ب- السياسة الخارجية
لم يقتصر مؤرخنا الجرموزي في سيرته على ذكر سياسة الإمام الداخلية فحسب- كما أشرنا آنفاً- بل اهتم بتتبع السياسة الخارجية ورصد معالمها، وما كانت عليه من نهج، وذلك من خلال ذكره- في سيرته- لتلك العلاقات التي أقامها الإمام المتوكل، مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، وبعض من الدول الأوربية.
لذا اختص العديد من صفحات السيرة ليضمنها تلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام وعدد من رؤساء تلك الأقطار.
ومما يورده الجرموزي في هذا الجانب ذكره لما شهدته علاقة الإمام بأشراف مكة من تطور كبير وملحوظ- وهي العلاقة التي كان أخوه الإمام المؤيد بالله محمد قد بدأها بعد خروج العثمانيين من اليمن- وأسس لها في عهده، وهو ما سنلمسه بوضوح من خلال تلك الرسائل التي وثَّقها-مؤرخنا- في سيرته التي تبودلت بين الجانبين.
فمثلاً يذكر الجرموزي أنه في سنة (1064هـ/1653م) قام الشريف زيد بن محسن بإرسال رسالة إلى الإمام يشرح له فيها تطورات الأحداث في بلده، وما كان من تبعات نتيجة خلافه مع ابن عمه الشريف عبدالعزيز بن إدريس ، يناشده فيها (إمداده بالمال ويستطلع رأيه... في معاملة ابن عمه) إلا أن الإمام-إلتزاماً منه بثوابت سياسة الدولة الخارجية- رأى ذلك شأناً داخلياً بين الأشراف في مكة فدعا إلى ضرورة الصلح بين الأطراف المتنازعة .

وفي ظل تنامي قوة الإمام كان أن ارتأى بسط نوع من النفوذ الإسمي على الحجاز تبعاً لما يذكره الجرموزي في سيرته، ففي عام (1068هـ/1657م) قام الإمام المتوكل بإرسال الفقيه الحسين بن يحيى النحوي إلى بلاد ينبع وما والاها من بلاد الحجاز (للتعليم والإرشاد) فرحب به أهل ينبع حيث (أقيمت الجمعة ودعوا الناس للإمام، ورفعوا مناره وأعلنوا شعاره) . على أن الشريف زيد بن محسن قد رأى أن تصرفاً كهذا يُعَدُّ تدخلاً في شؤنه الداخلية، هذا إلى جانب خشيته من العثمانيين -الذين كانوا يفرضون سيطرتهم آنذاك على مكة والحجاز- ومن بطشهم فـ (عظم عليه...أن يُتَّهَم من قبل السلطنة . وحسماً لتفاقم الأمر بين الطرفين، وتردي العلاقات بينهما، أمر الإمام بعودة الفقيه النحوي في سنة (1071هـ/1660م) إلى البلاد .
ولم تكن علاقة الإمام تنحصر بأشراف مكة والحجاز، بل إنها امتدت لتشمل الأحساء والقطيف -من جهات نجد- فكان أن وصل اليمن عام (1095هـ/1649م) الشريف عبدالقادر بن نعمة الله بن الحسين، على رأس وفد كبير، كسفير من حاكم الأحساء لتعميق أواصر العلاقة بينهما، والتي لم تقف عند حدود تبادل الرسائل والهدايا بين الطرفين وحسب، بل جاوزت ذلك إلى (...موالاة أهل تلك الأطراف بحسن الولاء والإجابة والإشادة بذكر الإمام في تلك الأقطار، والدخول في الطاعة...) .

أما بالنسبة لعلاقة الإمام بالحُكَّام اليعاربة (سلطنة عمان حالياً) فقد كانت على الضد من علاقته بالأشراف في مكة، حيث ظلت في تأرجح مستمر مداً وجزراً. ومثلت فترة ضم الإمام لحضرموت والشحر وظفار أكثر المراحل اشتداداً وتأزماً في هذه العلاقة، حيث وجد الإمام نفسه -بعد سيطرته على تلك المناطق- أمام قوة بحرية كبيرة- في يد الطرف الآخر تتحكم بخطوط سير السفن البحرية، مما حتم عليه أن يحمي منافذه البحرية التجارية على طول الساحل الممتد من حضرموت إلى الشحر.
ولعل ذلك يتضح عند ذكر مؤرخنا للهجوم الذي قامت به قوات اليعاربة على جعفر بن عبدالله الكثيري، الذي كان والياً على ظفار بحجة اعتداءاته على السفن التجارية في البحر، وقد تمت مراسلة القائد العسكري أحمد بن الحسن، أثناء تواجده في حضرموت حين أفاده (إن الله سبحانه وتعالى مكنّا من هذا الضال الضلول، وقد أخرجناه من البندر، والتصرف لكم فيه وفينا...) .
وأشار مؤرخنا-في سيرته- إلى واحدة من العلاقات المهمة والتي حرص الإمام على إبقائها وهي علاقته بالدولة العثمانية.
والعلاقة وإن كانت غير مباشرة بالسلطان العثماني، إلا أننا نلمسها بوضوح من خلال إستقرائنا للمخطوط، مثلَّها تعامله -أي الإمام- مع الدويلات التي كانت تخضع للسيطرة العثمانية. فهو مثلاً يذكر أن الإمام رفض مد الشريف زيد بن محسن بالمال والسلاح لحسم خلافه مع ابن عمه الشريف عبدالعزيز بن إدريس ، في عام (1064هـ/1653م) لأنه كان يرى أن تدخله سوف يثير عليه الدولة العثمانية التي كانت تبسط نفوذها على أراضي مكة والحجاز آنذاك.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه في وجود علاقة كهذه- علاقة الإمام بالدولة العثمانية- هو ما كان من رفض الإمام للتعاون مع درويش بن محمد، الذي قام بثورة على الوالي العثماني أحمد باشا في الحبشة .
ويبين مؤرخنا علامات ذلك الحرص، بشكل أكثر وضوحاً عند ذكره ما كان من تجاهل الإمام لمطالب وفد قدم من العراق، من مدينتي البصرة وبغداد عام (1074هـ/1663م)، يحمل شكوى ضد الوالي العثماني حسين باشا، لما يمارسه من ظلم ضد الأهالي هناك، وكان يطلب (...المعونة...على إستنقاذهم من أيدي الروم...) .
وتطرق مؤرخنا أيضاً إلى تلك العلاقات التي أقامها الإمام المتوكل على الله إسماعيل مع الدولة الصفوية (إيران حالياً) حيث ربطته علاقة ودٍ وصداقة قوية، يمكن الاستدلال عليها من خلال تلك الرسائل والهدايا المتبادلة بين الجانبين، والتي وثقها الجرموزي في سيرته.

ولقد شهد عهد الإمام المتوكل على الله تطوراً ملموساً، على مستوى العلاقات مع الدولة المغولية (الهند حالياً)، حيث تبودلت العديد من الرسائل بين الإمام والسلطان شاه جهان ثم من بعده ابنه السلطان محمد أوزنكريب .وسنرى أن الإمام حرص من خلال هذه الرسائل على إيضاح فضائل آل البيت على المسلمين ووجوب طاعتهم، كما شدد على ضرورة إقامة الشريعة الإسلامية، وهو ما يمكن أن نلمسه في إحدى رسائل السلطان محمد أوزنكريب إلى الإمام عام (1071هـ/1660م) يستأذنه فيها تطبيق أحكام الشريعة في بلاده، وكان أن رد عليه الإمام-كما ذكر مؤرخنا-بالموافقة على طلبه هذا بقوله: (...وجعلنا لكم ولاية عامة في جميع الأقطار التي تحت وطأتكم...وأذنّا لكم في جهاد المخالفين ومنابذة الظالمين، وإقامة الحدود على أهلها، وأخذ الحدود من أربابها...) . ونستشف من خلال هذه الرسالة، نوعية العلاقة القائمة بين الإمام وسلاطين الدولة المغولية، حيث كانوا يرون في الإمام مرجعيتهم الدينية-كإمام الأزهر حالياً- يرجعون إليه في العديد من أمورهم الدينية.
إلا أن ما زاد من توثيق الصلة بين الجانبين يرجع في نظرنا إلى عامل هام يتمثل في العلاقة التجارية التي كانت قائمة بين اليمن والدولة المغولية (الهند) حينذاك، ويتضح ذلك بشكل أكبر من وجود ذلك العديد الكبير من التجار البانيان في أكثر من موضع في اليمن، وهو ما سيتم الإشارة إليه عند تناولنا للأوضاع الإقتصادية.

وارتبط الإمام المتوكل على الله إسماعيل كذلك بعلاقة جيدة مع بلاد الحبشة -والتي كانت تضرب جذورها منذ القدم- بحكم علاقة الجوار بين البلدين. وقد قدم لنا الجرموزي صورةً واضحةً لعمق تلك العلاقة، من خلال توثيقه لرحلة الحبشة كاملة في سيرته، والتي قام بها الحيمي بناءاً على تكليف من الإمام لمقابلة إمبراطور الحبشة فاسيلاداس (ت 1078هـ/1667م).
وسنرى أنه في الوقت الذي شهدت فيه اليمن قيام علاقات بينها وبين بلدان من العالمين العربي والإسلامي؛ نجد أنها لم ترتبط بأية علاقات مع الدول الأوربية، بإستثناء بعض التبادل التجاري مع كل من هولندا وبريطانيا . ولم يذكر لنا الجرموزي تفاصيل تذكر وجود تبادل تجاري بين تلك الدولتين واليمن، عدا ذكره من أنه كان لهاتين الدولتين (...مواضع في المخاء معتادة...تجتمع إليهم بضائعهم وغالبها الجوخ وما غلا من الأمتعة...) .
كما رصد -مؤرخنا- بالتفصيل أعمال القرصنة التي كانت تمارسها سفن هاتين الدولتين، طمعاً منها في السيطرة على التجارة المارة في البحرين الأحمر والعربي، وأتبعها -أي الجرموزي- بذكر الإجراءات التي اتخذها الإمام لحماية بلاده إزاء مثل تلك الأعمال.

2- الأوضاع الإقتصادية
مما لا يختلف فيه اثنان أن الجانب الإقتصادي رديف أساسي للجانب السياسي لاكتمال بناء الدولة، ولعله ومن حسن الحظ أن الجرموزي لم يغفل الحالة الإقتصادية في البلاد وتسقط أخبار الأسعار ومواسم الحصاد، لهذا نجد أن السيرة قد حوت بين دفتيها مادةً غزيرةً عن هذا الجانب، وعن نواحي البلاد بشكل عام. والجرموزي في هذا المنحى شأنه شأن غيره من مؤرخي المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية.
واهتم مؤرخنا بشكل خاص برصد المتغيرات الإقتصادية التي حدثت إبان حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
وفيما يلي سنحاول إيضاح ما ذهب إليه مؤرخنا من خلال مجالات هامة وهي:
أ- المجال الزراعي.
ب- المجال التجاري.
جـ- النهضة العمرانية.
أ- المجال الزراعي
نجد أن الجرموزي عند ذكره -في سيرته- للمجال الزراعي قد رسم لنا صورةً حيةً عن الوضع الزراعي في اليمن خلال حكم الإمام المتوكل، واستوفى-إلى حد ما-جوانبها عرضاً وتفصيلاً، تؤكد أن اليمن قد اعتمد اعتماداً كلياً على انتاجه المحلي من الحبوب.
على أننا نعلم جميعاً أن المناطق شحيحة الأمطار، كثيراً ما تكون عرضة لحوادث أزمات غذائية -كالمجاعات- يصاحبها ارتفاع في أسعار الأغذية بجميع أنواعها، واليمن وهي إحدى الدول التي تتخذ من مياه الأمطار مصدرها الوحيد للزراعة، تتعرض بين فترة وأخرى لشحة في الأمطار، مما ينجم عنه الكثير من المشاكل في هذا الجانب.

ومما أورده الجرموزي -في هذا الخصوص- ذكره لما أصاب اليمن من نقص شديدٍ في المواد الغذائية، وبالذات الحبوب-وهي المصدر الرئيسي للغذاء- وذلك لشحة في الأمطار في العام (1064هـ/1653م) فيقول: (ارتفعت الأسعار في السهل والجبل، وكان فيهاشدائد هائلة.. اجتمع أهل الأسباب في تهامة إلى الحجاز، وبلاد صعدة، واليمن الأسفل، وجهات عدن، وذكروا السعر واستوائه... وأن الطعام صار كالفلفل يكاد أن يباع بالميزان...) حيث بلغ سعر (حمل الذرة خمسين حرفاً..) .
ولعله من نافلة القول أن نوضح ما لهذه الأزمات وما يصاحبها من تردٍ في أوضاع الأهالي، من أثر بالغ ينعكس سلباً على الوضع بصورة عامة، من معاناة الأهالي وعجزهم من توفير لقمة العيش الضرورية، وقد أصبحت حينها صعبة المنال؛ وما تولده هذه المعاناة من تذمر وسخط، مما يدفع الأهالي-في الغالب- إلى إعلان تمردهم على الدولة، والدخول في صراعات وخلافات في ما بينهم بحجة تامين لقمة العيش. الأمر الذي أوضحه مؤرخنا عند ذكره فيما سبق لارتفاع الأسعار بقوله: (ويكاد الناس يأكل بعضهم بعضاً...) .

وبعد أن فصّلنا ما جاء في ذكر الجرموزي لهذه الخانقة التي حلت بالبلاد في عهد الإمام المتوكل على الله، سنأتي على ماذكره من موقف الدولة والتدابير التي اتخذتها بشأن الأزمة، حيث يذكر أنها كانت تضع تجاه مثل هذه الصعوبات والأزمات تدابيراً وحلولاً كفيلة، ولو بصورة مؤقتة لمواجهة ما يحدث من الصعوبات جراء نقص الحبوب، وعلى سبيل المثال يذكر أنه في عام (1064هـ/1653م) أصاب مناطق بلاد ضوران آنس حاضرة المتوكل ومركز حكمه نقص شديد في الحبوب، فقامت الدولة على إثره بتوزيع الحبوب على المتضررين من مخازن (الحصن المحروس بالله... من الطعام من أيام مولانا الحسن ومولانا الحسين -رحمة الله عليهما-..) وفي كثير من المناطق في عموم البلاد كان الأهالي يتخذون -حيطة منهم- هذه المخازن وهي ما كان يطلق عليها سابقاً بالمدافن (كصوامع الغلال اليوم)لخزن كميات من الحبوب كاحتياط لمواجهة الأزمات. ويتضح ذلك جلياً من مطالعتنا -في السيرة- لما حدث عند سيطرة قوات الإمام على مناطق الرصاص في عام (1065هـ/1654م) حيث قامت بإخراج ما في مخازنه من الحبوب والتي لكثرتها جعلتهم أن (...باعوا القدح ببقشة...) أما في حالة نفاذ مخزون الدولة من مادة الحبوب فكان كما يقول مؤرخنا: (يُطلب الطعام من الجهات المبتعدة) والتي تمتلك مخزوناً فائضاً عن حاجتها لتوزيعه على المناطق المتضررة.

كما أوضح الجرموزي -إلى جانب ما تقدم ذكره في هذا المجال- إهتمام الدولة بالمجال الزراعي، ومثّل إقامة السدود وتعميرها واحداً من جوانب هذا الإهتمام، يذكر منها الجرموزي ترميم سد الإمام في صنعاء -على سبيل المثال- والذي استفادت من ترميمه عدد من الأراضي الزراعية حيث (..سقى أهل شعوب أموالهم من الجراف والروضة والحشيشة..) ولم يقف هذا الإهتمام عند هذا الحد، بل تعداه إلى شق القنوات وحفر الغيول .
ب- المجال التجاري
لم يكن النجاح الذي حققته الدولة في المجال التجاري بأقل منه في المجال الزراعي، فقد شهدت اليمن خلال حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل حركةً تجاريةً واسعةً، وهو الأمرالذي عاصره الجرموزي، حيث رصد- في سيرته- جانباً من مظاهر الحياة التجارية حينذاك، فهو يشير مثلاً إلى وجود التجار البانيان -وهم من الهند- بأعداد هائلة حتى وصل الحد بهم -لكثرتهم- أن (كل مدينة أو سوق لم يخل منهم...) .
ولقد لعب هؤلاء التجار كما يوضح ذلك مؤرخنا، دوراً كبيراً في التبادل التجاري وشئون المال، فمال الناس (إليهم للشراء منهم والإستدانة والمرابحة في أموالهم...) . إلاَّ أن الإمام رأى أن وجود هؤلاء التجار البانيان بأعداد كبيرة، وما يمارسونه من إحتكار للتجارة واستغلال لظروف الناس المعيشية -بما يمارسونه من مرابحة في أوساط الناس- قد يؤدي إلى إحتكار قبضتهم على إقتصاد البلاد. وهو ما كان يستدعي تحركاً من قبل الدولة لتفادي الوصول إلى وضعٍ كهذا.

7 / 116
ع
En
A+
A-