الخمول والعفاف، فإن الله ييسر له الأسباب، ويهديه إلى شيء من طرق الاكتساب، يدفع بها عن نفسه مكايد الشيطان، ويقطع بها عن الأئمة أذى اللسان، ويشغل بها عن الافتتان، حتى يعلم إنما يعانيه الأئمة من مصارعة الأضداد، ومقاساة أهل البغي والفساد من أرشد الرشاد وأحسن المقاصد يوم يقوم الأشهاد.
نعم! ومما نقم به على الأئمة ما ترى من كثير من المخالفين في المذهب، وبعض أهله من الانتقاد في العقوبة بنهب الأموال وإخرابها والتأديب بالنفاعة ونحوها، يزعمون أن ذلك ظلم من الأئمة وأن العقوبة ليست إلا في البدن.
فنقول: هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء، فورد في الحديث أنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قال في حق المتخلف عن صلاة الجماعة: ((لقد هممت أن أمر بالصلاة فتقام، ثم أمر بحزم من حطب فأحرق على قوم يتخلفون عن الجماعة بيوتهم )) أو كما قال، وهذا المعنى في الكتب الستة، وإذا هم (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بإحراق مال المتخلفين، فهو لا يهم إلا بالجايز، وقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((من غل فأحرقوا متاعه )) وقوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في الزكاة: ((من أعطاها متأخراً له أجرها ، ومن لا فإنَّا آخِذوها وشطراً من ماله، عزمه من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء)) وقد زعم بعضهم أن المراد من هذا الحديث وشطراً من ماله – بضم السين، وكسر الطاء مثقلة- بمعنى حصل شطرين وهو تأويل بعيد، خلاف ما نص عليه العلماء.

نعم! وزعم بعض العلماء أن العقوبة بالمال قد نسخت، وعلى هذا بعض الأئمة قالوا: وإنما بقيت العقوبة في البدن بالحبس والقيد والتعزير والحدود، ونحن نقول روي عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: في حرم المدينة فاسلبوه فإن نكث فيه الغلام الذي سلبه سعد بن أبي وقاص [148/أ] فلما روجع فيه منع أن يرده وقال لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذا ما أخرجه مالك في الموطأ في قصة رفيق حاطب بن أبي بلتعة، لما وجدوا ناقة الأعرابي المزني، أو سرقوها فأمر عمر بن الخطاب بقطع أيديهم، وقال للأعرابي: بكم ناقتك فقال: والله يا أمير المؤمنين إني أمنع منها أربعمائة درهم فأمر حاطب بتسليم ثمانمائة درهم، وكان ذلك بحضور الصحابة، فهو دليل على أن العقوبة لم تنسخ، وكذا فعل علي رضي الله عنه في نهب نصف مال المحتكر إلى بيت المال وإحراق نصفه، وإحراقه لدار جرير بن عبد الله لما لحق بمعاوية، وكذا فعل الأئمة السابقين، وعليه أحمد بن حنبل وإسحاق في حق الكافر، بل قال: هو سنة لا سيما إن لم يحصل التكال إلا به، وعلى هذا جمهور الأئمة من الآل، قالوا: لأن المال شقيق الأرواح، وأصل شرع العقوبة الإنزجار، فإذا رأى الأئمة الإنزجار بالمال أكثر فعلوا ذلك لأن المتبع ما ظهرت فيه المصلحة، وفي الناس من تكون العقوبة عليه في البدن أزجر كأعيان الدولة ورؤسائهم، فإذاً التأديب موكول إلى رأي الأئمة فيما يحصل به الإنزجار، وقد استحسنوا الزجر به في هذه الأزمنة لمصلحة الانزجار، ثم مصلحة الوجه الذي التجأوا إليه كما قررنا أولاً، فلا نغتر برأي من

يقدم في آرائهم الصائبة، وأنظارهم الثاقبة، لا سيما ما صدر عن رأي الأئمة، وأما العمال والولاة، فهم فريقان، فريق من التقوى والخوف لله على جانب عظيم، يراقب فيما يأخذ ويذر مراقبة الأئمة في الخوف لله تعالى ولا يتبع هوى نفسه، ولا يأخذه في حق الله لومة لائم، كما كنا نشاهده من حي السيد العلامة هاشم بن حازم بن أبي نمي الحسني المكي رحمه الله تعالى وأمثاله، وفريق همه تحصيل ما يدخره من المال لنفسه، ويكسبه على أي وجه، فيجعل صورة هذه الآداب والقوانين سبباً وذريعةً إلى تحصيل المال من غير مراقبة لتلك المقاصد الحسنة والآراء المستحسنة، وما أعظم الوقوف على هذه الطريق الصعبة المنوطة بأهل الولاية، الماضي قولهم فإن النفوس مبنية على ما جبلت عليه من الهوى، وربما قصر الأئمة هؤلاء عن أفعالهم بعد ظهورها، وربما رأوا أن مثل هذا الجيش ممن يحتاج إليه في النصرة، فأعرضوا عنه لا رضى بما فعل لكن خوفاً مما هو أعظم وكم نجد من مصارعة من الأئمة لهذا الجيش لاقتحامهم على ارتكاب هذه الأخطار، ومخالفتهم لأنظار العلماء النظار، اللهم ارزقنا منك الهدى والعفاف والغنا والتوفيق لما تحب وترضى[148/ب] اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وهب لنا من لدنك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوفيقاً هادئاً وعملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. حرر غرة شهر ربيع الآخر سنة إحد وستين وألف (24مارس 1650م).

[جواب القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال على الضمدي] .
وهذا جواب القاضي صفي الدين أحمد بن صالح، أيده الله، عن أمر الإمام عليه السلام وإطاعته صلوات الله عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين الحمد لله الذي جعل حرمة عرض المسلم كحرمة دمه، وزلة قلب الإنسان ولسانه أعظم من زلة قدمه ولا سيما إذا كانت زلة القلب تجب التفريق، بعدما شرع الله لنا، ووصى به إبراهيم من إقامة الدين والاجتماع في الطريق، وكانت زلة اللسان بأكلها لحوم العلماء المسمومة لا سيما لحوم العلماء من أشرف أرومة، وأكرم جرثومة، كيف إذا كان الثلب لسيدهم السابق، وعلم علمهم الباسق، من خلف أبيهم المصطفى، ناهج خلافة أبيه المرتضى خذوا النعل بالنعل، والفعل بالفعل، فيا لذلك الثلب ما أخطره، ولصاحبه يوم القيامة ما أحقره، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أمرنا بالسداد أمراً شديداً وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } . وأن محمداً عبده ورسوله الذي باهل الأساقفة وجادل، وضرب لوافديهم الأمثال وناضل، وبشر المجاهدون بالحجة على لسانه بهداية السبيل وبيان الدليل، وإن كان الحق يقود إلى نفسه ويهدي الطلبة إلى شمسه، والصلاة والسلام عليه وعلى آله الذين لا يزالون على الحق ظاهرين ولا ينفك منهم ولي يعلن الحق وبنوره، ويزيل عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فهم للحق نجوم، وللباطل رجوم، فكم بأسنةٍ كافحوا، وأدلة نافحوا ولحقٍ رفعوا، ولباطل وضعوا فهم للعلوم أفلاك دواره، وللهداية شموس نواره، يقطعون الشبه بالحجج القاضية

والبراهين الثاقبة، ويظهرون الأدلة في [149/أ]مظاهر الأهلة، فلذلك استدارت بهم للدين رجاه، واستقامت بسعيهم القناه، وجاء الحق وزهق الباطل، وابتهج الدين بحلية عبقه العاطل شناشن أحمدية، وطرايق محمدية.
وبعد: فإنه وصل من سيدنا الفاضل العلم العامل، عين النبلاء وزين الفضلاء وجيه الدين عبد العزيز بن محمد النعمان الضمدي، أسعد الله جده، وأصعد مجده، كتاب كريم ومثال فخيم شمل الشعر المطرب والسجع المعجب، والحكم النافعة، والكلم الجامعة، أورد فيه عافاه الله وأتحفه بشريف السلام أسئلة وردت من بعض الناس، وشبهاً من شر الوسواس الخناس قد أجاب عنها بأحسن جواب، وأبان فيها من الحكمة وفصل الخطاب، ووجه ذلك السؤال إليَّ على أنني الحقير، ومن لا أحسب في غير العلوم ولا النقير، لكنه استثمن ذا الورم، ونفخ في غير الصرم، حداه إلى ذلك ظنه الجميل ولأنه وجد أمثاله من العلماء سلكوا ذلك السبيل، وفي ذلك المعاونة المدعو إليها، والمحرض في كتاب الله العزيز عليها، ووافق وصول كتابه الكريم، وصول أسئلة من بعض الناس قد زخرفها وبهرجها لإرادة الإلباس، فأجاب مولانا أمير المؤمنين، وبرهان الله المبين المتوكل على الله رب العالمين، أيده الله، لتأييد الدين بما تقع العلة، ونفع الغلة، وصير تلك الشبهة الرفيعة كأنها سراب نقيعة، واحتج بالآيات القطعية والآثار النبوية وكلام العلماء الرسخ، وأطواد الشرع الشمخ، وعرضت رسالتكم الكريمة عليه، ومكثت ليالي بين يديه، فوافقت عنده من الصواب مجزاً، وألفاها وقد غزت أحسن مغزى، وأمر بنقلها أهل المخابر، وأن يخلدوها في بطون الدفاتر،

وقضى نظري بعد ذلك أن أوجه إلى سيدنا في ذلك مقالاً كالمفاكهة لعلي أحظى للأفاضل بالمشابه:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
على أن هذه المقامات غنية بالحجج القطعية عن تكلم مثلي لكنه جذبني إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وما حكاه الإمام المطهر بن محمد بن سليمان عن بعض العلماء في تفسير {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أنها نزلت في مثل هذا وكذلك[149/ب] فسرها القاضي عبد الله بن زيد في المحجة البيضاء ولعل السائل الذي أورد السؤال إلى سيدنا عافاه الله وحفظه يفتقر إلى الإطالة، وكثرة تكرار الدلالة فإن من الناس من استحكمت شبهته استحكاماً، وألجمت عقله من النفوذ إلجاماً، فلا تحل إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، وإذا كانت الشبهة تحل، وركابها عن القلوب ترحل، توجه على العلماء أن يمدوا إليها الأعناق وعلى ذي الشبهة أرعى سمعه، وأن يطرد عن قلبه وهوى طبعه، وتتيسر الخوض معه طوراً على طريق التجميل، وحيناً على نهج التفصيل، فأما السبيل الإجمالي فيقال له ماذا الذي تغير من السيرة، حتى تغيرت منك السريرة، فإن أظهر والعياذ بالله أموراً ليس للاجتهاد فيها مسرح، فلا جرم إن ذلك أي مقدح، ولكن ذلك والحمد لله لم يبق من إمام فيما يعلم، ولا جعل منقماً على إمام فيما ينقم، فإن عنصر هذا المذهب المنتقى، محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) المصطفى، ثم خليفته المرتضى فهما معيار هذا المذهب، ومثبتا هذا الطراز المذهب، ووقع من الكل انتهاج منهاجهم، وسلوك إدراجهم، فهم في التوحيد

والعدل من نور واحد يقتبسون، ومن محل واحد يقتنصون، وإن أظهر ما تختلف فيه الأنظار، وتحرك فيه ثواقب النظار، وهم فيه كما قال المنصور بالله عليه السلام كالأخذ من معدن النظار، منهم الحايز للكثير ومنهم المحتري باليسير، على حسب حاجته وما تقتضيه حال عصابته فهذا اعتراض غافل وقلب غير عاقل، فإن العلماء بأجمعهم يوجبون على الإمام اجتهاده في النوازل ولذلك اشترطوا أن لا يكون إمعة، وأن يكون العلم والرأي معه، وإن أنفق عند السائل ما يجهل لديه حقيقته، ويخفى عليه طريقته، فليقل لنفسه ليس هذا يغشك فادرجي، فإن لهذا القوس بارياً، ولهذا القدح وارياً، فإذا أحكم الإمام في تلك القضية برأيه المحكم، وجمع شعتها برأيه وأبرم. قال سمعاً وطاعةً لما يأمر به الإمام ويحكم وجهلاً بقول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فإن أصاب فأجران يعطى وأجر واحد إن أخطأ.

وقد كان النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يقول: ((إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا تأخذونه، وإنما أقطع له قطعة من نار)) وقد رجع عن أشياء بناها على الاجتهاد[150/أ] فليس المخالفة للرأي عيباً عند أولى الانتقاد، فقد كان أقطع الدهناء ثم رجع، وكان أنجل الأبيض بن جمال ثم منع، وكان قد صالح عيينة بثلث ثمار المدينة وغير ذلك مما يطول ذكره ويشق حصره، فالمعترض على الأئمة كالشقي ذي الخويصرة حين قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وكمن اتهمه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) في قصة الزبير لما بغى على رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عدواناً وظلماً.
وأما الجواب التفصيلي على هذا السؤال فسيأتيك مفرقاً في آياته على مقتضى الحال وأما إذا كان غير هذا من الذين عناهم السيد العلامة الهادي بن الوزير فهو ممن لا يعبأ به إن شاء الله ولا ينبغي أن يجاوب، ولا يستحق أن يخاطب، فإن حبه لهواه أصم قلبه وأعماه.
لقد أسمعت لو ناديت حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
ونار لو نفخت بها أضاءت .... ولكن ضاع نفخك في رماد

وعلى أنه لو أنصف ذو الحجا، واتخذ طريق الصدق منهجاً، لقرت عينه، وقر له دينه، فإنا نحمد الله في نعمة رافعة، ومنة من الله سايغة، بعد أن كنا سرجاً للقوم الظالمين، ونصباً لسهام أعداء الدين، يسوموننا سوء العذاب ويبتغون كبارنا وصغارنا بالسباب، لا يظهر شعارنا في الجوامع، ولا يعلن بآذاننا في الصوامع، ولا نأمن في البيت الذي من دخله كان آمناً، وتنكر معارفنا من الخوف بعرفات ومنى، ثم صرنا بحمد الله نحج أ فواجاً، ونطوف أفراداً وأزواجاً، وعلومنا جابت المغرب والمشرق، وضربت الأعداء في الهامات والمفرق بسعاية مجدد الأئمة، ومحبى عظام الدين بعد أن كادت تكون رمه، إمام بشر به من قبله، وأظهر لأهل عصره فضله ونبله سيف، الله القاطف على أعدائه، وظله الوارف على أوليائه، الإمام القاسم بن محمد خصه الله بأحسن جزاية، ومنحه الثواب أوفر جزاية، وأولاده الذين دمغوا نواتج الظلمة وأناروا من الشرع الشريف بهمه، ورابطة مجدهم وواسطة عقدهم، سهم الله السدد، وخليفته المؤيد، ثم تلاه هذا الإمام الذي شمخت به الإمامة، وزمجت به أنف الزعامة نطاسي العلم الرباني ونور هذا العالم الإنساني ذو العلم الذي علت معاريجه، ودنت ولله الحمد عساليجه، أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين المتوكل على الله إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله بن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم):
إمامنا خير بني حيدر ... وخضرم الحكمة والبذل
[150/ب]من نفسه درة إكليلنا ... وشخصه عالمنا الكل
لا زال في أعدائه فاعلاً ... فعل حروف الجزم بالفعل

62 / 116
ع
En
A+
A-