وقد تولى الجواب على هذا السؤال عدة من العلماء منهم من ذكرناه آنفاً، فأما المنصور ففي مواضع عدة، ومنهم الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى في رسالة سماها (القاطعة بالأدلة الساطعة) والإمام القاسم بن علي العياني في بعض رسائله، والكلام من هذا من أمثالهم عليهم السلام كثير على أن مولانا أيده الله، إلى الآن لم يول ولاية رجلاً ظالماً وإن الظن في المسلمين جميل ولا نظن في أحد من الولاة المتقدمين ولا المتأخرين إلا خيراً، على أن الأئمة قد أجازوا إبقاء الوالي على ولايته الذي كان عليها، وإن كان متهماً، قال المنصور بالله: وقد أقر الناصر (عليه السلام) أسعد بن أبي يعفر وأحمد بن محمد الضحاك وغيرهما من رؤساء اليمن على رئاستهم وأعمالهم، فلا يحكم على الأئمة عليهم السلام لأنهم معدن العلم وما خرج من علم الآخر أضيف إلى علم الأول، كقوم لهم معدن يستخرجون منه الياقوت والجواهر على قدر ما يرزقهم الله تعالى من كثرة وقلة وتفاضل في الجودة، مع أن المعدن والجنس واحد انتهى. وحسبنا الله وكفى.
وأما ما ذكره سيدنا حفظه الله في أثناء الرسالة من الترفه من العمال فهذا وإن خالف الزهد المرغب فيه فقد وافق قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد كان السلف يلبسون، روى في بعض كتب الحنفية أنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لبس حلة بأربعة آلاف، وقد بوب الترمذي باباً للبسه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لبس الخبرات ومحبته لها وكان له لباس جميل للوفد وذلك مالا يخفى، وعلي بن الحسين كان يلبس ما علمتوه من رواية الانتصار، والهادي (عليه السلام) لبس في دخوله صنعاء ما هو معلوم في سيرته، ولقد وصى منهم وصى بذلك لعظم موقعها في نفوس الناس فإن الوالي المزدرى ربما[168/أ] تشبه الوالي المهين، وكانت للإمام شرف الدين عمامة يلبسها في غاية النفاسة، وقال في وصيته لأولاده ما عرفتم والأعمال بالنيات، وأما المناكح فهي من السنة أيضاً، وقد علمتم ما كان له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ولمن بعده.
وقال: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة )) والحسن بن علي (عليه السلام) كان له من ذلك مالا يخفى، والحكم على أن هذه من أموال الله تعالى. مع أن الوالي له أجره إذا أخذ سهماً لعامل من العمالة الواسعة، وسوغ له الهدية كما سوغ (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لمعاذ جمع الجمهور، مع أن لهم مكاسب، أولا يسلم لهم مع الولاية وينمو، وربما كان في بعضهم الحذاقة في التكسب، والواجب الحمل على السلامة. وأما ما ذكرتم من مسألة الأخذ من الولاة لأشياء لم ينص عليها الإمام، وقد سبق ما ذكرناه أن بعض الولاة قد يفتأت بغياً وعدواناً، وما علمنا مشتكياً رفع شكايته إلى الإمام إلا وأزالها حسب الإمكان، وقد علمنا أيضاً مع طول الممارسة ما يعجب من أحوال الرعية، وكثرة تظلمهم بغير حق، قال الإمام صلاح بن علي في بعض ما قال: لقد علمنا من أحوالهم أنهم يأتون إلى الرجل الفاني الضعيف ويعطونه الثوب الخلق الذي لا تساوي قيمته عشرة دراهم، ويأتي على ضعفه بصبيان معه يصطرخون ويظهرون أموراً ليس عليهم منها شيء، قال: ولقد اتفق لي أن جماعة تظلموا من واليهم، فأمرت بإحضاره وقد كانوا شكوا أنه أخذ منهم أموالاً ذكروها فقلت لهم عند حضوره: هذا الوالي ما تقولون فاشتكوا، فطلبت منه الجواب فأنكر، فسألتهم فقالوا: نعم ما قد طلب ولا أمر لكنا خشينا أن يفعل هذا معنى كلامه، وما ذكره سيدنا حماه الله من السؤالين المشكلين في آخر الرسالة وهي مسألة التفاوت بين الرعية في المأخوذ منهم فمنهم الذي يسلم الكثير، ومنهم المسلم للقليل وما وجه ذلك والمقتضى يقضى بالإستواء ومسألة الولاة الذين يأخذون غير ما أمروا به، فأما مسألة الولاة فقد تقدم جوابها آنفاً.
وأما السؤال الأول فقد صرح الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، والإمام المطهر أن هذا المأخوذ فرض كفاية، ولا شك كما قالاه: وإذا كان كذلك فللإمام أن يعين فرض الكفاية على[168/ب] بعض المكلفين لرأي يراه، قال بعض أصحاب الشافعي: إذا عين الإمام على رجل غسل الجنازة تعين.
قلت: فبالأولى والأحرى فيما يقوم به الشعار، ويتم به أمر الإمامة، قال مولانا حفظه الله، ومما يدلك على قول الله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فنعى الله على الذاهبين بغير رأي رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فعلهم، وأذن له (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أن يأذن لمن شاء فدل ذلك على أن له أن يعين للبقاء من رآه ويسوغ الذهاب لمن شاء حسب المصالح، وربما كان ثمة مقتضى من خصب البلاد، وتقدم سابقه في بعض، وغير ذلك كما فعل في أرض الخراج المختلفة بالسقي وغيره، وبأثمار بعضها للقصب السكري وغيره، وربما كان بعض أهل البلاد تسليمهم أكثر لأنهم يحصرون عند الحاجة، وهم في الحقيقة جند كما في بلاد همدان وربما كانت عليهم طرق تستوعب منهم الضيافة شيئاً كثيراً، وغير ذلك مما يعرف عند الممارسة على أن الأرض التي كانت تحت أيدي الظلمة غلتها مستمرة والسيف والمنبر لهم مع سوء عقيدتهم رأى أئمتنا أن للإمام أن يضع عليها ما شاء عند الافتتاح كما يكون ذلك في دار الحرب، والله حسبنا وكفى وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير.
وما ذكره سيدنا أصلح الله بوجوده من مسألة التأديب بالمال فقد كفى بالجواب وشفى، فلا زيادة على ما ذكر ولا جواب إلا بإعادة طائفة من كلامه الشافي، ولا حاجة إلى الإعادة، ومذهب أئمتنا الجميع جوازه كما هو من المعلوم من سيرهم وأجوبتهم في المسألة، وليس ذلك عندهم من المصالح بل مما قام دليله، والله حسبنا جميعاً، وكفى هو مولانا وعليه توكلنا وله أخلصنا ونسأله حسن الخاتمة بحق محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) انتهى ما حرره العبد اللاجئ إليه الراجي له، أحمد بن صالح بن أبي الرجال، كما وجد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان تحرير هذا الجواب الشافي أوسط شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وستين وألف [مايو/1650م].
قلت: وفي هذه الجوابات الشافية، والبيانات الكافية، غاية من نفايع النصائح التي تحب شافيه، فالله المسئول الواسع الفضل الجزاء أن[169/أ] يجزيهم عن الحق بالذب عنه أفضل جزاء، وأن يضعف لهم المثوبة بأوفر الجزاء، ووقع في النفس أنه تسامح في شيء من الجواب لا أدري السهو أو لعدم التصريح بذكره من السائل عما ساقه من الاعتراض وأورده من المسائل وذلك في مسألة القميص والباب والبريم والبشمق التي اسمها غير ذلك ومسألة ما عليه العمال من التوسعة التي ادعاها عليهم وقال إن ذلك مما يعود على المراد من الاعتراض هل في ذكر الثمن أو المثمن واستعماله إن كان في الثمن قيل له هل أردت أنه أخذ من حله أو من غير حله أو مجهول الحال إن كان ذلك الثمن من حله يعين من ماله أو مما فرض له أمامه فلا اعتراض عليه إذ له ماله وما فرض أمره وإن كان من غير محله يسأل الإمام عليه السلام استرشاداً، وعليه الحكم بما صح لديه، والعمل بما وفقه الله إليه وإن كان مجهولاً فالقطع في موضع الشك مما لا خلاف في خطأ قايله، ومما لا يلتفت بالجواب على سائله، وإن كان السؤال في ذلك المثمن فلا يخلو مستعمله من أن يكون ممن يحرم عليه أو تحل له، فإن كان الأول كان السؤال إلى الإمام أيده الله كما سبق مع كمال الشرايط المذكورة في بابه عند أهل المذهب رضي الله عنهم، وإن كان مُستعمله ممن يحل له ذلك، فذلك حلال طيب، وله ذلك بحكم الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في الخبر المشهور في الذهب والحرير: ((هذان محرمان على ذكور أمتي حلٌ لإناثها )) الخبر، فإذا حل ذلك في
الجملة، ولم يحد الشرع الشريف فيه حداً بقلة أو كثرة، فليس لمعترض إليه سبيل ويتهم أن يكون من أهل الحسد المحرم والله أعلم، وأما الباب فإن صح فما هو بأكثر من الصرف في الدار، لأنه إذا جاز له تحسين بابها، ولا حدٍ للكثرة والقلة، إذ ذلك مما أحل الله لعبده في نحو قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } الآية. وإن أراد أن ذلك مخالف لما عليه صالح السلف رضي الله عنهم من البعد عن زينة الدنيا، وأن الفاعل لما ذكره[169/ب] السائل تارك للأولى فالسؤال إليه أرشده الله، هل للإمام والعلماء وساير المسلمين أن يمنعوا المباحات وأن يعترضوا أهل الأموال في أموالهم أن لا ينعموا فيها، ولا ينتفعوا بما أباح الله لهم منها، وأكثر من نعى عليه من السلف التوسعة عثمان بن عفان، فإنه أول من عمر القصور، وموهها بالذهب والفضة، ولبس الحرير واتخذ له أسناناً من الذهب ولم يعدها المسلمون من أحداثه التي بها استحلوا دمه، وخلعوا طاعته والله أعلم، هذا مع الفرض لصحة ذلك وأنه كان كذلك.
وأما إذا كان رجماً بالغيب وثلماً على الغايب بالعيب، والحكم عليه بالريب، فكفاه من الرد ما بسطه أمامنا، وعلماؤنا فيما وجهوه إليه، وبشروا من دلايل الكتاب والسنة، ما هو كالسيوف والأسنة، وكالضمر المطلقات الأعنة، {ومن يكتسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}.
ويلتحق بذلك ما ذكره المعترض في قوله لا زلت أذاكر علماء الزمان فيما ذكره من المناقم، وإنهم رضي الله عنهم لم يجيبوا عليه بما ينفع الغلة، ويزيح العلة، فلم يدرك فهمي القاصر من جوابهم عليه بما يقطع توهماته، فإنهم رضي الله عنهم جازوه، وقالوا ما علمنا له رسولاً في ذلك فقلت: مع ما سبق من الضعف، وبعد الفهم إن قوله: لا زلت أذاكر به إلى آخره إنه لا يخلو اعتراضه من أن يكون قبل الدخول في الإمامة والتزام الزعامة أو بعدها، فإن كان الأول فالسيره فرع على صحة الإمامة وهي قطعية في الجملة فله السؤال ويعرف الأحوال وإن طال كما ذكره أئمتنا (عليهم السلام). وإن كان بعد بيعة الإمام فلا يخلو الاعتراض من أن يكون مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه، فإن كان الأول فله سؤال الإمام بشرطه وإتيانه من بابه، وعليه الرجوع إلى الإمام كما أمره الله تعالى، وإن كان من المختلف فيه فليس له ذلك لجواز أن يكون مذهباً لإمامه، فعليه قبول أحكامه إذ الإمام الحاكم والمأموم محكوم عليه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية، فإذا تقرر هذا الأصل بحكم الكتاب والسنة، فلا وجه للاعتراض بعد صحة الإمامة، فإن الإمام إذا كان كأحد العلماء بطلت الإمامة وانتقصت أحكام الزعامة، فحينئذ لا يخلو هذا المعترض من أن يكون جاهلاً لهذه الأصول أو عالماً بالمعقول منها والمنقول فالأول لا يجوز عليه ولا يعزى إليه[170/أ] إذ هو عالم مضطلع وللعرفان مدرع، فإذا تقرر ذلك فلا حرج على من حكم عليه بما حكم على نفسه، وإلزامها من العداوة والحسد، لمن أوجب الله طاعته على كل أحد، والله يحب الإنصاف، ويكره الظلم والاعتساف، نسأله التوفيق والهداية ونعوذ به من التعويق والغواية انتهى.
[وصول إبراهيم المؤيدي إلى الإمام المتوكل على الله]
رجعنا إلى ذكر وصول السيد إبراهيم إلى الإمام (عليه السلام) وعود مولانا الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، أيده الله، وأقام السيد إبراهيم في صعدة ليالي عيد الإفطار، ثم استرجح القدوم إلى الإمام (عليه السلام) إلى محروس شهارة اقتضاباً وقد جهزه مولانا الحسين أيده الله تعالى، بما يحتاج إليه وزيادة فلم يشعر الإمام (عليه السلام) إلا به في جانب بلاد عذر، ثم الهجر وأمسى فيه، ثم صعد منه إلى محروس شهارة المحروسة بالله، وأمر الإمام (عليه السلام) بلقائه وتعظيمه وتلقاه بنفسه إلى موضع مما بقرب بيته الشريف.
وأما مولانا الحسين، أيده تعالى، فإنه لما وجه السيد إبراهيم إلى الإمام تقدم إلى بلاد خولان، للإتفاق بوالده أحمد بن أمير المؤمنين، أيده الله تعالى، وكان لم يتفق به قبلها كما تقدم، وقد أقام في صعدة المذكورة، وتزوج بنت عمه فيها، وقد استدعى مع وصوله إلى ساقين الشيخ يحيى بن روكان فوصل إليه بأمان، وأحسن إليه، ووجهه أيضاً إلى الإمام (عليه السلام)، وأخذ في تفقد البلاد، وطلب ما أهملوه من الحقوق وقبض سلاح العسكر الذين قتلوا وقد خرب كثيراً من بيوت أهل الفساد، وكانت نحواً من أربعمائمة بيت، وفي رواية أكثر من ذلك وبقى أياماً، ثم عاد إلى صعدة المحروسة بالله تعالى.
وأما مولانا أحمد بن أمير المؤمنين، أيده الله تعالى، فإنه وقع في نفسه التهمة بأن الإمام (عليه السلام) نسب إليه التسهيل، فكان سبباً لهذه المفاسد فتجهز إلى الإمام في شهر[….] ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بقدومه إلا وهو في جانب الطريق ووصل إلى محروس شهارة عمرها الله بالإيمان [وتلقاه المسلمون وقد أمرهم الإمام (عليه السلام) بالاجتماع لذلك] وتلقاه الإمام (عليه السلام) وعظمه التعظيم الذي هما أهله، وطابت النفوس واطمأنت وطفت الأوحار وسكنت.