فضل مال يلزمه إنفاقه، هذا قول المؤيد بالله، وهو مروي عن الهادي، ومحمد بن عبد الله والناصر بن الهادي، والقاسم بن علي، والمنصور بالله، وذكره الغزالي في شفاء العليل، وإنما تجوز بشروط هي في تعليق اللمع، قلت: وفي كلام الغزالي اشتمال على وجوه ثلاثة من الاستدلال.
أولها: السنة بقوله: ونقل أيضاً أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه.
ثانيها: الإجماع بقوله: وأصل أخذ المال متفق عليه بين العلماء.
ثالثها: القياس في المسائل المذكورة والله أعلم.
وأما إجماع الزيدية فقد حكاه صاحب الكافي قال فيه: إذا كان لرجل فضل مال لزمه إنفاقه في الجهاد تعينت الحاجة إليه، ويأثم إن لم يفعل عند الزيدية لأن الجهاد بالمال والنفس.
وحققه السبكي وهو محقق ولقد جاء في تحقيقه بالعجايب
المراد به السبكي الشافعي(شارح منهاج القاضي البيضاوي) في علم الأصول قال في شرحه المذكور ما لفظه: كما أملاه علينا مولانا أيده الله، أما إذا خلت الأيدي ولم يكن في مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر وتفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند.
ثم إن رأى طريق التوزيع والتخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم إذا تعارض ضرران دفع أشدهما، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه[159/أ] وماله، لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة السرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد، وثمن الأدوية، وكل ذلك خبر خسران، نتوقع ما هو أكبر منه انتهى.
وكم من رجال حققوا وبينوا .... وما تركوا في البحث عيباً لعايب
اعلم أن هذه المسألة من مهمات الشريعة، وما ضمنها السلف الكرام كتبهم كما مر شيء من ذلك عن أئمتنا، وسيأتي شيء بعد هذا، وكذلك أصحاب الشافعي كما مر والحنابلة كما تبين من كلام ابن القيم والحنفية، كما رأيت عن أبي جعفر وصاحب الفتنة وسيأتي ما قاله (صاحب الكنز، والشارح) والسبب في غفلة كثير ممن يغفل إن هذه مدار العمل بها على بعض مخصوص، ولم يكن كل من عليه مدارها قد احتاج إلى العمل بها فلم يظهر له قول ولا فعل، وسبب الترك إما الغنية عنها أو قصر الزمان أو خشية حصول مفسدة تربى، فممن حقق ذلك من العلماء رضي الله عنهم (صاحب التقرير) الأمير الحسين بن محمد عادت بركاته، قال في تقريره ما محصله: إن الاستعانة بمال المسلمين قال بها محمد بن عبد الله النفس الزكية (عليه السلام) والمنصور بالله، وحكاه عن الهادي، وذكر لفظه، والقاسم بن علي العياني، انتهى. وقال القاضي عبد الله بن الحسن الدواري رحمه الله: ثم إن كثيراً من أئمة أهل البيت إلا الشاذ النادر استحسنوا المعاون بالأموال للجهاد زيادة على الزكوات، كالهادي والقاسم والمؤيد، وأبي طالب، والمنصور بالله، والإمام أحمد بن سليمان، وكذلك الإمام المهدي علي بن محمد، وظاهر عبارة القاضي عبد الله بن الحسن، إن الذي أخذ المعونة هو القاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وهو ظاهر عبارة المنصور لأن القاسم عند الإطلاق تبادر إليه وبنى على هذا السيد العلامة الهادي بن إبراهيم عادت بركته وقال ذلك أبياتاً في ذلك فايقة رائقة أخرها:
إذا أخذ الرسي يوماً معونة .... أخذنا بها قولاً تسر به الصدرا
رضينا برأي القاسم البر قدوة ... وحسبك منه أنه الآية الكبرى
لكنه قال الأمير في التقرير: ليس المراد بالقاسم هنا إلا القاسم بن علي العياني؛ لأنها لم تستقر للقاسم بن إبراهيم (عليه السلام) يد فيما عرفنا، وممن ذكره المؤيد بالله (عليه السلام) كما تقدمت الحكاية عنه، قال (عليه السلام): من له فضل مال وجب عليه إخراجه في سبيل الله، ويأثم إن لم يفعل، قال أبو مضر في شرحه (الفضل) ما زاد على ما[159/ب] يحتاج إليه هو ومن يقول إلى الدخل إن كان له دخل، فإن لم يكن له دخل فما يحتاج إليه هو ومن يعول في يومه ويتعين عليه ذلك إن لم يكن مع أحد فضل مال غيره. وإن كان الفضل مع جماعة كان ذلك عليهم انتهى كلامه واستشكل إمام زماننا تفسير أبي مضر، لأن الأدلة الدالة على الإنفاق أوجبته ولم تفصل ولم يستثن الله إلا ما لم يدخل في الاستطاعة في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } الآية وإذا وجب بذل المهج والنفوس فبالأولى والأخرى المال، ولم يستثن في خبر الموطأ الذي رواه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلف عن سرية تخرج في سبيل الله ، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يحملون عليه ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي)) الخبر. ولم يستثن شيئاً بل ظاهره أنهم لا يجدون شيئاً مطلقاً، إلا بعد الدخل كما قاله القاضي رحمه الله تعالى: وقال الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي بعد أن حكى ما يضاهي قول أبي مضر، هكذا قيل، والصحيح أن ذلك
بضايق الشدة نعوذ بالله منها ولا نسلم ادخار رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) مع شدة الحاجة، لكن لا ينتهي ذلك إلى حد الإجحاف. انتهى.
وظاهر عبارات المنصور بالله (عليه السلام) تقضي بحواز الإجحاف كما تقدم في التكلم على مسألة الترس وله كلام أوضح من ذلك لم يحضرني ويشهد لكلامه القاعدة الأصولية في معارضة الكليات الخمس إنها ترجح الذي لا يراع في ترجيح حفظ النفس والدين على المال، والله أعلم.
وقد تضمن هذا البحث البينة على ما ذكره سيدنا في الرسالة أن المعونة من الفضل والتصريح بعدم اعتبار ذلك وممن أخذ المعونة الإمام محمد بن المطهر سلام الله عليه ووضع قانوناً على أهل صنعاء عند استقراره عليها، واستشكل ذلك بعض الناس، فوجه السيد العلامة محمد بن المرتضى سؤالاً وأجابه الإمام أحسن جواب، ولم يسأل السيد كما صرح به السيد الهادي رحمه الله لاستشكاله هو، وإنما أراد إزاحة الشبهة عن قلب غيره، قال إمامنا طول الله عمره في رسالته (المسماة شفا الصدور) ما لفظه: وقال الإمام يحيى بن حمزة ما لفظه: الفصل التاسع أعرفكم أن الله تبارك وتعالى كما طلب منكم الجهاد بالأنفس وبذل المهج التي هي أعز الأشياء في سبيل الله وجعلها توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، قال: جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، حتى قال (عليه السلام) فقد صار المال في هذا الزمان الحاجة إليه[160/أ] أعظم من الحاجة إلى النفوس، لميل الناس إلى الدنيا، ومحبتهم لحطامها وبذل المال أعظم ما ينصر به الدين، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
انتهى.
ومنهم أقرب الأئمة بنا عهداً الإمام المجدد، المنصور بالله القاسم بن محمد صلوات الله عليه أخذ المعونة، وفي عصره من العلماء الجهابذة أهل المعرفة من لا يرتاب أحد إنهم حجة، وقد ارتكز في كل حيال إن أحوال أصحابه (عليه السلام) أحوال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وليس ما يخطر بالبال إن ذلك زمان مشاعرة تفرق، ليس معنى هذا الفرق إلا أن الإمام المنصور (عليه السلام) أخذه في وقت حاجة ليدفع به ما هو أعظم، فإذا شاركت هذه الحالات تلك الحالات في وجه المصلحة في نظر الإمام من أنه يدفع بها الآخذ عن المسلمين، ويذاد عن أطرافهم، ويحفظ هذا الموجود، فإنه يقال حفظ الموجود، أولى من طلب المعدوم، وقد صار هذا الحال الذي عليه المسلمون شجا حلوق الأعداء، وقذا عيونهم، فأبواب الملوك تعوزه هذه العصابة، فإنا نعلم حالهم بأنهم لولا ما يرونه من فضل الله وتأييده، لأتوا كما كانوا يأتون والله يقي شرهم، وسيأتي اللمح إلى هذا في الكلام الذي نقله القاضي عبد الله بن زيد، ومثله ذكر الغزالي فيما مضى، على أن عتاة العرب والعجم وقي الله شرهم، لا ينفكون.
وأما الإقليم اليماني فقلما سلم من حركات بين أهليه، أو من ورد عليهم قدر أربعة عشرة سنة، كما ذكره عمارة في تاريخه (المفيد) ثم ولده الإمام المطهر ناشر ألوية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مريح العباد، ومزيح العناد، المؤيد بالله محمد بن القاسم رضوان الله عليهما فإنه (عليه السلام) أخذ المعاون، وحمى بها الإسلام حماية ظهرت للخاص والعام، ونال كل إنسان أضعاف أضعاف ما سلم من المعونة، أما من يد الإمام، أو على يده بأمنه للاضطراب، وسلامته من تعجرف الظلمة، ونفذت بحمد الله سعايته إلى أكثر الأطراف، ولله الحمد، فجزاه الله، وجزى سلفه خيراً. وإن إمام العصر في هذا لحجة كبرى، ومحجة غرى، فإنا والله علمنا مقاصده، وتحققنا مصادره وموارده، فرأيناه للمسلمين كالأب الحنون يود أن يقيهم المنون[160/ب] أصعب شيء يقاسيه إنتوال الأموال، لولا أنها تكليف من الله في تركه الوبال، ولقد علمنا أنه يمد خاصيته قبل الناس، وناهيك ببذله لنفسه الشريفة في الليل والنهار لا يتلذذ ببستان ولا يتنزه ومع ذلك في ماله يقرى منه الوفد الذي يتوجهون إليه لواسطة هذا المنصب الشريف أدامه الله، وحرسه بدوامه وحراسته، وبيته الذي كان تحصيله بحميد عنايته لنفسه، قد جعل فيه منازل للوفد، ولحال المواجهة لهم وافتقاد المتخاصمين، ونحو ذلك مما يرجع إلى الأمر الأعم، وثيابه لا تقر على ظهره، وهو لا يلبس إلا من خالص ملكه، ثم أن خاصته من أهل بيته يقومون بمؤن واسعة من أطعمة يصنعونها في بيته الكريم، وعبيده الذين يملكهم أعدهم للمسلمين، وقد علمنا أنه لا يفرق على الناس إلا بعد تحري وجه
المصلحة وظهور الرجحان، وقيام الدليل عنده قياماً بلغ اليقين، وما كان حرياً مع هذا بالاعتراض، ولا ملياً بالإعنات، مع ما هو عليه من المهمات بإيراد الأسئلة، عما هو من تكليفه، ولا يتطلب هو أقوال أمثاله من العلماء لتقر عيون الناس، ولكن هذا من مزيد التكليف الذي هو سبيل الخير عند الله، وله في هذا سلف جده محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فلقد أوذي وسمي بغير اسمه، وتولى الله سبحانه الإجابة عنه وكفاه المستهزئين، وعصمه من الناس، ومن سلفه أبوه المرتضى فقد قيل له إن فيه دعابة، وإنه امرئ تلعابة وهو والله (عذيقها المرجب، وجذيلها المحلك) .
وفيه الذي فيهم من الخير كله .... وليس بهم بعض الذي فيه من حسن
وهذا فصل عجيب نقلته من خط القاضي العلامة فخر الدين سيد الشيعة المطهرين، عبد الله بن زيد العنسي رضوان الله عليه، ولفظه: فصل منقول من شرح القاضي أبي مضر وهو هذا.
فصل: قال القاضي يوسف كتب إلىَّ الشيخ الأستاذ أبو القاسم بخط نفسه إن الشيخ أبا الفضل ابن شروين، قال: ومن انتصب من عرض الناس، ممن يكون له استطلاع بالأمر بالمعروف، وإزالة المنكر وإرغام الظلمة من البلاد، وجبت معونته على ذلك، إذا كان رشيداً شديداً فإن تمكن من بعض البلاد أعانه المسلمون أيضاً لئلا يعود الظلمة ثانياً، لأن الغرض الأول باق في هذه الحالة أيضاً، وإن كان يقيم الحدود، وينفذ الأحكام ويستوفي الحقوق، ويضعها في مستحقها ويأخذها قهراً كان له ذلك[161/أ] ولم يمتنعوا عن معونته، والحال هذه وإن كان للأئمة ذلك كان لغيرهم أن ينهضوا بها إذا عدم الإمام، ولا يتمكن من نصبه كما يقول في القضاء، وذلك لحفظ الإسلام وأحكامه وإلا تعطل جميع ذلك، وإلى هذا أشار المؤيد بالله قدس الله روحه في باب القضاء في كتاب (الزيادات) يقول عبد الله بن زيد، وهذا مذهب قاضي القضاه وذكره في المختصر المكي، ومذهب غيره من علماء المعتزلة وروى الفقيه جمال الدين صالح بن سليمان أن الفقيه الزاهد علي بن أحمد الأكوع الحوالي الحميري قال: هذا الفصل مما قرأته على الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة وكنت أعلم على ما يختاره، ويذهب إليه(خ)، وما لا يراه (لا)، فوجدت على هذا الفصل أنه مذهبه واختياره، وعند ذكر الحدود فوجدت العلامة أنه لا يرى ذلك، ولا يجوز له عنده إقامتها، هذه الرواية إلى الفقيه علي الأكوع، وكتب عبد الله بن زيد حامداً لله، ومصلياً على نبيه محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
وذكر في (كنز الحقيقة) وشرحه للزيلي ما لفظه: وكره التجعل إن وجد فيء، والمراد به أن يضرب الإمام التجعل على الناس، للذين يخرجون للجهاد لأنه يشبه الأجر على الطاعة فحقيقته حرام، فيكره ما أشبهه، ولأن مال بيت المال معد لنوايب المسلمين، وهذا من جملته، قال رحمه الله: وإلاَّ لا إن لم يوجد في بيت المال في لا يكره لأن الحاجة إلى الجهاد ماسة، وفيه يحمل الضرر الأدنى لدفع الأعلى، قد أخذ النبي (عليه السلام) دروعاً من صفوان عند الحاجة بغير رضاه، وعمر كان يغزي العرب، عن ذي الحليلة، ويعطي الشاخص فرس القاعد، وقيل يكره أيضاً والصحيح الأول لأنه تعاون على البر، وجهاد من البعض بالمال ومن البعض بالنفس، وأحوال الناس مختلفة منهم من يقدر على الجهاد بالنفس والمال، ومنهم من يقدر بأحدهما.
وكل ذلك واجب لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } وقوله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وقال عليه السلام: ((المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) وأطلق الإباحة في السير، ولم يقيده بشيء واستدل عليه بقوله (عليه السلام) ((مثل المؤمن يغزو بأجر كمثل أم موسى ترضع ولدها بنفسها، وتأخذ عليه الأجر، وكانت تأخذ من فرعون دينارين كل يوم)). انتهى بحروفه.