطان فأذن له، ولما كان ثاني يوم أو ثالثه أذن لي، فدخلت عليه فوجدته في منزل كبير مملوءاً من حفدته وآلة الملاهي على أنواعها، تتخذ عنده شيئاً فشيئاً، ورأيته فإذا هو رجل ضخم كثير الشعر لا يحلق رأسه، ولا ينقص شاربه ولا يقرض أظفاره، وعلى رأسه امرأتان تسرحان شعره، عليهما فاخر الثياب والحلي، وسألت عنهما فقالوا من اللعابين الذين يسمونهم السجد ، وعادتهم الطرب، وتلعب نساؤهم عند الفساق، وقد كان عم أهل اليمن شرهم قبل ظهور الأئمة (عليهم السلام) على اليمن، وأنهما وقفا أنفسهما على خدمة الشيخ.
قال: وكنا كذلك إذ ظهر من باب آخر أسفل الإيوان شاب كما يقل الشعر في وجهه، ووضع له كرسي فقعد عليه ، ومعه امرأتان كذلك تمشطان له شعره، فسألت عنه فقيل هذا ولد الحسين المسمى أحمد.