التشكي في البلاد، فإذاً سيرة الأئمة فتفطن لما أقول لك لما كثر الفساد من أهل الزمان لم تكن إلا دفع مفسدة بفعل مفسدة أخف وفي الشرع نصوص إن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإذا أزالت المفاسد عن الأيمة، وصلح الزمان وأهله على الفرض رجعوا إلى جلب المصالح وانتقلوا عن دفع المفاسد، ومثل هذه الأفعال قد نص عليها العلماء في جواز قتل الترس الذي يترس به الكفار دوننا، وهم من المسلمين ويجعلونه دونهم ذريعة إلى استئصال أهل الإسلام.
فإنه إذا لم يُمَّكن المسلمين دفع الكفار إلا بقتل المسلمين المتيرس بهم جاز، وإن كان قتل المسلم مفسدة لدفع مفسدة أعظم وهو حسنة استئصال أمةٍ من المسلمين، ومثل هذه المسألة ما ذكر العلماء أنه إذا طبق الأرض الحرام ولم يوجد الحلال فإنه يجوز سد الضرورة منه مع كونه محرماً لأنه فعل مفسدة أعظم، وهي ذهاب أرواح المسلمين.

ثم إنا نقول بعد هذا إن لأخذ هذا المال مآخذاً في كتاب الله وهو قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وفي آية: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} وليس الجهاد بالمال إلا بذل شيئ منه في سبيل الله من جملة ذلك بذله في إعلاء كلمة الله، وتنفيذ أحكام شرايعه المطهرة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا احتاج الأيمة في تمام ذلك وإمضائه إلى المعونة بشيء من أموال المسلمين لإقامة أركان الدين فعلوا ما تغلب على الظن أنه يدفع المفسدة العظمى من غير زيادة عليه، ولا استمرار مع زوال تلك المفسدة المخوفة، إن جوز زوالها على الفرض، وهذا القدر الذي يأخذونه يكون على المياسير مما زاد على كفاية السنة لإجماع الأمة عليه، وتقريره على القوانين المستحسنة أولاً لسكون نفوس أهل المال إليه كما ذكرنا، وقد نص على هذا أعني كون القوانين[145/ب] داخل في باب المعونة بالجهاد الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، وذكره الفقيه يوسف بن أحمد في الثمرات تفسير الآية.

فإذاً هذه الأفعال وأخذ هذه الأموال لا تخرجهم عن كونهم أئمة الهدى، ونجوم الاقتدى، ومصابيح الدجى، وقدوة من اقتدى، فالملجئ لهم اقتحام هذه الأحوال، وارتكاب هذه الأهوال، هو فساد أهل هذا الزمان، ومصارعة أهل الطغيان، ومعالجة أذوا أهل الخذلان، ثم أن الحق إنه كان ينبغي منهم القدرة أن يضعوا هذه الأموال كل شيء منها على حياله، ويصرفونه في مصرفه، لينقطع عنهم الاعتراض، وخلاف من يقول بيت المال غير منتظم ولا مستقيم، لعدم وضع الأموال في مواضعها، فتفرع على هذه أموراً في مذهبه، فإذا وضعوا هذه الأموال المرصدة لأربابها، وما يؤخذ من المعاون والأخماس والمظالم والغنايم، والجزي في أهلها وما يؤخذ من الحقوق الواجبة كالزكوات والمعشرات في أهلها، فهذه إن حصل التعاون بها والتعاضد والمؤازرة للأئمة، ربما تدخل في المقدور، فهو من جملة ما نقم به بعض الناقمين أعني صيرورة تلك الأموال إلى غير مصارفها، لا سيما صيرورتها إلى منصب الشرف النبوي، والأصل الطاهر المصطفوي، فإنه قد نقل الإجماع على تحريمه عليهم إلا على فتوى بعض متأخري الشافعية، وتأويلات بعيدة لبعض الزيدية، والجزم لأهل الورع منهم عدم قبضها لغير مسوغ، ثم صرف ما يحل لهم من المعاون، والمظالم إلى غيرهم من مصرف الزكوات ونحن لا نحمل الأئمة في ذلك المحمل الحسن، والرأي المستحسن وقد فهمنا من إمام عصرنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين، أدام الله أيامه، التصريح بتحريمها على بني هاشم، وعدم صحة نية القرض، كما يروى عن غيره من الأئمة.

إما بالتأليف لمن لا يجوز صرف الواجبات إليه كالأغنياء، وبني هاشم فإن المنافسات في هذه الأزمنة لم تكن إلا في الزكوات، وإما بالقرض بالنية من الزكوات لبيوت الأموال أو من بيوت الأموال لمصرف الزكوات، فقد نص على ذلك بعض علمائنا أنه يجوز لمن هو في محل الولاية وهذا إنما هو للضرورة، وهو كثرة اشتغالهم بمعاناة أهل الأطماع، وعدم التفرغ لفصل كل من هذه الأموال من غيره على حده مع جواز ذلك، أعني نية القرض للمتصرفين، وبعد ثبوت الإمامة لنا وقيام الحجة علينا بوجوب الاتباع يجب الحمل على السلامة، والتأويل فيما للتأويل فيه مجال وما وضح لنا فيه الخطأ بوجه شرعي، فعلينا البحث فيه لهم على وجه السؤال فإن وضح[146/أ] الوجه فذاك المراد، وإلا كان ذلك غاية تكليفنا، من باب المشورة والمؤازرة والمعاونة والنصيحة، فالأئمة بشر مثلنا محتاجون إلى المعونة في تكليفهم.
نعم! ومن جملة ما نقم به بعضهم، إن الأئمة نفسوا على كثير من الولاة، والأتباع والأجناد بالأموال الواسعة حتى توسعوا فيها كلية التوسع، وسلكوا فيها مسلك السرف، وتمهدوا منها مماهد الترف، ولم ينكر عليهم الأئمة ذلك مع قدرتهم على الإنكار.

فنقول: للناقم إن كان مثل هذا صدر من الأئمة الذين هم القدوة في مسالك الأخيار والعين الناظرة في الإيراد والإصدار، فلا شك أن ذلك مما يناقش فيه المناقش، ويعيب فيه العايب، لأن ذلك يعود على عرضهم الذي يدعون إليه بالنقص، لكنهم أجل قدراً عن المناقشة في هذه الدنيا الحقيرة الفانية، وإن كان ذلك إنما هو صادر من بعض الأمراء والأجناد، والأتباع والعمال، فلا غروا إنما ألجأ الأئمة إلى اقتحام تلك الأحوال وارتكاب تلك الأهوال، يأخذ تلك الأموال هذه الأجناس والأشكال، الذين ليس همهم إلا تحصيل ما يتنعمون به من المال، ويتنافسون فيه بأي احتيال، من غير نظر إلى العواقب، ولا قول عاذل ولا عاتب، فلو عرف الأئمة أن الإنكار على مثل هؤلاء يفيد لكان الإنكار عليهم بأخذ الأموال بادي بدء هو الأول، ومن لم يقدر على الإنكار في أخذ المال كيف يقدر على الإنكار في وضعه في تلك الأحوال، إن هي إلا مفسدة من تلك المفاسد، التي يترك الإنكار فيها لخوف أعظم وهو تخذيل خذلان الأئمة وتلاشي أوامرهم الشريفة، حتى على من هو أضعف، فانظر هديت إلى من تصارع هذه الأحوال،

وتلقى مثل هذه الأمور من تلك الإشكال، كيف يتعرض متعرض للاعتراض عليه، ولا شك أن من اعترض عليهم في عدم إنكارهم لم يعرف ما قدر تكليفهم، أو عرفه لكن قصد التثريب بغير حق، والتشنيع بغير سبب فإن الأئمة لما رأوا أكثر الناس على هذه الطريقة، ولم يجدوا إلا أقلهم على الحقيقة، لم يسعهم إلا مصالحة تلك الأذواء، ومداوة أولئك المرضى، والوقوف تحت بعض أراء أهل الأهواء، وما تلك إلا مفسدة لدفع مفاسد، ومحمدة بل محامد، فجزى الله الأئمة عنا أفضل الجزاء.
نعم! والذي في النفس منه الشيء الكثير أمران: أحدهما: عدم التسوية بين الرعايا في المأخوذ، وهو إنا نجد كثيراً من القبايل عليهم مطالب لا تنفك شهرية أو يومية تتألف على الترداد إلى الشيء الكثير وهم بعد هذا غير معذورين عن اللوايق التي تعم ساير الرعايا ولا ظهر لهم في[146/ب] المال مزية تميزهم بهذه الرزية، وبعض القبايل في كثير من الأقطار في غاية الإراحة إلا مالا ينقص حالاً ولا مالاً كالأمور الطواري لعوارض يستحسنها الأئمة ولعل لخصوصهم بهذه الحال سبباً خفي عنا، فإن المطلب الإمامي الذي قد تعين بنظر ذي الولاية واستحسنه ينبغي فيه المساواة بين الرعايا ليحصل به النفع ويندفع الضرر ويحصل به الغرض المطلوب.

الثاني: ما يرى من بعض العمال أنهم لا يتوقفون على الرأي المستحسن من الأدب والفرق ولا يأخذون قدراً يكون برأي صاحب الرأي، فيقتفون آثاره، ويكلون مثل هذه الأمور إليه لأنها لولا ما وضعت له من المقاصد الحسنة، والمرادات المستحسنة، لخرجت عن ظاهر الشرع نصاً وقياساً، وما كان بهذه الصفة سبيل الظلم الخالي عن الوسائل، وهذه الحالة قد تمكن الأئمة التنبه فيها لعمل أهل الولايات، وقصرهم على المستحسن من المرادات، إلا أن يتولد من محاولة ذلك مفسدة أعظم كان تركه من باب دفع مفسدة بأخف، فإن عرف ممن ولاه أنه من أهل الدين والتقوى، وحصل منه شيء لم يبلغ مسامعه فليس من تكليفه إلا بعد بلوغه إليه وإن كان التجويز عنده حاصلاً لهذا وأمثاله، كما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبيت ساهراً، يرفع الشكوى إلى الله تعالى، والاعتذار إليه ممن يظلم في ولايته بغير علمه خشية أن يكون سبباً في ظلمه، فإن الأرض لا تخلو من الصالح والطالح، فأما الولاة الصالحون الذين همهم معاونة أهل الحق ومناصرتهم ومعاضدتهم على إقامة كلمة الله وإظهار حكم الله لا ينظرون إلى طمع يلوح لهم إعلامه، ولا هوى تطرقهم أوهامه، بل يحرصون على إقامة الشرع لوجه الله ويطلبون بذلك ما عند الله ويأخذون كل شيء من وجهه، وما أشكل تحروا فيه أو رفعوه إلى من أمره إليه أو استرشدوا فيه أهل الورع والتقوى وكانوا أيضاً مما يأتون منه على وجل وخوف فأولئك هم صفوة الله من خلقه الذين ثبت الله بهم الحجة، وتهتدى بهم واضح المحجة، المراقبون لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ

وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} الآية. فأولئك هم الذين وعدوا بالثواب الجزيل، على عدل ساعة وهم الذين يكون لعمل أحدهم ثواب سبعين كلهم مجتهد، وهم الطايفة الذين لا يزالون على الحق الصحيح، ولا شك أن من أهل الخير بقايا، وفي الزوايا خبايا، بمصداق الحديث النبوي لا يعرفون إلا بحسن السيرة، وصلاح السريرة، لا سيما أهل بيت الشرف النبوي والمقام العظيم المصطفوي، فإنهم أهل[147/أ] الفضايل، ومحل حسن المقاصد والوسايل، لا زال منصبهم الشريف بالحق مقروناً، وعلى أهل الأرض ميموناً.
نعم! والأئمة بعد هذا كله مسئولون عن المستطاع من دفع ما أمكن دفعه، ورفع ما يستحق رفعه وبذل الأموال التي تحت أيديهم على حسب ما تقتضيه أنظارهم الثاقبة، وآرائهم الصايبة، ولكن مع هذا أكثر اعتمادهم مصارعة أهل التأليف، وتقديم أهل الدين الضعيف، وكثيراً ما يتركون ذوي الاستحقاق لضرب من الصلاح وكولاً لهم إلى دينهم وإلى معرفتهم بحال الأئمة، ومن لا يعرف هذه المحن، ويتفطن لأحوال أهل هذا الزمن، ربما يظن أن هذا الحرمان للضعفاء شح من الأئمة بالمال دونهم، وإعراض عنهم وكلا والله إنهم ليعلمون ذلك ولكن نظروا إلى قوله: ً: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار )) .

هذا وقد ورد النهي في التعرض للأئمة بالاستخفاف والانتقاص لهم أحاديث منها قوله ً: ((ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق بين النفاق ، ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط)) وفي حديث عنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): ((ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق بين النفاق ، ذو الشيبة في الإسلام، والإمام المقسط، ومعلم الخير)) وعنه ً: أنه قال: ((لا تسبوا الأئمة وادعوا الله لهم بالصلاح، فإن صلاحهم لكم صلاح)) وعن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((لا تسبوا السلطان فإنه ظل الله في أرضه )) وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((من أهان سلطان الله في أرضه أهانه الله )) وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله )) .

وعنه (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أنه قال: ((السلطان ظل الله في الأرض فمن غشه ظل ومن نصحه اهتدى )) إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على تحريم الانتقاص بهم، فاحذر هديت من فرطان اللسان، واللمز في أئمة الدين الذين هم رؤوس أهل الإيمان، فإن ذلك فسوق وخذلان، لا يفعله إلا المنهمكون في الأطماع ونهب بيوت الأموال، والمتوصلون بأي صورة من الاحتيال، فإنك إذا تأملت هذه المناقشات لم تجدها تصدر إلا من الذين افتتنوا بمخالطة السلطان، والأمراء والأعوان، طمعاً فيما عندهم حيث أنهم لم يخالطوهم للمؤازرة والمعاضدة لوجه الله تعالى، ولأعطوا حق النصيحة، ولا ما عندهم من الإمامة، ولا بذلوا جهدهم في الشفاعة، ومن لم يعط المخالطة حقها ويف بما يجب عليه فيها فهو مفتون في دينه، مسلوب في عقله، همه تحصيل المطامع وحشد الحافظ والدافع، ولم تجد[147/ب] إذا تأملت حق التأمل من أهل هذه الوظائف من المتاعب للأئمة إلا من وفق الله منهم، وهم قليل، وكان همه صلاح ذات البين، وإرشاد الضال، وأداء النصائح للولاة والعمال، على أحسن الأحوال، وتنبيه الأئمة على ما غفلوا وإعلامهم بما جهلوا والتحنن عليهم فيما كلفوا وشغلوا، وجعل هذه المقاصد الحسنة عنده أهم المقاصد إليه، وأقرب القرب فيما لديه، أولئك صفوة الله من خلقه المعاونين على الخير، ومن أحسن ممن رضى الأئمة عنه ورضى عنهم، ودعا لهم بالخير والصلاح، والإعانة على ما كلفوا به، وصحبهم على الوجه الجميل، المفضي إلى نيل الثواب الجزيل، أو نزه نفسه عن القيل والقال، وهذه الأحوال، واستغنى بما رزقه الله من الكفاف، ولبس ثياب

61 / 116
ع
En
A+
A-