وليس ببيت المال شيء يعده .... لدفع مهم عارض أو نوايب
فأصبح ركن الشرع والدين واهياً .... لذلك الإحكام رأي صايب
فهل يشتري الأحرار يا علماءنا .... بمال لنصر الحق من غير شايب
[142/أ]ويفرقه حلاًعلى كل موسرٍ .... لحفظ أساس الدين من كل غالب
ويجعل هذا الأخذ من بعد مفسد .... لدفع أهم منه عند النوايب
ويأخذ قدراً منه فيما يظنه .... على السنن المقبول من غير عاتب
قد أزمن أهل التقى فيه والنهى .... قليل فطوبى للقليل الأطايب
وأكثر من فيه بنوا المال فانتبه .... لذلك وافكر ليس عنك بغارب
وذا قد اتى في قصة الخضر التي .... حكى الله في خرق السفين لعائب
وقد نص أهل العلم في قتل مسلم .... يترس أهل الكفر فيه فراقب
وقال إذا ما المال صار محرماً .... جميعاً دفعنا الضر منه لذاهب
وماذا جميعاً غير فعل محرم .... لدفع أهم منه فافقه ما ربي
له ماجد أهل وأصل موصل .... ونص صريح قس عليه وقارب
ولكن على شرط بناه أولوا التقى .... ورأي إمام العصر لا رأي نائب
وأسس أركان القياس له على .... شروط وأوصاف ذكرن لطالب
وما كل ما همت به نفس طامع .... تجيء على هذا القياس لحاسب
أم الحق أن يمضي على الشرع ظاهراً .... وإن بطلت أحكامه للشوائب
ويسعى إلى الخيرات في الله جهده .... وليس عليه من تمام المآرب
فذا العلم آي محكماتٌ وسنةٌ .... فريضة عدل ما عداها فجانب

وليس لنا بالعقل تحليل حرمة .... ولا غير ما يأتي عن الله أو نبي
فقد كمل الدين الحنيف وبُينت .... لنا السنة البيضاء عن شك راتب
فمن يقف في قول وفعل ونية .... سوى إثر المحتار بعز لكاذب
وليس على شيء من الدين والهدى .... فخذ بالذي ترضى به غير هائب
فكل من القصدين ياصاح قد نجى .... فريق من الشم الكرام الأطايب
ولكن أبينوا لي هديتم طريقة .... يرجح ما يرضى الإله لطالب
وتنجو بها من أم قصد سبيلها .... ويظفر في الأخرى بنيل المطالب
هو المنتجى دفع المفاسد بالتي .... أخف هو الأولى لنا في العواقب
لأن به يعلوا ويظهر معظم .... من الشرع فاسبر ما أقول وناسب
فقد قل خير الرسل وهو مصدق .... بما قال في أخباره بالغوائب
[142/ب]بدا الدين في أصل غريب وهكذا .... يعود فطوبى للغريب المواضب
فوفوا لنا ذا الاجتهاد وحقه .... من البحث في طرق الدليل الثواقب
ولا تغفلوا شيئاً بحق فإنني .... شهي إليه راغب أي راغب
وحلوا لنا ما حل في القلب شبهة .... تصير علينا حجة للنواصب
وإلا فقولوا الحق هذا تعارض .... يوفق فيه من حُضى بالغرائب

اعلم أن هذه الأبيات أبرزتها القريحة الجامدة، والفطنة الخامدة، للعرض لها على أنظار العلماء المصاقع، وأفكار النظار بجهة المحافل والمجامع، لاستمداد الفايدة من أنظارهم الشريفة، والتمسك بحسن مقاصدهم في هذه المسألة اللطيفة، وكان السبب المستدعى لتحريرها والموجب عليَّ لتسطيرها ما رأيت من اعتراض كثير من أهل هذه الأزمنة المتأخرة على أنظار متأخري الأئمة، التي ترى في ظاهرها إنها متابعة لسيرة أئمة الجور، من حيث عدم التوقف فيها ظاهراً على أخذ الحقوق المأمور تسليمها إليهم، بل ربما أخذوا من أموال المسلمين الذي لا يحل أخذ شيء من أموالهم إلا بطيبة من نفوسهم أو بحقها قالوا وربما شوهد من هذه السيرة ما يخالف سيرة الأئمة الماضين والخلفاء الراشدين، من عدم الاقتصار على القدر المحتاج إليه في المأكل والمشرب والمناكح والمساكن والملابس. ممن هو قدوة يقتدى به في فعل الخير مع عدم التكثير فيها ممن قام بأمر الأمة، وربما شوهد عدم القيام بحق من يجب القيام بحقه والقيام بحق من لا يجب القيام بحقه عند التعارض ونحو هذا من الأشياء الكثيرة، التي صار النقم بها من كثير من الأفراد ونسبة فعل الأئمة بها إلى الأفراد.
وأنا أقول في الجواب:

اعلم وفقني الله وإياك أن هذه الاعتراضات إنما تصدر ممن صدره ضيق خرج عن المحامل الحسنة او ممن لا خبرة له بالمقاصد المستحسنة فإن الإمامة منصب عظيم وقدره عند الله فخيم، وتكليفه أعظم التكليف يحتاج صاحبه إلى سعة الصدر ونفس البال واحتمال أعباء تلك الخلافة وتلك الأثقال والصبر على كثرة القيل والقال، ومعاداة أكثر الرجال، وبهذا تنال أعلى الدرجات وتتفاوت المقامات وتضاعف الحسنات، وتكفر السيئات، وقد روي على ذهني للإمام الناصر[143/أ] للحق الحسن بن علي الحسيني (عليه السلام) ما معناه إنه كتب إليه بعض أهل زمانه كتاباً ذكر فيه له أشياء انتقص من الإمام في السيرة، وقال إن سيرة اهل الكفر أعدل من سيرته أو نحو من هذا.
فلما قرأ الكتاب عرضه على بعض خواصه ولم يزل له العرق حتى ابتلت ثيابه، وسأل خواصه ما يكون جوابه فقيل له يقتل وقيل يؤدب، وقيل غير ذلك، فلما ذهب عنه الغضب وحكم على نفسه بعد طيشه أمر أن يجاب عليه بما معناه: إنا قد عرفنا بما قلت وإنا من قوم قال الله فيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً } وقد عفونا عنك. والسلام.

واعلم إن في فضل الإمامة وعلو مقام صاحبها أحاديث جمة منها ما رواه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه السلام) عن النبي ً أنه قال: ((الوالي العادل المتواضع في ظل الله وذمته ، فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في وفده يوم لا ظل إلا ظله ومن غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله يوم القيامة.. قال ويرفع للوالي العادل المتواضع في كل يوم وليلة كعمل ستين صديقاً كلهم عامل مجتهدين في نفسه)) وقوله ً ((والذي نفس محمد بيده إن الوالي العدل ليرفع له كل يوم وليلة مثل عمل رعيته وصلاته تعدل بسبعين ألف صلاة )) وعنه ً أنه قال: ((عدل ساعة خير من عبادة سنة ، وإنما قامت السموات والأرض بالعدل)) وعنه ً أنه قال: ((إن أحب العباد إلى الله تعالى وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض العباد إلى الله وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر)) ونحو هذه الأحاديث كثيرة واصل مبني منصب الإمامة الذب عن حدود الله والحمل على القيام بحقوقه التي لا طريق لنا إلى معرفتها إلا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والعترة الطاهرة فقد قال ً ((إن الله تعالى فرض عليكم فروضاً فلا تضيعوها وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان لها ولا جهل فلا تسألوا عنها ولا تكلفوها)) أو كما قال وإذا تقرر أن المراد بالإمامة العظمى هي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ أحكام الشريعة المطهرة التي لا طريق لنا إليها [143/ب] إلا بما ذكر فإذن ليس للأئمة القايمين بهذا التكليف غير الوقوف عليها دون التعدي عنهما لكنا نقول إن كان القايم بهذا التكليف ممن

يجد له الناصر على إمضاء ما كلف به لوجه الله تعالى كما كان من الخلفاء الراشدين ومن أنصارهم كعمار والمقداد وأبي ذر وسلمان وغيرهم ممن لم يكن همه إلاَّ رفع منار الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ومناصرة أنصاره فإن من اتفق له هذا كما كان من أهل تلك المرتبة العلية والطريق النبوية فحق الله عليه أن يقتصر على ظواهر الشرع الشريف في أخذ الحقوق الواجبة والزكاة الظاهرة والباطنة والأخماس والغنايم والأموال المجهولة ويضع كل شيء منها في موضعه ولا يتعدى هذا القدر إلى غيره من أموال المسلمين لقيام الشريعة المطهرة بما ذكرنا من غير حاجة إلى غيره، وهذا لا يشك أحد فيه أنه منية الأئمة لو وجدت وطريقتهم المثابون عليها لو سلكت، والمسئولون عنها لو سلمت لكن نظرنا أتم النظرة وتأملنا أكمل التأمل فوجدنا الجم الغفير والطبق الأدهم الكثير، من أهل هذه الأزمنة داخلين في مرتبة المؤلفين الذي دفعت إليهم الإبل والشاة يوم حنين وذهب المهاجرون والأنصار برسول الله بين أظهرهم طيبين الخواطر لم يشب دينهم شايبة ولا لوت أعناقهم بعد ذلك عن نصرة الحق داهمة ولا نائبة ووجدنا القليل البرر من أهل هذه الأعصار فيه رايحة من تلك الآثار جلا إنها عصابة معلومة بالشوايب وقطعة من نور مكللة بالغياهب، فإذا صار أنظار أئمة الآل مع هذه الأحوال في أنظار مختلفات وإن كانت في حقيقة الأمر مؤتلفات فذهب سلف الأئمة من لدن زيد بن علي (عليه السلام) ومن بعده الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه السلام) إلى مسلك الصحابة الراشدين من التمسك بظاهر الشريعة المطهرة على اليقين من غير

التفات إلى تحصيل مال وتأليف مؤلف ونصر مناصر فقفوا على آثارهم واهتدوا بمنارهم فتبعهم أهل الله وأحباؤه وتخلف عنهم أعداؤه وفعل بهم ما فعل وجرى لهم من السيرة ما جرى به المثل من المثلة لبعض والحبس لبعض والقتل لبعض والتشريد لبعض وهم مع هذا غير منحرفين عن إمضاء [144/أ] المستطاع من حق الله فلله درَّهم وقد قال فيهم من قصيدة طويلة بعض أصحابنا المحبين المشايعين لأهل البيت المطهرين من أهل هجرة ضمد وهو الفقيه العلامة علي بن يحيى الهذلي رحمه الله:
لا يخدع الناس عنكم ما ألم بكم .... من كل أحمق غدار ومكار
فإنما هي إحدى الحسنيين لكم .... وللطغاة خلود بعد في النار
ما نالكم غير ما نال الكرام وهل .... بالقتل في الله بالناس من عار
لم تبعثوا الحرب لا بغياً ولا طلباً .... لنيل ملك ولا تحصيل دينار
ولا غضبتم لغيرالله آونة .... ولا طربتم إلى دف ومزمار
بلى نصحتم بني الأيام فاتهموا .... كفعلهم بأبي ذر وعمار
وعزة القوم دنياهم وما علموا .... بأنها ذات إقبال وإدبار
فإن تكن زهرة الدنيا وبهجتها .... جنابكم منها يا سادتي عار
فقد وعدمتم بعقبى الدار وهي لكم .... نصيركم وهي تجزى كل صبار

اخترتم الصوم عن دار الغرور فهل .... ترضون إلا على العقبى بإفطار
دراسة الوحي في الأسحار دأبكم .... والغير يشدو بألحان وأوتار
وأنتم الناس ليس الناس غيركم .... ما كل ماشمت من برق بمطار
وأنتم السادة الشم الذين بهم .... يوم القيامة أرجو حط أوزاري
وقد ركنت إليكم واعتصمت بكم .... طراً وأقرضتكم مدحي وأشعاري
ولا شك أن طريقة الأئمة السابقين التي اختاروها هي طريقة الخلفاء الراشدين لأنهم بذلوا مهجهم لله واشتروا أنفسهم من الله، مع معرفتهم بضعف الشوكة وقلة القدرة لكن بذلوا لله أنفسهم لم يمنعهم عن سلوك ما سلكوه عذل عاذل، ولا ميل مايل، ولا قول قايل، فاستشهدوا حميدين، وفازوا برضا رب العالمين، لما خذلهم الأعوان، وباينهم الأصدقاء والخلان، ولطمع هذه الدنيا الفان، فالله المستعان، وقصصهم وسيرهم مشهورة، وفي الكتب مسطورة مأثورة.

ولما عرف ما جرى لهم مع من مضى من أهل زمانهم وما طبق الأرض في تلك المدة السابقة من الجور والعدوان والتظالم والبغي في الأرض بغير الحق، وعدم جري أكثر الأحكام على مجرى الشريعة المطهرة، بل تعطلت وصار أمراء تلك الأيام آمرين ناهين، على مقتضى أهوائهم[144/ب] وموافقة أغراضهم وعرف المتأخرون من الأئمة أنه لا ينصر الدين، ولا تنفذ أحكام رب العالمين إلا بمال يتألف به من لابد من معونته ونصرته، أو تشد به خلة من أحوج إلى سد خلته ووجدوا أهل هذا العصر على هذا، ورأوا أن تلك الطريقة التي سلكها السلف الصالح وإن كانت هي المنهج السوي والهدى النبوي، لكن لفساد أهل هذه العصور الفساد الزايد عن حد الاعتبار، الذي يعلم بطريق الاستدلال بمن مضى أن السالك له من المتأخرين لا يتبعه فيه متبع ولا يعضده عليه ناصر، إن فرض على القلة لم يتمكن بذلك من تنفيذ حكم فذ، ولا أمر بمعروف فذ إلا قدر ما يتمكن منه الأحاد، بل ربما أدى ذلك إلى سفك الدماء وأخذ ظلامات، ولحوق تبعات، فيكون السالك هذا المسلك كالمسبب لإثارة الفتنة، فاستحسن المتأخرون من الأئمة أن يسلكوا مسالك وإن كان ظاهرها اتباع أئمة الجور في القوانين المعروفة والفرق والضيافات، ونحوها مما ضاهوا فيه سيرة الظلمة وما ذاك إلا لتحصيل ما يتألفون به الأجناد، أو يسدون به خلتهم لقصور الحقوق الواجبة عن القيام بكفايتهم لاستغراقها لمصارفها، بل ربما ضاقت عن أهلها فقرروا تلك الأحوال لهذا المقصد، يقمعون به أهل الفساد ويسدون به الثغور، ويحفظون به الطرقات، حتى يتمكن لهم الوطأة من إمضاء الأحكام الشرعية، والنهي عن

المنكرات الظاهرة والخفية، ولأن الأموال التي تختص المجاهدين، وتقوم بكفايتهم لم توجد في هذه العصور فقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) ومن بعدهم يجاهدون كفاراً، ويغنمون غنايم تكافيهم وهذه الأزمنة قد انتشر بحمد الله الإسلام، وعزَّ زاده الله قوة وعزاً، لم يبق للمجاهدين من وجهة ما يسد خلتهم، ففرض الأئمة لهم هذا الفرض والقانون في أموال المسلمين لسد خلتهم أو لتألفهم لدفع المفسدة التي تولد من خذلانهم، وقد ذكر نحو هذا بعض علماء المذاهب الأربعة، فرأوا أن هذه الأفعال وإن كان ظاهرها أنها مفسدة، وإنها لا وجه لها ظاهراً من كتاب الله، ولا سنة نبيه لكنها مفسدة حقيقة مقصود بها دفع مفسدة أو مفاسد أهم وأعظم، وهي ما يتولد من قطع الطرقات، ونهب أموال المسلمين وسفك دمائهم، والتظالم مع ما يحصل بهذه المفسدة من مصالح جمة، وهي إقامة أركان الدين الشريف، وتنفيذ أحكامه على القوي والضعيف، فأرصدوا هذه الأموال لهذه المقاصد الحسنة وهي لها[145/أ] مأخذ-من الشموع جملية، وليس الشرع منافياً نصاً ظاهراً، فقد حكى الله في قصة الخضر (عليه السلام) في حرق السفينة عنه أنه أعابها على أهلها لئلا يأخذها الظالم عليهم أصالة، فرأى أن عيبها على أهلها وإن كانت مفسدة، فهو لدفع مفسدة أعظم وهو أخذها، وإذا تقرر هذا في شرعنا فما قرره شرعنا فهو شرع لنا، وإنما أخذوا هذه الأموال على هذه الصفات والأحوال لأنها وإن كانت مظلمة فقد سكنت نفوس الرعايا إليها، ووطنت أنفسها عليها لا سيما قوانين المجابي، ولو أخذت منهم على غير هذه الصفة المعهودة لزاد التظلم والانتقاد، وعظم

60 / 116
ع
En
A+
A-