نعم! ووجد أهل شعوب أيضاً أمارة للماء في موضع آخر، كما تقدم قريباً من ذلك وأوقف مولانا علي بن أمير المؤمنين (أيده الله) على ذلك فأمر من يحتفره كذلك، فوجدوا أعلاماً داربة تحت الأرض وطرقات للماء وكثر الماء حتى كان قريباً من النهر الذي كان لمولانا عز الإسلام (أيده الله) وسقى كثيراً من أعمال الروضة. ثم ما وراءها، ثم مولانا أحمد بن الحسن (أيده الله تعالى) وجد كذلك، وخرج نهر عظيم دون الأولين، وأساحه لكثير من الضعفاء فانتفع به كثيرون.
ثم إن مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين وجد نهراً كذلك، دون ما تقدم فكانت البلاد التي حول هذه الأنهار أخصب بلاد كثرت خيراتها، وحييت جهاتها
يحي بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم لبقاع الأرض أمطار
وذكرنا هذه المذكورة والزيادة في الماء إلى الآن فيها، وفي كل عام يزداد وقد صارت هذه الأنهار المذكورة ستة أنهار في جانب شعوب.
نعم. ولما وصل مولانا أمير المؤمنين إلى محروس صنعاء في عام إحدى وسبعين وألف [1660م] كما سيأتي إن شاء الله وجد بعضهم كذلك فاحتفر عن أمر الإمام (عليه السلام) نهراً عظيماً دون ما تقدم.
[173/ب]وليس يعلم ما يأتي الزمان به ... سوى عليم قديم الذات مقتدر
[فتح بلاد الشعيب]
ذكر فتح بلاد الشعيب من جهات يافع وكان عليهم أيام الترك أقماهم الله ضريبة يسيرة، وعليهم معها عسكر للخدمة، ولكبارهم جوامكهم أيضاً تصل إلى بلادهم، ولا يدخلها والٍ ويأتي بما عليهم من الضريبة كبارهم بوسايط.
ولما توفي مولانا الحسن (رحمه الله تعالى) وكان قد قرر لهم عليها وساقوها إليه سنين حصل الاشتغال عنهم، وعن غيرهم، فانقطعت مواصلتهم، فلما كان عام إحدى وستين وألف [1650م] طلبهم مولانا العزي (أيده الله) المعتاد فتبعدوا وتغلبوا فأرسل عليهم عسكراً كثيراً، بعد الإعذار إليهم مراراً وكان العسكر فوق الألفين، فوطأهم ذلك العسكر، وقد أحربوا، وقتل منهم العسكر [ ] وأسروا [ ] وقتل من العسكر أيضاً [ ] فأعطلوا الطاعة ورهنوا وعرضوا المعتاد فلم يقبل منهم إلا الواجبات على تمامها، والائتمام بالإمام والتحكم للأحكام الشرعية على التمام، وكان أهل الجهات المذكورة يستصرخون بيافع والمشرق فأيأسوهم وقالوا لا تفتحوا علينا ما نحن منه خائفون، وعنه غافلون، واستقاموا على ذلك، واستعمل عليهم وعادت العساكر الإمامية.
ولما كان شهر [ ] من عام [ ] اختلفوا فيما بينهم، وغلب عليهم رأي الجاهل فرجعوا إلى الحافرة وابتغوا الأولى بالآخرة، فأرسل عليهم مولانا العزي عسكراً كذلك، وأمر السيد الرئيس الأعلم جمال الدين علي بن الهادي بن الحسن بن محمد بن علي المحرابي الهادي، وهو إذ ذاك في تعز العدنية ، وإليه جندها، وكثير من أعمال اليمن الأسفل وخرج من تعز [ ] .
ولما وصل إليهم راسلهم أسفاراً، ودعاهم إلى الطاعة مراراً، فازدادوا نفوراً واستكباراً، فوجه عليهم العسكر الإمامية، فطاروا على وجوههم حتى انتهى أكثرهم إلى بلاد يافع، فاستصرخوهم فأجابوهم بما تقدم، وعاودهم السيد جمال الدين المراسلة وآمنهم، فطمعوا أنه يقيم في بلادهم ليال، ثم إنه لا يجد للعسكر كفاية، فيعود منها ويتركهم فلما طال ذلك تقدم إلى [ ] وأمر بهدم دورهم ومعاقلهم، وتركهم عبرة لغيرهم، وأقام كذلك حتى وصلوا إلى مولانا عز الدين (أيده الله) باذلين الطاعة، منقادين إلى الجماعة، فعفا عنهم وأسقط المطالبة لهم بشيء من الحقوق حتى تعمر بلادهم، وتعود إلى عادتها من الدخول في الطاعة الإمامية والحمد لله رب العالمين.
فصل: ولنعد إلى السيرة [174/أ] النافعة والدعوة الجامعة، وما كان بعد وصول مولانا أحمد بن أمير المؤمنين (أيده الله)، فإنه أقام مع الإمام (عليه السلام) كما سبق من إعظامه وإكرامه، وتشريف مقامه إلى [ ] وعاد إلى روض صنعاء، وتردد في بيوته فيها، وزار أرحامه وقد تلقاه مولانا عز الإسلام، وصنوه الصفي (حماهما الله تعالى)، ومولانا جمال الدين علي بن أمير المؤمنين إلى قرية جدر من أعمال بني الحارث وقدموا الخيل النجيبة والحلي الفاخرة، والضيافات المتكاثرة، وفيها أمر بتمام مرافق جامعه الشهير في الروضة، وتفقد أوقافه وأضاف إليها، وابتنى عليه سوراً كبيراً.
[أحداث بلاد ظفار داود]
ولما خرج الإمام (عليه السلام) من محروس شهارة إلى السودة وأقام فيها [ ] ولا زالت بعوثه وسراياه شرقاً وغرباً وتنفيذ الأحكام، وحفظ صلاح العام، منها بلاد ظفار داود المعروف فإنها كثرت منهم المفاسد، والمظالم فعظمت فيهم الخصومة بقتل النفوس، وانتهاب الأموال، وكان الإمام (عليه السلام) راسلهم كما تقدم في ذكر طلوع مولانا الحسين (أيده الله تعالى) إلى جهاتهم، فلم تنجح فيهم، [وكانت قد عظمت] الخصومة بين الشيخ صالح بن مطهر بن عبد الله بن وازع، ومن تقرب إليه من أفخاذ عيال أسد، وبينه وبين عيال أسد أيضاً والمرازيح والمذاعير، وكانوا اجتمعوا على حربه فحاول الإمام (عليه السلام) الصلح بينهم فلم تتفق له، وقد استدعاه الإمام (عليه السلام) والمشايخ من خصمائه، ورفق بهم، وأحسن إليهم وتألفهم.
ثم إن الشيخ المذكور قل صبره على المقام في الحضرة الشريفة مع أنه في غاية الإكرام وكان منزله منزلة كرام الضيوف، فهرب وعاد إلى التوحش، فتركه الإمام (عليه السلام) حتى ظهر منه خيانة من قبض ولاة أصحابه من ثوابة بغير ولاية، فأرسل الإمام (عليه السلام) مولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين (أيده الله تعالى) بعسكره إلى خمر من جانب مرهبة، وكان مولانا أحمد بن الحسن (أطال الله بقاه)، متجهزاً للحج كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك في أواخر شهر شوال عام اثنين وستين وألف [أكتوبر 1651م] فأمره الإمام (عليه السلام) أن يوجه من قبله مدداً إلى مولانا محمد بن أحمد وهو حينئذ في معمور الغراس، وأعمال ذي مرمر فوجه السيد الجليل الأجل صلاح بن محمد السراجي في نحو أربعمائة، وجاءوا من طريق محصم وأسفال بني زهير ثم خرجوا الحول من أعمال ثوابة من جهة العدن، ومولانا محمد ومن معه قصدوا المراحيب مواضع المذكورين فتحصن الأشرار في معاقل لهم ودار الخطاب[174/ب].
ووصل الشيخ المذكور إلى السيد صلاح ليستجير به، ولرجاء أن يحصل الاختلاف بين العسكرين، فيذهب في الوسط، فلم يقع على غرضه، وهرب إلى جهات المشرق مرة أخرى، فأخذ جنود الحق ما في معاقله من الحبوب الكثيرة.
ثم أمر الإمام (عليه السلام) بهدمهم، فصارت نكالاً، ولغيرها أمثالاً، وكانت فيما مضى لا يتصل بها وال محقاً كان أو مبطلاً، وأقام المذكور في بلاد سفيان جاراً لا يقر به قرار، ولا يأوي إلى حي، وإنما يرعى هو وأصحابه بأنعامهم وفي كل ليلة يمسون بها في جهة.
ثم إنه طلب الأمان فأمنه الإمام (عليه السلام) أخرى بشرط وصوله إلى مقامه الشريف، فوصل إليه (عليه السلام) وبقي أياماً، وبدى له الهروب كما تقدم لألفه البوادي ونفوره عن الحضر ولم يكن منه بعدها خلاف، ولا غيار في تلك الأطراف.
[دخول الإمام ظفار]
ولما كان في شهر جمادى الأولى عام ثلاثة وستين وألف [إبريل 1652م] رأى الإمام (عليه السلام) التقدم للطيافة إلى المشهد المنصوري بظفار.
مسير الإمام (عليه السلام) إلى ظفار المحروس وكان حي مولانا الإمام المؤيد بالله (عليه السلام) أراد عمارة الحجر، ورجوع أهل ظفار إلى بلدهم كما سبق من والده الإمام المنصور بالله (عليه السلام)، فلم يتأت له ذلك وحصلت موانع، وكان الإمام (عليه السلام) في عام تسع وخمسين وألف [1649م] قد أمر الفقيه الفاضل العالم علم الدين قاسم بن علي الخياري، وهو رجل من أهل التقوى والعلم النافع، يعد في الصالحين بالمقام في المشهد المنصوري وأن يشرع في عمارة الحجر، وما أمكن من مرافق المشهد المقدس، فعاد إلى ظفار كثيرون من أهله وآنسوا بالمقام، واستمرت العمارة، وأتم الله لمولانا الإمام ذلك على سهولة، والحمد لله رب العالمين.
ولما وصل مولانا (عليه السلام) إلى ظفار تلقاه أهل المشارق جميعاً فقهاؤها وزعماؤها بالنذور الكثيرة، وتيمنوا بطلعته المنيرة، واغتنم الجميع منهم رؤيته، والتمس كل منهم دعوته، [وكانت قد] كثرت فيهم الفتن وتطاولت الإحن فيما بينهم وبعدوا عن الشريعة، وعن التحكم لها، وكان المطر في تلك الجهة قليلاً والوقت أول حزيران، فحصل مع قدومه (عليه السلام) مطر عظيم، امتلأت منه المناهل وعمت البركات، وكثرت الخيرات، وأخذ (عليه السلام) في تفقد المظالم التي بين القبائل عموماً وبين أهل كل بلد خصوصاً وأقام القضاة للفصل وكانت المفاسد والمنكرات من نحو ما سيجيء إن شاء الله في خبر ابن وازع، فأمرهم بالخروج عن المظالم، فكان الحال كما روي في أخبار إمام الأمة أمير المؤمنين الهادي إلى الحق (عليه السلام) وقدومه[175/أ] صعدة، وما أطفأ الله به من الفتن.
نعم! فقرر الأحكام ونصب الحكام، وأنفذها الخاص منهم والعام وأنس أهل المشارق إلى الشريعة الغراء بعد أن كانوا خائفين منها، وانتصف المظلوم وأمنت السبل، وكانت ثمرة الواديين ثوابة وهران كما صرمت وعرف (عليه السلام) حاجة العسكر المنصور إلى الجلب، وإقامة الأسواق وأهل المشرق لا عهد لهم بجلب العلف، ونحوه من المبيعات.
فسرح عسكراً كبيراً مع الفقيه محمد بن جميل والنقيب الصالح المجاهد سرور بن عبد الله إلى ثوابة وهران، فأقاموا هنالك ليلتين يتصل بهم عبيد الأودية، وحملوا العلف وغيره للبيع، وعادوا إلى الإمام (عليه السلام)، وقد سكنت فورة المشرق، وصلحوا وجلبوا إلى المحطة المنصورة بالله.
ووصل الأمراء من أهل الجوف كالأمير الفاضل صالح بن الحسين بن المطهر بن الشويع وغيره من الأشراف بالزكوات والنذور والهدايا، وأحسن إليهم الإمام كثيراً، ووصل بوصولهم ومن بعدهم أيضاً كبار أهل الجوف لزيارة الإمام ولفصل خصومات، وعادوا بعد ذلك، ولا زالوا يعاهدون كذلك.
[وصول الشيخ وازع إلى الإمام]
نعم ! وأما الشيخ صالح بن مطهر بن وازع فقد تقدم أن الإمام (عليه السلام) أمر بغزوه، وإخراب معاقله، وأنه وصل إلى الإمام (عليه السلام) إلى معمور أقر، ثم هرب فلما وصل الإمام (عليه السلام) إلى ظفار وصل مع عموم الناس، ثم خاف وهرب أيضاً، فأرسل إليه الإمام عليه السلام الشيخ يحيى بن علي الخياري بما معناه إن كان هربك من الحق فلا ينجيك منه أحد، وإن كنت تخاف غيلة فلا بأس عليك، ولك الأمان، وشاور نفسك. فوصل تائباً نازعاً، ووقف في باب الإمام (عليه السلام) حسيباً للشرع الشريف (أعزه الله تعالى)، ولتحكمٍ له، واستقرت الأصلاح على تسليم ديات في القتلى.
وكان الإمام (عليه السلام) يجمعهم في مجالس للمناظرة، فعرف بذلك الباغي من المقتولين والمبغي عليهم، وعرف أيضاً أن الباغي منهم إذا أخبره أنه هدر لم يستمر بينهم الصلاح فيما بعد، فأرجع البصر وشاور عيون من حضر، ثم قال (عليه السلام): إن جعل في الباغي أربعمائة حرف، وفي المبغي عليه ألفاً وتم له ذلك، واستقاموا عليه وكتبوا بينهم شروحاً في ذلك وأمرهم بالتسليم[175/ب] لكل وارث إلى يده وصلح الحال، ومات الشيخ صالح بن وازع بعدها، وقام مقامه صنوه الشيخ أحمد ثم مات، ثم الثالث وصل الإمام (عليه السلام) إلى محروس الدامغ تائباً منقاداً للشرع الشريف ظاهراً وباطناً، والحمد لله رب العالمين، والعمارة بحالها في الحجر وزيادة، وفي كثير من الأيام يباشر العمل بنفسه ويجهدها رغبة في مثوبة الله عز وجل بحياة تلك الجهات، وانقيادهم للشريعة المطهرة (أعزها الله).