ولما قدم الإمام (عليه السلام) إلى قاع شبام، وقد تلقاه الأمير الناصر أيده الله بجميع عسكره وأهل بلاده وكانوا كثرة، وكان قد وصل إلى الإمام إلى عمران أولاده الكرام وسادة العترة الأعلام مولانا عز الإسلام والمسلمين وفاروق العترة الهادين[178/أ] محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوه الصفي سيف الإسلام أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وصنوهما السيد الجليل الكامل شرف الدين الحسين بن الحسن بن أمير المؤمنين، ومن أولادهم النجباء الأبرار يحيى بن محمد ، وإسماعيل بن محمد بن الحسن ، ومحمد بن أحمد بن الحسن، ومع الإمام (عليه السلام) أيضاً في طريقه ولده محمد بن أمير المؤمنين، ومولانا عبد الله بن أمير المؤمنين المنصور بالله، ومن ولد الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) السيد الفاضل أحمد بن يحيى بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، مع غيرهم من العلماء والرؤساء، وكان يوماً حميداً ووقتاً سعيداً، وكان معهم من العسكر المنصور نحو خمسة عشر ألفاً وألف من الخيل مع رؤساء همدان وغيرهم.
أخبرني السيد الفاضل محمد بن علي بن محمد بن عشيش الحسني الحوثي أن أولهم وصل شبام وآخرهم في وادي تعود مقابلاً لثلاء، وقد أعد أمير المؤمنين (أيده الله) الضيافة التي لا يقدر عليها غيره، وأعد البيوت والمضارب واستعار أيضاً من الإمام (عليه السلام) مضاربه وخياماً كان أرسلها من عمران فكانوا في مدينة شبام والعارضة ثم كوكبان، ولكل من آل الإمام (عليه السلام) بيت مستقل، والضيافة تصل إليه، ولمن معه كاملة في هذه المواضع ولكل من كبار أصحابهم كذلك هذه حضوضات لما ذكرناه.
وأخبرني الصنو السيد الكامل عبد الله بن أمير المؤمنين مكاتبة وكذا غيره من الأصحاب أن الذي احتاجه الأمير ستة عشر سماطاً كل سماط بأكثر من ثمانمائة حرف من غير الحضوضات المتقدمة والتنقلات المفردة، وكان من لم يعرف الأمير قبلها لا يدري أين ينتهي للثناء عليه، ثم قدم الخيول المحلية المنتخبة مما غالب حليتها أن لا يشبه بعضها بعضاً، فكان فيما أخبرني من ذكرناه إلى ثلاثة عشر رأساً ومعها الكسوة والدراهم لخواص الخدم والعطاء على أنواعه لأهل العوائد وغيرهم وأهل المسكنة والضعفاء كما تقدم يسيرون بمسير الإمام (عليه السلام)، ويقيمون بإقامته وهو يتفقدهم بنفسه الشريفة ويخص الذين لا يقدرون على الزحام بحصتهم من يده في غالب الأوقات.
وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا[178/ب] عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله) رأى تزاحم الناس، وربما تغلبهم الكثرة على التناوب في القوت، فجعل سماطاً عظيماً يشبه ما تقدم من أسمطة الأمير (أيده الله)، وجعله لمن لا يقدر على الدخول لضعفه أو لكمال مروته بما يكفيه ومن كان معه.
وقد وصل أهل بلاد كوكبان أيضاً من أهل لاعة وجبل تيس عيونهم لزيارة الإمام (عليه السلام)، فجعل لهم الأمير مواضع في بيوته الشريفة وخصهم بالضيافات أيضاً، وجلس لهم الإمام (عليه السلام) ووصله في يوم الأحد من البز والنذور والمصارفات ما أخبرني بعض الخواص وقد فصله، فقال: إن النقود فوق الألف من القروش والدراهم، ومن البقر ما يدنو من ثلاثمائة، ومن الغنم ألوف، ومن البز الكثير، وهو (عليه السلام) كما قال الشاعر:
لا يعرف الدرهم المنقوش صرتنا .... لكن يمر عليها وهو منطلق
وكما قيل في بعض سلفه:
كأن للمال في كفيه أجنحة .... فإن تقع منه شيء فيهما تطر
ثم إنه (عليه السلام) أمر أن يكتب له أسماء كبار الأشراف في كوكبان، ثم من بعدهم في طبقاتهم، ثم الشرايف من الكبراء، ثم من بعدهم كذلك وأمر لهم الكسوة العظيمة عموماً لكل بما يليق به، وأعطاهم كذلك، وقرر لهم مقررات وتفقد أهل البيوت القديمة، وقد رأى (عليه السلام) من نظم هذا الأمير معالم دينه ودنياه ما راقه كثيراً، وازداد عنده قدره وانتشر في الآفاق ذكره، فإن هذا الأمير (أيده الله تعالى) من صغره معروف بمحبة القرآن، وملازمة درسه، وكان في أيام جده الأمير علي بن شمس الدين ووالده الأمير عبد الرب حليف القرآن والتقوى، وكانوا في أيامهم في تعب شديد ومحن كثيرة بمخالفة آبائه الحق وأهله.
ولما صار إليه الأمر قوم اعوجاج كوكبان، فكان يجمعهم كل غداة وعشية على القرآن والمذاكرة في العلم وتقريب أهلهما، فاستقام له ذلك، واستمر وصار الآن في كوكبان عيون من الفضلاء والسادة النجباء وسمعت غيره مرة من مولانا المؤيد بالله (عليه السلام) يذكر من ذلك تفصيلات كثيرة، جامعة لمحامد الجلال وشرايف الكمال ويحمد الله فيما بين ذلك يدعو للأمير المذكور.
نعم! وكان مولانا الإمام (عليه السلام) أكثر اطلاعاً على شرايف خلال الأمير المذكور لوصوله إلى حصنه هذه المرة[179/أ] ولمخالطته لهم الكرة بعد الكرة، وقد رأيت أنا هذا الأمير أيده الله، لو يبلغ به الحديث كل مبلغ لم يمنعه عن ملازمة ذكر الله، فلا يكاد يفتر لسانه عنه، وهو أهل لذلك، أحسن الله له الجزاء، وأمده من مثوبة بأوفر الأجر، وبعد عشرة أيام خرج الإمام (عليه السلام) إلى مدينة ثلاء، وكان فيما أحسب لم يعرفها قبلها، فزار السيد الفاضل الطاهر عز الدين محمد بن الهادي بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن رسول الله، ومن في تلك المواضع من أهل الفضل، وبات بها ليلة، وطلع الحصن المحروس بالله، وطافه وفي كلها يعطي الأجناد أرزاقهم، وساير المسلمين على طبقاتهم، وأنقذ الله به كثيراً من الضعفاء كما ستراه إن شاء الله تعالى في الفصل الذي وعدنا به، ثم خرج من ثلاء يوم السبت لعله [ ] فما شعر به أهل صنعاء إلا وهو في بابها، ودخل القصر في دون عشرة من الفرسان، وحصل مع الناس روعة عظيمة، فإنه كان يبلغهم أن الإمام (عليه السلام) قد عاد إلى ظفار من طريق ثلاء، وكان قد فسح لساداتنا الكرام إلى صنعاء، ولا علم للعامة بما أعدوا أيدهم الله من الضيافة وعرفوا من سر الإمام (عليه السلام) ما لا يعرفه أحد من الناس لا خاص ولا عام، وكان الإمام (عليه السلام) أراد أن يسلك إلى ضوران المحروس من طريق حضور بني شهاب للتخفيف عن أهل صنعاء، وأهل المروات فيما بلغني، فلم تطب نفوس أولاده الكرام بعدم زيارته أرحامه وضيافته في مواضعهم من صنعاء.
[وصول الإمام المتوكل على الله إلى صنعاء]
نعم! فلما سمع الناس بأن الإمام (عليه السلام) وصل صنعاء ماجت المدينة بمن فيها، حتى المخدرات شوقاً إلى رؤية طلعته وتيمناً بوصول ركابه فأقبل الناس إلى القصر يزدحمون كازدحام الهيم على حياضها، والجدايير على مائها، فلولا أنه أغلق باب القصر لهلك كثير من الضعفاء من شدة الزحام وقد حصل في بعضهم ضرر كبير أيضاً.
ثم فتحت الأبواب بعد ذلك ووفد الناس على طبقاتهم كل واحد وقدرته، وقد أخذ مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله) في تحصيل الضيافة والمساكن للإمام (عليه السلام) ولخاصته.
وكان للإمام (عليه السلام) عند مولانا علي منازل خاصة وبعض مملوكات ومواضع لأصحابه، ثم افتتح الضيافة الحافلة مولانا علي على نحو ما تقدم في كوكبان، ثم مولانا[179/ب] عز الإسلام محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين (أيده الله)، ثم مولانا أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، ثم مولانا الحسين بن أمير المؤمنين، ثم مولانا عز الدين محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين، وفي كل هذه الضيافات الحافلة، وأهل المسكنة كما سيأتي معه على نحو ما تقدم.
ومع هذه الضيافات السنية، والمجالس البهية، وتقادم الخيل المنتخبة، بما عليها من الحلي الفاخرة له (عليه السلام) ولولده عز الإسلام محمد بن أمير المؤمنين.
ثم افتتح الضيافات العيون من السادة والفقهاء، وكبار أهل صنعاء ثم خرج (عليه السلام) إلى الروضة المعمورة، وقد أعدوا له داراً عظيمة، وما فيها من الأعناب، كان إذ ذاك أول الخريف وتردد (عليه السلام) إلى صنعاء.
[خروج الإمام إلى حصن الدامغ]
ولما كان إلى قبيل الفجر يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر شعبان سنة أربع وستين وألف [يوليو1653م] سار إلى معمور حصن الدامغ، ومدينة الحصين عمرهما الله بالتقوى.
ولم يشعر بمسيره من صنعاء إلا مولانا علي بن أمير المؤمنين، والخواص ممن عنده في القصر، وبعث مولانا علي بن أمير المؤمنين فارساً إلى مولانا عز الإسلام وصنوه (حفظهما الله) إلى الروضة، ثم إلى مولانا محمد بن الحسين، ومولانا محمد بن أحمد، فركبوا وساروا في أثره مغذين كل على قدرته، فأدركوه في بعض بلاد الروس من سنحان.
فلما رآهم استقام لهم ونزل وتحدث معهم قليلاً وودعوه وعادوا وقد عرفهم الوجه في اهتمامه وكتم أمره ووصل إلى الحصين آخر ذلك النهار، وكان (عليه السلام) أول من ظهر لأهل الدامغ والحصين.
نعم! والوجه في مسيره (عليه السلام) على هذه الصفة وما تقدم الرفق بأهل الطرقات والتخفيف عليهم، وليقتدي به من يلحق به من الأعيان وكبار الجند مع أنه (عليه السلام) جعل في مواضع الطرقات من يمنع عن الضيافة، وجعل ذلك من بيت المال ومما قيل في هذه الحركة الميمونة ……
[الجدب في بعض بلاد اليمن]
[180/أ]ذكر ما وقع من الجدب، كان ابتداء نقص بعض الثمار من عام تسع وخمسين وألف [1649م] وأكبرها في بلاد القبلة بلاد صعدة والشرفين وشهارة ونواحيهما، وصبيا وجهاتها، وفي عام ستين وألف ظهرت الجراد الكثيرة، وكانت في إحدى وستين [1650م] وفي اثنين وستين وألف [1651م] أكثر أيضاً.
ولقد رأينا وسمعنا من أهل الحصون والجبال المرتفعة في شعبان عام اثنين وستين وألف أن الأرض من الجراد كالركام، في السماء كالغمام، ولا يعرف أحد من أين ابتداؤها، فإنها تطلع من جميع الجهات كالدخان العظيم ومع ذلك لم تأكل شيئاً من الثمرة في الموضع الواحد، وقد تأكل الذي يليه حتى لا تترك منه شيئاً، وتأكل ثمرة وتترك أخرى، فإذا أكلت ثمرة البر والشعير تركت الذرة، وإذا أكلت نوعاً من الذرة كالغربة تركت الأنواع الأخرى منها، وفي مواضع تأكل جميع الثمار، وكان في البلاد مع الناس كثرة طعام فالأسعار لأجل ذلك متوسطة والقلوب مطمئنة، والجراد لم تزل تتزايد.
ولما كان عام ثلاث وستين وألف [1652م] انتشر الجذام وعظم في بلاد صعدة ونواحي قحطان وفي عام أربع وستين وألف [1653م] ارتفعت الأسعار في السهل والجبل وكان فيها شدائد هائلة.
مما أخبرني من يتردد إلى المخاء أنه اجتمع أهل الأسباب من تهامة إلى الحجاز وبلاد صعدة واليمن الأسفل وجهات عدن، وذكروا السعر واستوائه، وقد تشاكوا الغلاء الواقع في المخاء، وأن الطعام صار كالفلفل يكاد أن يباع بالميزان، وأخبر كل رجل عن جهته باستواء الأسعار حتى أن بعض أهل البيع والشراء ترك البيع والشراء في الطعام لعدم الفائدة وإنما كان الناس يرابحون باليسير من سوق إلى سوق.
[وصول قوم من بوادي البصرة إلى اليمن]
وفيها خرج قوم من بوادي البصرة يسمون [ ] وعليهم شارة جميلة وكثرة عدد في كثير من الخيل والإبل وغيرها، وعليهم رؤساء، وتقام لهم الأسواق في البيع والشراء بحيث أنهم يمنعون نفوسهم ممن تعرض لهم من أهل المشرق وأن قوماً أرادوا منعهم من رعي تلك الأطراف فأسروهم.
ثم منوا عليهم فهابهم أهل المشرق وبعد ذلك كثيراً وانقطع السفر بالملح من مارب نحو أربعة أشهر وبلغ القدح الصنعاني من الملح عشرة حروف ثم عادوا إلى بلادهم.
[غزو بلاد العصيمات]
ومن ذلك أن قوماً من بلاد العصيمات قطعوا السبيل وأخافوا طريق[180/ب] الفقمين فأمر الإمام (عليه السلام) وهو إذ ذاك في محروس أقر عسكراً لغزوهم مع النقيب المجاهد سرور بن عبد الله، فقتل منهم نفراً، وأخذ منهم أسراً، وأصيب النقيب المذكور بمزراق وعاد سالماً، ووضح للإمام (عليه السلام) أن الفاعل في قطع السبيل غيرهم فرد عليهم أموالهم، ودية قبيلتهم، واستوثق لأبناء السبيل من أهل الإدراك فيها، وأعطاهم المال، وتألف فيهم، ولقي الإمام (عليه السلام) شدائد من ذلك لما التاث به من أهل الحاجات في هذه السنين المذكورة كان في شهارة المحروسة بالله يصل العشاء بالغداء، وكثروا عليه، فهبط بهم بيت القابعي من أقر فكان كذلك وطلع ظفار، وكان كذلك يبلغ أهل المسكنة والضعف إلى الألوف وفي السودة كذلك، وكان يضرب لهم في بعضها المضارب الكبار رحمة لهم، وشفقة عليهم ويطلع مع ذلك على أقواتهم، وفي العيدين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال الفقيه الفاضل العالم محمد بن ناصر بن دغيش الغشمي: إنه حضر مع الإمام (عليه السلام) وهو في السودة في أيام عطاء المساكين الكسوة، هو على عادته يجعل للنساء مجلساً وباباً يخرجن منه بعد قبض كسوتهن.
قال: ولما حصل البز في منزل قد أعده لمن اجتمع في ذلك اليوم من النساء، وقد اجتمع منهن في ذلك اليوم ما يدنو من الألف، قال (عليه السلام) للأعوان: اذهبوا وأنا أعطيهن من يدي، وقد أمرهن بالستر مع أنه غالبهن.