فلما كثرن عليه وعرف أنه لا يقدر دعاني وأحسبه قال: وأخر من الفقهاء وأمرني بإعطاء من خرج من ذلك الباب وقال لنا: إياكم وأن تسألوا عن المحافظة في الصلاة وغير المحافظة، فكنا كذلمك حتى توسطت امرأة من بدو المشرق كغيرها في الستر غير أنها رفعت صوتها مخاطبة النساء: يا كذا من الكذب تكذبن على الإمام إنكن مصليات، وأنتن غير مصليات، ثم قالت: أما أنا فلا أكذب مثلهن أنا لا أعرف الصلاة، وأكثرت من ذلك.
قال: فأمره الإمام (عليه السلام) ألا يعطيها شيئاً، وسألها التوبة من ترك الصلاة، فازدادت بعداً وإصراراً، وأمر الإمام (عليه السلام) أيضاً بأن يلطف بها وأن ترغب لعلها ترجع عن إقرارها فأصرت وبعدت كثيراً، فأمر الإمام (عليه السلام) بربطها إلى جدار، والشدة عليها، ويسألها التوبة فازدادت نفوراً.
قال: وشق بالإمام (عليه السلام) ربطها وإطلاقها، فاحتال سيدنا القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين (أيده الله) بأن سعى إلى بعض أهل البيوت أن يجعلوا من نسائهم من يضمن عليها، ففعلوا وعلموها الصلاة وأطلقت.
وذكرنا هذه لما يترتب عليها من الأحكام في مثل ذلك[181/أ] منها جواز جمع النساء لحوائجهن ومباشرة إعطائهن، ومنها حمل الناس على ظواهرهم.
وقول الإمام (عليه السلام) لا تسألوهن عن الصلاة لئلا يبدو المكروه كما وقع وغير ذلك من الفوائد التي لا تخفى.

وفي أول عام أربع وستين وألف [1653م] خرج بعض بلاد قحطان وخولان وما إليهما من بلادهم إلى اليمن، والتاث بالإمام (عليه السلام) منهم ما لا يذكر على جهة العدد والتحقيق لكثرتهم] ، وكان (عليه السلام) يتفقدهم بنفسه ويؤثرهم والأضعف والأضعف ويطلب الطعام من الجهات المبتعدة.
وأخبرني بعضهم أنه رأى الإمام (عليه السلام) يبكي حيث رأى قصوراً عن كفايتهم مع العدم، وفي كثير يترك القوت بنفسه ومن يخصه ويحمله إليهم وقد سبق مثل ذلك لوالده وأخيه (قدس الله روحهما)، وإن كانت هذه أكثر عدداً وأطول أمداً، وكانت هذه الشديدة مما حرك الإمام (عليه السلام) إلى جهات ضوران، فإن الجمال ضعفت، وضعف أهلها وإذا تكلف أهل جهة من البلاد البعيدة على قافلة من الطعام هلك نحو من نصف الجمال ويتضرر لذلك أهلها والكِرى ، مع ذلك يبلغ قدر ثمن الجمل وبلغ ثمن العلف في صنعاء وذمار وهما محل العلف وأوسع البلاد لما فيهما من الغيول والآبار، وما أحدثه الله فيهما من الأنهار الأخيرة الحمل التبن بستة حروف وثمانية حروف، ومن القصب الحزمة التي تحيط بها الأبهامات عشرة كبار، وتسعة كبار، وقال بعضهم: إنه شرى ذلك باثني عشر كبيراً يأتي أكثر من درهمين، فسار الإمام (عليه السلام) لهذه الأسباب كما تقدم وطوائف أهل الشام وساير المساكين معه، ويرصدهم الكتاب للعشاء، ثم غيرهم للغذاء وهو يوزع لهم النفقة، ويؤثرهم كما تقدم، فلا يكاد يصل إليه في أوقات الطعام أحد لكثرتهم في مواضعه الشريفة.

[وصول الإمام إلى محروس الدامغ]
نعم، ووصل إلى محروس الدامغ من جهة القبلة والحال هذه، ثم استقبل عموم الشدة والحاجة مع أهل بلاد ضوران والمغارب، ووصله كبارهم بالضيف والنذور والهدايا، وامتلأ الحصين وما حوله، وغص كل موضع بمن فيه، وكلهم يطلبون المواساة والقرضة، وكان في الحصن المحروس بالله بقية من الطعام من أيام مولانا الحسن ومولانا الحسين (رحمة الله عليهما)، فأعطى أهل البيوتات القديمة وأهل الحاجات الماسة وأقرض، وكان حول هذه المدافن ما لا يحصى من الدواب والجمال مع الرجال والنسوان حتى كمل ذلك الطعام[181/ب] وأقرض من حضر من ثلاء، ومن حيث يوجد الطعام من سائر البلاد، فاستقامت الرعايا، ورحمهم الله سبحانه وتعالى بقدومه عليهم، وعمرت الأسواق والأماكن وأكل الضعيف مع القوي، والنفقات تزداد فيهم، وفي سائر الطبقات ولا يكاد يمر أحد في شوارع المدينة وما قرب من مساكنه (عليه السلام) لكثرة الضعفاء وتراصفهم، وقد جعل (عليه السلام) للنساء جانباً، وللرجال كذلك، ولكل طائفة أمناء وأعواناً يفرقون فيهم العشاء والغداء، فيجعل للنساء وقتين في النهار ويأمر بخروجهن عن المحطة إلى كهوف مبتعدة، وقل ليل لا يخرج بنفسه الكريمة يتحمل كثيراً من الطعام، ويخص به من يرى عليه الضعف الشديد أو الحياء لدخوله فيما لا يعتاده، ووجد كثيرون كذلك، وقد يغير صفة ملبوسه الطاهر فيكون في جملة أعوانه.

كما أخبرني به من اطلع عليه، فكان كذلك حتى أنه وصل أول الثمار في أول عام خمس وستين وألف [1654م] وكانت الثمار مضطربة من النقص إلى الانقطاع في غالب جهة البلاد، إلا بطن اليمن الأسفل، فإن الله سبحانه حفظ ثمارهم وبارك فيها، وقد ارتفعت الأسعار في أيام الصريم حتى فرج الله سبحانه وتعالى.
نعم! وفي شهر رمضان الكريم ازدادت الحاجة إلى النفقات فازداد الإمام تفقداً لهم، وتحنناً عليهم، ولما كان عيد الإفطار، وصله أهل العوايد للكسوة مع من تقدم من الضعفاء، فأخبرني من يلازم خدمة مخروج البزان الذي أخرجه من وصوله إلى يوم العيد مائة حمل بز من المخزان من غير الحوالات إلى صنعاء وشهارة المحروسة بالله، والسودة والهجر مما أظن أنها تبلغ مثل ذلك كذلك.

[وصول العالم أحمد بن سعادات إلى الإمام قادماً من الهند]
وفي هذا الشهر وصل السيد العالم الكامل أحمد بن سعادات الحسين المتقدم ذكره بالوصول إلى الإمام (عليه السلام) عام تسع وخمسين وألف [1649م] وأخبر أنه سار من عند ملك الهند إلى ملك الروم، وأخبر عن صاحب الروم بانتثار نظام ملكه وخراب جوانبه مع الجور المخالف لعادتهم، وإن كان لهم صفة لازمة [……………] .
ثم لما وصل إلى الإمام عليه السلام عظَّمه كثيراً وأعطاه كذلك، ثم سار إلى الهند، ويروى عن هذا السيد المذكور الكمال ومعرفة لأمور الناس لا سيما ملوكهم، ولا يصف الواصف ما ظهر على ألسنة الناس ثنائية على الإمام عليه السلام وعلى بلاده فإنها معمورة بالعدل مشحونة بأهل الفضل[182/أ] وهي كذلك وفوق ذلك، والحمد لله كثيراً.

ومما سمعت في عام اثنين وخمسين وألف [1642م] في منى المحروسة بالله وقد ارتفعت جبلاً أعلى مسجد الحيف إلى جهة المغرب لإعادة الاعتبار في الجمع العظيم، وما هنالك من الآيات، وعندي خادم بيده أدواة ماء، فتوضأت للظهر، ووجدت صخرة لها ظل، وكان ذلك أول وقت الزوال، فإذا عندها أربعة من أجناس الأمم يتكلفون النطق بالعربية، فسألتهم قال أحدهم: إنه بصري، وكأنه رومي ساكن في البصرة، والآخر فيما أحسب جزائري، والآخر تكروري، وآخر حبشي، فسمعتهم يتحدثون، وقد سأل كل واحد منهم الآخر فكل يصف جوراً في بلادهم بما لا أقدر أضبط تفصيله، فقال الحبشي: لا أعرف في الأرض مثل بلد الشريف صاحب اليمن، فإني سرت فيها شهرين كاملين لا أسمع لهم حديثاً إلا بالشرع الشريف أعزه الله تعالى، والرجوع إليه، فكلهم قال ونحن نسمع كذلك وأثنوا على اليمن كثيراً وفريضة العدل والعمل بالشريعة الغراء لا كلام في حسنة عقلاء، وإنما أردت أن العدل والإنصاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثني عليها من لا يعرفها والله الموفق، ونسأله نشر دينه الشريف، ومعالمه المصونة عن التحريف، إنه هو الخبير اللطيف.

وفي شهر شعبان سنة أربع وخمسين وألف [1949م]، وصل إلى الإمام الشيخ الفاضل العالم الكامل، السايح في الأقطار المتطلع بفنون العلم الكبار، أحمد بن أحمد اللساني القيرواني المالكي وقد عاد من بلاد الهند، وكان قد مضى العام الذي قبله في اليمن، وكان هذا الشيخ دأبه السياحة في الأقطار، ويحمل من كتبه القليل، ويستعير في كل قطر ويشتري قدر حاجته، فإذا سار إلى قطر آخر باعها، وله أخبار في ذلك حسنة.
قال القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن صالح بن محمد بن أبي الرجال (أطال الله بقاه) في صفة هذا الشيخ ما سيأتي إن شاء الله في الفصل الآتي قريباً الذي يتضمن عبراً وآيات ما سنراه إن شاء الله.

[فضائل وكرامات الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
فصل يتضمن فضائل وكرامات، وعبر وآيات مما يتعلق بأيام إمامنا صلوات الله عليه من ذلك ما أخبرني به القاضي العلامة شمس الدين وخلف السلف الراشدين، أحمد بن صالح بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال (أطال الله بعمره) مكاتبة بما هذا لفظه بعد حذف طرة الكتاب: وكتاب مولاي جعلت فداه، وصل وأنا في أثناء الطريق[182/ب] متوجهاً للقاء الوالد وكان لذلك الكتاب أعظم موقع ولما اشتمل عليه من الإحسان أنسب مقام لا أخلى الله عنكم، وجزاكم الله خيراً، واستطلعتم من الداعي لكم خيراً عن شيخه الشيخ السايح العالم النحرير أحمد بن أحمد اللساني القيرواني المالكي، ومتى كان دخوله اليمن ونبذة من صفاته، فالمذكور أبقاكم الله أعجوبة العجائب ولسانه من أغرب اللسان والغرائب، فإنه أسير في الآفاق من مثل شعراً:
لا يستقر بأرض أو يسير إلى .... أخرى بشخص قريب شخصه ناء
يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو .... ماً بالعذيب ويوماً بالخليصاء
وتارة بنينوى سلعاً وآونة .... شعب الحزون وحيناً قصر تيماء

فهو أشبه بالسايح الهروي المشهور وأصل اجتماعنا به أني حججت في عام ثلاث وخمسين وألف [1643م] مدة إمامنا المؤيد بالله سلام الله عليه فرأيته لمحة بالقرب من عرفات وهو يمعن النظر في فعجبت لإشخاصة كثيراً، وهو مع ذلك كالمبتسم إليً فقلت في نفسي: أظن هذا الرجل يحييني لما رأيت من بشره، ثم قفلنا فكان في شهر شعبان من سنة أربع وخمسين وألف [1644م] وبلغني قدوم رجل متفقة إلى صنعاء فاجتمعنا به فسألني ما اسمي واسم أبي وقبيلتي؟ ثم سألته عن ذلك! فأخبرني أنه من أولاد أبان بن عثمان بن عفان، ثم قرأنا شفاء القاضي عياض بإملائي وهو يسمع وشهدنا عنده من الأعيان كالقاضي عبد الرحمن الحيمي، وكان يقول لي: إنه قرأ الشفاء على أربعة كلهم شرحوه، وكان يتكلم من حفظه بأقوال العلماء ويجاري المجارة الحسنة وإذا أعوزته المسألة استمهل ويكون في المجلس الثاني ويملي إملاءً عظيماً منسوباً إلى أمهات، ومع ذلك لا نرى له كتاباً في الحضرة على العهود.
فلما نزل إلى تعز العدنية غضب على والي خزانه الغسانيين، وقال له: أمد الطلبة بالكتب، وأما أنا فإن افتقرت إلى كتاب لم احتج إلى طلبك بل استمده من محال آخر، أفهم إنه يستمده من مقام نشأته، وهو مصر، وبلغني هذا عنه ولم أسمعه.
وكان في مقام الإملاء يكشف الفراس، وينظر كثيراً ثم يقطب وجهه لا يعرف وجه ذلك، فمكث عندنا شهر رمضان، وحضرت صنعاء وهو فيها.
وارتحل في شوال إلى عدن ولبث بها حتى حضرها سيدي صفي الإسلام أحمد بن الحسن (حفظه الله)، وهو هنالك.

ثم دخل الهند، وأناله سلطان الهند مالاً فمنع كما بلغنا لأنه صحبه بعض الطلبة، ويقال إنه قبض منه سبحة من جوهر ومصحفاً وعبداً كلها ثمينة، ثم رحل بغداد واستقر بها أياما ، فطالبه الباشا[183/أ] هنالك أن يعلمه الكيمياء فاستعفاه فلم يعفه فخرج منها خائفاً يترقب، وترك ما ناله في رحلته من كتب وغيرها، فأخذها الباشا، ثم جال على عادته إلى سنة أربع وستين وألف [1653م] وقدم إلى حضرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى بلد السودة وقد اسود لونه، وابيض شعره، فاتفق بالإمام (عليه السلام)، وأعطى الإمام قصيدة رائعة فيها وصف حاله، وأنه أضناه السفر، وأوهنه دوار برأسه فأعطاه الإمام (أيده الله) عشرة قروش من الحضرة ، وقال له: اخرج حتى نطلبك فخرج والإمام لا يعرفه، مع أنه مرتسم في ذهن المولى حماه الله من لساني، فأتى إلى الفقيه العلامة علي بن مرجان الشافعي شيخي في (تفسير الديبع) والعلاقة التي عرفت علي بن مرجان بخلطتي بالشيخ فقال لي: الشيخ أحمد هنا مريض مهيض، وأنا إذ ذاك منقطع بمحلي من عارض قد بلغكم، وقد تفضل الله بزواله وهو إسهال أظنه صفراوياً فوعدني الشيخ بالوصول إلي، وقلت: أنا أصل إليه أنه [يشق لي] للضعف وبعد محله، فإنه في أقصى المدينة، وأنا عند الإمام (عليه السلام) في ساحته فقال: لعلي بن مرجان لا ينزل فلان إلى سآتيه إن شاء الله، وأصحبه إلى الإمام (حفظه الله)، فأخبرت الإمام بوصوله، وقال: نعم قدم إلينا رجل أعطانا قصيدة، وقيل لنا إنه من أهل العلم، ولعله هو.

74 / 116
ع
En
A+
A-