أخرى وفي أواخر عام اثنين وسبعين وأشهر من ثلاث وسبعين وألف [1662م] حصل المطر المانع في اليمن وغالب أوقات الليل والنهار وطال فخرب من دور صنعاء نحو من سبعين داراً، وقل ما بقي من بيوتها ومساجدها لم يتشقق، ثم تلاه البرد الشديد الذي[189/أ]لم نعلم مثله حتى يبست الأشجار، وذهب بعضها وأذوى، فسبحان من أحاط تدبيره بالخلق ودلهم على الحق وقسم فيهم الرزق، انتهى.
[وصول الشيخ العارف منصور المصري إلى اليمن]
وممن ورد على الإمام في غرة ثلاث وسبعين وألف [1662م] الشيخ العارف منصور بن يوسف بن منصور المصري الأزهري، وذكر أسباباً لخروجه من مصر إلى أبواب سلطان الروم، وذكر صفة وضايف الروم فيما يتعلق بالقيام والتدريس ، أنها مراتب تسمى الأول سقطة معنى: خادم المدرس، ثم يرتقي إلى أن يسمى طارش هند معناه: أن المدرس يكتب له شيئاً يتعلمه، ثم يرتقي إلى أن يكون ملازماً، ثم يرتقي إلى أن يكون مدرس خمسة، ثم عشرة، ثم خمسة عشر إلى أربعين، فإذا استمر عليها سمي مدرس خارج، ثم خارج الخارج، ثم مدرس داخل، ثم داخل الداخل، ثم مدرس اصطنبول، ثم مدرس الصحن، ثم مدرس تنجي جامع، ثم مدرس أياصوفية، وهذه المدرسة أساسها من زمن عيسى (عليه السلام)، ثم يرتقي إلى تدريس السليمانية، فإذا بلغ ذلك انتقل إلى قضاء مكة المشرفة أو بيت المقدس، أو قضاء مصر، وإن عاد إلى اصطنبول قاضي أناضول معناه أن جميع قضاة السلطان في بلاد العرب من تحت يده، أو يكون قاضي زمل، ومعناه أن قضاة الإسلام ما عدى الروم تحت يده، أو يكون قاضي اصطنبول، ومعناه أن يكون كل قضاة ممالك السلطان تحت يده، هذا أصل ما بنوا عليه قواعدهم، وفي مصر كذلك.
وأما الآن فبالمال والرشا والعرض والهوى، وللمذكور رحل إلى جهات كثيرة يطول سردها، ولا نمرة لعدها، وإنما نذكر منها عبراً للمعتبرين فمن ذلك أنه ارتحل إلى مدينة [بوليه] وهذه البلاد غالبها الجبال العالية والأشجار المرتفعة السامية، منها ما يبلغ مد البصر ارتفاعاً، فيؤخذ منها خشب المراكب، وأنه ارتحل منها إلى بلدة تسمى سيواس، وأخرى توفاد، وهي أول بلاد الأكراد وهي من أكبر بلاد الله نفوساً وأموالاً، وينتمون إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي كثيرة البرد والثلج، وفيها من أنواع النبات والأزهار ما يعجز عنه الوصف، وذكر غيرها. وأنه اتصل بالموصل، وفيه اشتهر قبر نبي الله يونس بن متى، وقبر نبي الله جرجيس (سلام الله عليهما)، وكثير من قبور أهل البيت (عليهم السلام)، وأنها مشهورة تزار، وهذه البلد كثيرة الخصب تبلغ ثمن العشرة الأرطال اللبن نصف درهم، ومن عجيب أمورهم[189/ب] أنهم يصطنعون لعبور الشط أخشاباً تطول وتقصر وتسمى الكلك يجعلون لها ظهراً من الأخشاب، وبطائن على كيفيات تلائم ما أرادوه من صنعتها ويجعلون تحتها قرباً منفوخة على قدر كبر هذا الكلك وصغره، ويحصلون لمن ينفخ القرب مواضع متصلة به لنفخ القرب، وتعويض ما فسد منها، ويسافرون بها نهاراً بالقرب من الجسر مع المد، فيقوم مقام السفن، ويحملونها ما شاءوا من الأثقال، وهذه الأرض المحيطة بهذه الجسر كثيرة السباع، لا يتجاوزها شيء من الدواب، وأن الدابة إذا سمعت الأسد بالت الدم وسقطت، ولا يؤثر فيها كثرة القافلة، وفي أسودها كبر وضراوة وهي بلاد ممتدة ذات أشجار كثيرة تتصل بالنجف ونواحيه.
قال: ودخل بغداد بعد خرابها فلم يجد فيها اسماً للعلم ولا موضعاً للدرس غير ثلاثة أنفس عرباً من بلاد السند، ودخل البصرة ووجدها قريبة من بغداد في الجور والفتن ، ووجد فيها رجلاً يسمى الشيخ عبد الغني يقصد للعلم وميلة إلى التصوف، ودخل بلاد النعمان أيام الحرب على مصر، وهو من بنادر النعمان، وأن النعمان حاربوا الولنديس والإفرنج فأظهرهم الله عليهم وقتلوهم عن آخرهم بعد حرب شديد.
قال المذكور: وقد شهد حربهم وأن المدافع من الفريقين تكاد تصك الأسماع، ودخل السند إلى أرض تسمى تيسة ، وأقام فيها ثلاثة أشهر عند عالمها المسمى ملا آدم، وأن هذا العالم أخبره أنه يعرف في السند أكثر من سبعة آلاف نفس، يحفظون كتاب الله غيباً متقناً، ودخل بلاد بكر بالتشديد، وهي مملكة عظيمة عند أهل الهند، كثيرة قصب السكر، ودخل ملتان ، وهي مملكة عظيمة من أرض الهند أيضاً غالبهم الإسلام، وفيهم أهل علم، أكثرهم على مذهب أبي حنيفة.
قال: ورأى فيهم التظالم الشديد، ودخل مدينة لاهور ، وهي من أعظم مدائن الهند، ومسكن السلطان قديماً، وأما الآن فالاشتهار لمدينة دلي، لسكون السلطان فيها، وهذه البلاد التي تحت السلطان شاه جهان، غالبها اسم الإسلام وعاميتها وحشوها كفاراً ضعافاً على المسلمين بحيث لا ينسب المسلمون فيهم العشر ولا دونه، وفي المسلمين علماء ومفتون دون من تقدم ذكرهم من المسلمين.
ودخل أرض كشمير مصاحباً للسلطان شاه جهان، وهي بلاد عظيمة، غالبها الجبال الشوامخ طبع أهلها الفضاضة وغلظ الطبع وأنهم يقتلون بعضهم بعضاً في أقل قليل، ولقد يقتل الرجل ولده إذا غفل عن[190/أ] جوابه، وفيها الأشجار المتنوعة والأزهار المختلفة الألوان ما لا يوجد في غيرها، ومنها تؤخذ الأصباغ العجيبة.
قال الشيخ المذكور واصفاً لها: وقد سأله بعض أمراء شاه جهان كلاماً منثوراً منه: الحمد لله الذي ألبس الأرض من سندس النبات حللاً، ونشر على صفحاتها أزهاراً مختلفاً ألوانها فاخضر عودها، وأثمر يابسها وجلا، وكللها بلؤلؤ الغيث فترعرعت وتضوعت وماهت، فقد أمدها المياس تهتز ميلاً، وحركها نسيم التنبيه فتموجت بالتقديس والتنزيه لمن جل جلاله وتسمى كماله وعلاه.
وروى المذكور أن في تخت السلطان شاه جهان بستان يسمى صاري مار يعجز الواصفون عن صفته، وأن الماء يصعد إليه من تحت الأرض بالحكمة المسماة شاذروان، ويتصل بعضه ببعض حتى يكون كالثوب الرقيق المتصل، ويسرج من خلفه الشموع بإحكام أحكموه، وللسلطان رحلة إلى هذا المحل في شهر رمضان ليمر عليه الشهر الكريم مفطراً، ويجعل عوضاً عن الصوم صدقة عن كل ليلة ألفي ربية (والربية نصف قرش)، وله من الصدقات الكثيرة أضعافاً مضاعفة.
قال: ودخل مملكة عظيمة الشأن تسمى أقرا تجمع مللاً كثيرة من الكفار، ودخل مملكة تسمى (برهان فور)، وفور اسم القرية، ولهم صناعات عجيبة ونقوش غريبة من الثمينة وغير الثمينة.
ودخل مدينة تسمى (أورنك أباد) بألف ثم واو ثم راء مهملة ثم نون ثم كاف، وهي المدينة التي ولد بها السلطان محمد بن شاه جهان، ولذلك سمي أورنك، وفيه علماء وأهل قرآن أكثر من غيرهم.
ودخل تيجابور قال: وفيها سبعة جبال منها قلعة منحوتة مرتفعة يقال أنها مما نحتها الجن لسليمان بن داود (عليه السلام)، ولها باب يجمعها من داخله ثلاث طرق، إحداها ينفذ إلى أعلى القلعة، وطريق من ذات اليمين منحوت أيضاً يخرج الخارج منها إلى مسيرة ثلاثة أيام من جانب البر، وطريق ذات الشمال لا تعرف طرقها لما فيها من الوحشة وتصطنع فيها الثياب الفاخرة يبلغ ثمن الشاش منها في بلاد الروم ثلاثون قرشاً، وفي ليلة العيد تسرج الشموع في هذه الجبال في غالب كل شجر وحجر سنار تعوده أهل هذه المملكة.
ودخل بلاد آشي، وهي بلاد عظيمة الشأن معتدلة الهواء عذبة الماء، خصبة، ولحسن هوائها يلبس أهلها كسوة الشتاء في الصيف[190/ب]، وكسوة الصيف في الشتاء؛ لاستواء الحالين فيها، ويقال: إن نهارها وليلها على سواء، وذلك يوافق كلام من يذكر مساحة الإقليم، والله أعلم.
قال: وهي كثيرة الأرزاق، سهلة الآفاق، وفيها من المعادن أربعة وعشرون معدناً، منها أربعة من الذهب، وسائرها من الفضة، ومنها الكافور على أنواعه، والفيلة التي تباع إلى الملوك وغيرها من العجائب، وفيها الفلفل الكثير، وتملكهم امرأة مسلمة ذات فضل وكمال، وسخايا بالأموال، ولها قراءة، ومعرفة بالعلم، وإحسان واجتماع على القرآن، وتسمى صفية الدين شاه بردولة، تكتب السكة باسمها في جانب: (صفية الدين)، والآخر: (شاه بردولة)، ولا قدرة لملوك الهند عليها، وتفعل بينها وبين الوزراء ستاراً غامراً، وتأمر وتنهي، وقد تركب للصيد والتنزه، وهي على أتم ستر.
ودخل مملكة تسمى (بلمبام) عليها ملك من تخت سلطان (مطارم) الآتي ذكره، وفي هذا الموضع بحر عظيم مسيرة ثلاثة أيام يختلط الماء المالح بالحالي فيه، وبعد ثلاث يخرج الحالي منفرداً، والمالح كذلك، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً.
ودخل مملكة (جاوى) وهي المسماة (بانطة) (بمعنى ظهر المشرق) ينتمون إلى الإسلام، ولهم ملوك أهل عدل وإنصاف ورجوع إلى الشريعة.
ودخل بلاد (ذقطرة) وهي دار الحرب من بلاد الإفرنج والولنديس، ومن أخبارهم أنهم طلبوا من الشيخ المذكور أن يلبس لباس علماء مصر والروم في الصفات والهيئات فعجبوا لذلك وأمروا المصورين فصوروها، واشتغلوا بذلك سبعة أيام وأرادوا أن يأخذوا منهم شيئاً من المال فامتنع وعظم قدره عندهم.
قالوا: يريدون بذلك التبرك بصور أنبيائهم وأنهم صوروا ملبوسه، وحمله الكتاب متأبطاً له، وأن في بلادهم شجرة طويلة يأكلونها تسمى الدوبان شبيهة بالبطيخ، ولها قشر وشوك كشوك القنفذ، لو يقع على الفيل لتألم منه، وفي قلبه حبات كبيض الإوز تؤكل وتستطاب في غاية الحلاوة، وحرارة الطبع.
ودخل أرض (مقاصر) وبينها وبين (بانطة) مسافات كثيرة، وهي بلاد المشرق الأقصى مما يلي بلاد الصين، وهم ينتمون إلى الإسلام حديثوا عهد به.
قال الشيخ المذكور: إنه أخبره بعض ملوكها واسمه قرسمنا (بمعنى صاحب القدر الكبير) أن للإسلام منذ دخل بلادهم ثلاثاً وستين عاماً، وغالب ملوكهم التكبر والتجبر، وأن السلطان إذا قام قعد كل أحد، وإذا مشى كذلك، فلا يتحركون عند مشيه وقيامه، ولا ينتقلون عن مواضعهم، وكل منهم جاعل يديه عند أنفه، وذلك بمثابة السلام[191/أ]، وعقوبة من خالف ذلك القتل مع المسارعة إلى قتل النفوس لغير ذلك السبب، ثم ارتحل إلى موضع يسمى (مشلي بندر)، ودخل موضع قطب شاه المسمى دولة أباد، ثم منه إلى (سرات)، ثم منه إلى (اليمن).
وقال في صفة (الولندة) ومملكتهم: إنها ما بين (مقاصر) و(جاوى) من بلاد المشرق، وأن ملكهم ذو قوة في المال والرجال والآلات الحربية، حتى لا يقال مثله، وأهل هذه المملكة صباح الوجوه، كثيروا الأغذية، مرتفعوا البنيان، تغلب عماراتهم الزخرف وأنواع النقوش ويبالغون في ذلك، وفي نسائهم غاية الحسن والترف، ولهم صناعات كثيرة، جالبة للأموال من كل قطر، ويحاربون ملوك الإسلام، وأعظمهم سطوة عليهم من المسلمين سلطان (مطارم)، وهو من سلاطين المشرق لا يكاد يحصر جنده، وأما الذين يختلفون إلى بنادر اليمن من الولنديس الذين يسمون الفرنسيس والبرطفال ، والولندة ، ويتجرون إلى بلاد الإسلام، وغالبهم الطمع والشر طبعاً، يخطفون أموال الناس ولكل من هؤلاء ملك، وفيهم بعض عدل.
ودخل بلاد (منيبار)، وهي بلاد واسعة عليها ملوك كفار لا يحتكمون لبعضهم بعضاً لشرارتهم، ولا يزالون شاهرين لسيوفهم سفراً وحضراً، صغيراً وكبيراً، كثيري الحيلة على الأموال والتلصص، سوى ثلاثة مواضع منها، الأولى: كنبور، وكلكوت، والغناني، وما عداهم يقطعون الطرقات بقدر أربعمائة سفينة.
ووصل بلاد (ديون محل)، قال: وأخبروه أنها تشمل على اثني عشر ألف جزيرة، وأقاليم واسعة، ولهم سلطان مستقل اسمه محمد، من بلادهم يخرج العنبر والكودة وهي الودع، انتهى، والله أعلم.
وممن جاب وأتى بالعجاب من نحو ما ذكره القاضي منصور: السيد محمد بن علي بن محمد بن حسين الأهدل الحسيني من أشراف تهامة، ومحل من بلاد زبيد تسمى (الرقود)، وأنه ذكر سياحات كثيرة، منها: مصر، وحلب، والشام، والعراق، وله في معرفة تفصيلاتها العجب العجاب، وما ينبغي أن يرصد في الكتاب، لولا خشية التطويل، ودخل بلاد الروم، وفصل في معرفتها تفصيلاً عجيباً، وأنه يقال [فيه] إنه في بعضها أعرف من أهلها، وحضر فتح (مالطة)، وذكر من قوة الفريقين ما يطول ضبطه، وأن بين (مالطة) وبين (اصطنبول) المسمى (القسطنطينية) الصغرى التي هي قرار ملك بني عثمان وبين (القسطنطينية) الكبرى[191/ب] مسيرة أربعة أشهر [ونصف] كلهم إسلام [وأن الحرب كان على مالطة اثني عشر عاماً] ، وأن بلاد (مالطة) مدائن وحصون وأراض واسعة غالبها في ساحل البحر.
وسألناه عن مذهب الزيدية ومن يعرفه من أهله وبلدانه، فقال: غالب بوادي الكوفة زيدية، وفيها هجر قليلة أيضاً، وتعرف بلدان زيدية الشام، وأن منها (بعلبك) وهي مدينة كبرى وبلادها وجيلة محركة واللاتقية بالتاء المثلثة، ومدينة بسر –مخففة- وعنتاب مدينة أيضاً، تأتي كلها ثلاثة عشر مرحلة من شرقي دمشق إلى مشرق حلب، وكذا عسقلان وبلادها ومازدين، وما يتصل ببوادي البصرة.
قال: ويقال فيهم إنهم إمامية، وهم زيدية حقيقية.
قال: عرفهم وخالطهم، ودخل بلاد الديلم ومدائن منه، منها: روال –بالراء المهملة- وخوط ومدينة تسمى الناصرة.