قال بعض أهل الحضرة: هو هو قطعاً فقال لعبد يسمى صبح من عبيد سيدي أحمد بن أمير المؤمنين (رحمه الله) كان من عيون عبيده: يا صبح هذا الشيخ عهدتك لكل ما يحتاج، وأرسل إليه نفراً عظيما، وطلبه الشيخ أدوية، فأرسلها إليه، ثم طلبه الشيخ بغلة، فأرسلها إليه وظن المولى أنه سيتودع فوصلته البغلة وتوجه صنعاء.
ولم يشعر الإمام (عليه السلام) إلا في أخريات يوم عزم، وكذلك أنا لم أشعر إلا في ذلك المقام، وقال الإمام (عليه السلام): لعل الشيخ فلاناً يعزم بكرة، فقلت: ما سمعت فقال صبح المذكور: قد عزم فأمرني الإمام (حفظه الله) أن أكتب إليه عنه كتاباً وأرسل إليه بتسعين حرفاً وملكه البغلة، وقال: ينتفع بالتسعين ثم يعود ولم يعد جواب ذلك الكتاب إلا بعد أن بلغني موته في صنعاء والحمد لله على كل حال.
وكان هذا الشيخ من أهل الذكاء العظيم وشهامة النفس، وكان يذاكر في سبعة عشر علماً، منها: الحكمة والمنطق، والتشبيه، والخبر، والمقابلة، والطب، وله فيه تصنيف، والرمل، وعلم الحرف، دار بيني وبينه ما يفهم أنه من أئمته والمتقنين له، وله شرح على المدخل في (المعاني والبيان) ومن أعجب ما سمعته عنه وقت القراءة أن في النيار نور يخرج[183/ب] مكتوباً عليه بقلم القدرة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ودخل ديار بكر وتنقل في المغرب حتى ألم بجمهوره ودخل الأندلس ودخل فاس ومالقة، وسهيلة.
وأما بلدة القيروان فليس مما نعده عنده رحلة، ودخل القسطنطينية، ودخل أصفهان وبلاد خراسان، والجيل والديلم واتفق بواليها، وهو شاب حدث ودخل إلى حلب كرَّات ، وبغداد كرَّات أيضاً، وحج نحو أربع سنين، وزار نحو ثلاث، وبالجملة فجولاته عجيبة.
وقال لي: إنما تجنبت اليمن لظني أن علمهم وقواعدهم لا تلائمني، فسمعت رجلاً في الحرم يقول مقدمة لا تسع المقلد جهلها، ويدرس إلى آخر المقدمة فعجبت من هذا الكلام العجيب، وقلت له: من أين أنت؟ قال: من صنعاء.
قلت: وهذا الكتاب ما هو؟ قال: الأزهار.
قلت: من مؤلفه؟ قال: الإمام المهدي (عليه السلام).
قلت: وهل هذا العلم ظاهر بصنعاء؟ قال: أجل وكل فن فتشوقت كثيراً، ولم تزل صنعاء ملئ قلبه وعينه بعد دخولها حتى عاد إليها، ومات بها، والحمد لله رب العالمين على كل حال.
وعنه روايات في ترحاله لا تسعها هذه البطاقة، وقد كتبت على استعجال، ومزاحمة بأعمال، وكان موته نهار السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وألف [مايو 1653م] وما سألتم عنه من المخزومتين القرشيتين قضية تحقيق نبذة في هذه الورقة فإنه لم يحضرني عند الرقم غيرها وخشيت أن ضيعت ساعة الرقم أن أتعوق عن الكتاب.
قضية المخزوميتين من قريش
من روايته الموعود بها قال في كتابه: نعم ! أنعم الله عليكم ذكرتم أن سيدي عز الإسلام محمد بن مطهر حكى عني شيئاً رويته عن الأفق الشرقي، وإن فيه طائفة واسعة من قريش قد سمعني أصفهم، فالأمر كما وصف لكم سيدي محمد، أول ما سمعت ذكرهم بصعدة عند وصول الشيخ يحيى الحسايي بكتب الباشا، والي الحساء إلى الإمام المؤيد بالله (رضوان الله عليه)، فإن الشيخ يحيى تعوق بصعدة عند رجوعه أياماً وسبب ذلك أنه بلغه أن آل خالد خرجوا نحو ألف فارس عراة إلى أطراف نجران، فخاف منهم، ولم يزل مرتسماً ببالي، حتى كان في شهر رمضان في سنة غاب عني ماهي، وجمعنا حي الأمير الأكرم الرئيس ياسين بن الحسن (رحمه الله) في دار بصعدة للإفطار، وجمع أعيان الفقهاء، وأخذ يحدثهم عن أحوال المذكورين فوصف كل عجيب، وظل ببالي من حديثه ولم ينفك عن خاطري حديث رواه عن صاحب له أعني للأمير ياسين سمى ذلك الرجل مضمون.
قال الأمير: إن هذا المسمى بمضمون من أعيان أهل الدواسر [184/أ] ومحله يجمع ثمانين فارساً.
قال الأمير: فقلت له أخبرني يا فلان بغريب، فقال: إن أعجب ما اتفق معنا أنا كنا مقيمين في فلاة تضرب بخيلنا نتبع الكلأ، وكنا لا نظن غريباً يطمع في سرحنا، إلا بوجه السرق من المرعى، فكنا ذات يوم نطوف على المرعى وعندي ثمانية من الفرسان، وإذا قد أشرف علينا رجل على فرس، ساقاها ساقا نعامة، وأيطلاها أيطلا ظبي، نحيلة ليس عليها شيء من اللحم، قال: فتبعناه، فلم نر إلا عثيره ، وكأنه يطير بين السماء والأرض، ثم رجعنا والتقينا، فكأنه لم يرم عنا بل هو أدنى إلينا من الظل فعطفنا الخيل فرأينا عثير الفرس وهو يسبق الطرف.
قال: فقلت لأصحابي هذا عين قوم اذهب يا فلان قل للسكان يركبون، والمال يجمع، ونحن نتبع هذا الفارس إلى غايته، قال، فتبعناه، فأشرفنا على نحو خمسمائة فارس كأنهم الليل الدامس، قال: فقلت في نفسي هذا العين لهذا القوم، قال: فلم يكن إلا ريثما أدركونا وأسرعوا إلينا، فتلقيناهم وتكاثرت جماعتنا، ودار الطعن، فكان أشدهم لنا نكاية ذلك الرجل الذي أشرف علينا أولاً.
قال لي أصحابي: اكفنا شر هذا الرجل، ونحن نكفيك شر هؤلاء وإن كثروا، قال: وأنا أرمي بالحربة رمياً ما أكاد أخطي الرمية، فانفردت له فأدرك ذلك مني، فتثاقل لي، وعض لجام فرسه حتى قربت، وأرسلت الحربة فأقمت شاكله الفرس، فأرخى يده إلى هنالك وقبض تحت السنان، فلم تصل الحربة إلى الفرس، ثم هز الحربة وقال شعراً:
مولع بطراد الخيل من قبل الوعد .... فارس آل خال أسعد
والتفت إلى عمي وهو رئيسنا وقد علم ذلك بشاهد الحال فرماه بالحربة حتى فلق صدره، وقال هذا فعل الرجال.
قال: فسقط في يدي، وعلمت أنه أسعد المشهور فارس آل خالد، فقلت: اجعلني في حسبك، فقال: قد وهبت لك نفسك يا مضمون أنت ومالك مضمون، فانقلبت إلى المحل أخرجت ثلث المال، وقلت: هو مالي وأعطيناه ومن معه الثلثين، ودار ذكرهم بأكثر من هذا.
ثم لم يزل ذكرهم يتجدد عندي ونسبهم وأنهم من بني مخزوم، وأن خالد المذكور خالد بن الوليد، حتى كان في بعض السنين وأنا مقيم بهجر المكردم، ولي هنالك حلال، فبلغني وصول رجل حسن الشارة جميل الأبهة، معه أثقال واسعة، فتوثقت إليه، ولم أتعرض له بذكر، فأعوزه تحصيل الجمال فقيل له: لو أرسلت إلى فلان ليوجه من يعينك، فأرسل إلي بورقة لطيفة بقلم حسن، وعبارة أعذب من الماء الزلال، ووصف فيها حاجته إلى المعاونة، وأنه[184/ب] بعيد الشقة متحمل لهدية من حيد رنبق-بالقاف المثناة بنقطتين من فوق- ومحمد باشا من أهل الأحساء، فأجبته، ولم أحقق اسمه، بل سميته باسم قد غاب عني غفلة مني، وفعلت ما يتوجه، وعزمته للضيافة فكتب إلي رقعة أخرى على عنوانها:
وما الكتب إلا كالضيوف وحقها .... بأن تتلقى بالقبول وأن تقرأ
كأنه وهم أنه ما تأملت كتابه.
ثم اجتمعنا فرأيت سيداً حسناً، عذب الناشئة عزيز الحفظ للأدبيات محسن الشعر غاية الإحسان، واسمه عبد القادر بن نعمة الله من بني حسن من أهل مكة، فدارت بيننا كؤوس المذاكرات والمحاورات الأدبية حسب الحال فوصف لي عجائب منها شهرة نسب هؤلاء المخزوميين، وعلو صيتهم، وأن من خصائصهم أن لا يرأسوا إلا رأساً واحداً، فهم لا يغلبون لاجتماع كلمتهم، وكثرة عددهم، فإن خيلهم على ما وصف هو أو الأمير ياسين قد فات من بالي نحو ثمانية آلاف، وحديث المخبرين متوافق.
قالوا: إن سلطان الروم وغيره من السلاطين بها دونهم تغطية لشحهم وقد سموا لي الشيخ وفات عن ذهني، وقال لي السيد عبد القادر: هل سمعت بالشيخ اللاحجي اليماني الذي خرج من اليمن سائحاً؟ فقلت: نعم.
قال: وفد إلينا إلى الإحساء، ثم دخل عند هذا المخزومي، فكان يزيد في إكرامه لما هو عليه من السداد، فقال اللاحجي يوماً: يا فلان اعطني جملاً أركب عليه الآن إلى مكة، فقال له المخزومي: هذه متألف ومضامي، ومعامي، على غير ذي الخبرة، أخاف أن يتلف، فقال: اعطني الجمل وعداك اللوم، فأعطاه وزوده، ثم ترحل، ولبث الجمل نحو ثلاثة أيام وجاء وحده ليس عليه راكب، والله أعلم ما كان آخر اللاحجي.
قلت: وهذا اللاحجي اسمه الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن محمد اللاحجي من بيت علم وفضل والدته ابنة سيدنا الإمام الزاهد نجم الدين يوسف بن علي الحماطي (رحمه الله) تعلق هذا الفقيه بالعلم والزهادة، وجمع بينهما، وتحلى بالعبادة فأدركه لنشف ذلك واجتماعه عليه خفة، وهو على حاله الأول معها، ويذكر له كرامات كثيرة والله أعلم.
رجعنا إلى كتاب القاضي:
ثم اتفقت بعد هذا بالحسن بن صدري، والحسين بن صدري، ولاة القطيف ، وفدوا إلى الإمام (عليه السلام)، وعلقوا بمحبتكم علقه بحيث أنهم لم يفارقوا المقام إلا نادراً، فوصفوا أعاجيب واستقصيت منهم أخبار هؤلاء، ولم يخالفوا ما سبق ذكره فسبحان الواسع لخلقه.
نكتة: من عجيب ما حكى لي السيد عبد القادر (رحمه الله) أن هنالك قبيلتين لم أعرف[185/أ] اسميهما، ولا سماهما لي قال: وكانت إحداهما قوية والأخرى ضعيفة، ويتجمعون معاً، ويتبوأون المتبوأ والمنزل معاً، فاتفق أن رجلاً من قبيلة ثالثة غيرهما استجار برجل من القبيلة الضعيفة ولم يزل في جواره، حتى كان من أخي شيخ القبيلة القوية أن خفر حرمة ذلك، وآذى الجار، فشكى الجار على صاحب جواره، فصبر حتى ارتحلوا من ذلك المحل إلى مكان آخر، فكان كل من الناس يختار له منزلاً، والرجل الذي كان عنده طول لفرسه في مرج ورعاها، وهي بأهبة الحرب حتى مر أخو الشيخ الذي خفر الجوار، فقال له: يا فلان، قم فاختر لنفسك منزلاً، فقال: قف، فاستوقفه حتى ركب، ثم قال له: تأهب لنفسك، وحمل عليه فطعنه فقتله، ثم مضى إلى القبيلة، وقال: يا قوم قد أتيتكم بالفاقرة ، قد قتلت فلاناً.
قال: فاجتمعت تلك القبيلة إلى سفح الجبل، وهاجت القبيلة القوية للشر، فقام الشيخ أخو المقتول وقال: يا بني فلان من تقدم قبل أو مضى إلى آل فلان قبل أن أقول لكم فأنا منه بريء، ثم توجه، فقامت تلك القبيلة في وجهه فسكنهم حتى وصل.
قال: يا بني فلان نحن أخوة، وإن فلاناً أخي قد أذى جار فلان أخيكم، وإن أخاكم قد قام بما هو للجار حق يتواصى به، فالله يبيض وجهه، وقد عفوت عن الدم، فإن أخاكم لم يفعل إلا فعل الكرام، فقد أسقطت دمه، وجمعت كلمتكم فاتفقوا كما كانوا.
[ ] الولد محمد عن القاضي (أيده الله) عن الأمير ياسين بن الحسن (رحمه الله) من أخبار بلاد رمل عالج المشهورة وهي التي ذكر فيها الواقعة التي تقدمت أنهم لا يهتدون لطريق الرمل إلا بتقديم جمل ليدلهم مما قد عرف الطريق مراراً، وأن اثنين منهم من أهل الخفة طلبوا الصيد في بعضها فرأوا في أعلى هضبة من الرمل كالشاة أو نحوها فطمعوا فيها بأنه صيد فثارت عليهما فإذا هي عقرب بصفاته المعروفة غير أنها كبيرة كالعنز فما وجدوا لها غير الهرب منها وطال بهما الهرب وبها الطلب فكادت تظفر بأحدهما وبقي في الآخر بعض قوة فحال بينها وبين أخيه فقصدته وتركت الأول وهو الذي أراد بالحيلولة بينها وبين أخيه فأخذ في الهرب وطال عليه فسقط لوجهه وأنس في نفسه فالتفت إليها فإذا هي مثله قد سقطت فقام ونجا وبقي صوته مدة لا يسمع لما لحقه من تكابد النفس.
وأخبر أيضاً عنهما أو عن غيرهما أنهما رأيا في شعب من ذلك الرمل حيواناً بسيطاً كالبساط الكبير العريض يمشي[185/ب]على بطنه.
وأخبر أيضاً أن رجلين منهم عديا على خصم لهما ليقتلاه، فقال لهما: الله جاري منكما ورفيقي، فكف أحدهما عنه، وطعنه الآخر فقتله، ثم مضيا وناما في بعض الرمل فانتبه الذي لم يقتل فلم يجد رفيقه، ووجد سلاحه في موضعه، وكانت ليلة قمراء، والتفت هل يراه فرأى خطاً كبيراً في الرمل كخط الحسنة الكبيرة، فقفا ذلك فوجد رفيقه وقد ألوى عليه ثعبان كأنما هو الحسنة الكبيرة، وهو قابض على وسطه بذنبه، فرمى الثعبان ذلك الرجل ليدفع عن رفيقه شيء فدخل به مغارة، وقد تعرض فيها الرجل فكسره نصفين، فسبحان العزيز جاره القوي سلطانه الحافظ لخلقه.
[وصف قصر غمدان]
أخرى من صفة قصر غمدان البون من بلاد صنعاء وهو معروف جرثومته كغيرها من العمائر الحميرية.
أخبرني من شهد ذلك وهو الفقيه أحمد بن محمد العلفي بعد أن سمعنا من غيره جملة لما سيأتي من خبره أن قدر مساحة كل ربع أربعون ذراعاً، فيكون الجميع مائة وستين ذراعاً، وكان الباشا سنان (لا رحمه الله) في أواخر أيام الأمراء من أولاد السيد الأشهر والملك المظفر المطهر بن الإمام شرف الدين (نفع الله به) عمر المدينة المذكورة وأخذ أعلى القصر وما قدر عليه من الحجارة وعمّر بها سور المدينة.