ويضاف إلى هؤلاء بعض من الدارسين والباحثين المعاصرين، ممن تناولها بالدراسة، مثل الباحثة السعودية سلوى الغالبي التي نالت درجة الماجستير على رسالتها الموسومة (الإمام المتوكل على الله إسماعيل ودوره في توحيد اليمن) .وكان اعتمادها كلياً وبشكل رئيسي على المخطوطة-موضوع الدراسة- ومن خلال استقرائنا لرسالة الباحثة اتضح لنا أنها لم تستفد منها كثيراً كما أنها استقت منها معلوماتها بعلاتها دون تمحيص أو تدقيق، وجانب آخر كان له قدر كبير من إضفاء الأهمية على المخطوطة، تمثل في معايشة مؤرخنا الجرموزي الفعلية لوقائع ومجريات الأحداث لهذه الفترة الزمنية، وكان لقربه من الإمام المتوكل على الله إسماعيل، رجل الدولة الأول، أهمية كبيرة في تسجيل الوقائع والأحداث من مصادرها-كالإمام نفسه- أو عبر المراسلات الشخصية إليه من قبل قادة الجيش والمقربين إلى الإمام.
ولقد رَكّزَتْ بشكل كبير على الأوضاع السياسية التي صاحبت عصر المتوكل، وذلك من خلال تناول مؤرخنا للأحداث التاريخية للفترة، فتطرق إلى كيفية تسَّنم الإمام لمقاليد السلطة، والعقبات الأولى التي طفت على السطح حينذاك، كدعوة أكثر من شخص بالإمامة لنفسه، ونشوب بعض الصراعات القبلية في صعدة وصنعاء. والأهم من هذا كله ما تناوله مؤرخنا من التفصيلات الدقيقة لتلك المعارك التي خاضتها قوات الإمام في مناطق أبين وعدن ولحج ويافع والشعيب وحضرموت لبسط نفوذه عليها ومن ثم ضمها تحت لواء الدولة الواحدة.
ونلمس أهمية المخطوطة بالنظر إلى ما قدمته لنا من صورة واضحة عن العلاقات الخارحية التي أقامها الإمام مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، حيث عنى مؤرخنا بتوثيق تلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام والأشراف في مكة، واليعاربة (سلطنة عمان اليوم) والحبشة، وكذا الدول المغولية في الهند، وغيرها، كما جاء في ذكره أثناء تناولنا بالحديث عن الأوضاع السياسية.
وتبرز أهمية المخطوطة أيضاً في أنها تطرقت بين دفتيها إلى الجانب الإقتصادي، وهو ما يتضح تماماً من خلال ما ذكره الجرموزي أثناء سرده لما حدث من جدب ومجاعات في بعض المناطق، وارتفاع في الأسعار كمظهر لشحة الموارد الإقتصادية في منطقة دون أخرى، يضاف إلى ذلك تأكيده لاهتمام الدولة بالتجارة في البلاد، والأنظمة والقوانين التي حددت التعاملات في السوق. وجانب آخر يكتسب قدراً كبيراً من الأهمية ألا وهو الأوضاع الإجتماعية، فقد تطرق مؤرخنا إلى بعض العادات والتقاليد التي كانت في مجتمعه كالاعتقاد بالشعوذة ، وملابس الناس ومناسباتها.
كما رصد الجرموزي النهضة العلمية التي شهدها عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل، ويتجلى ذلك في ذكره لعددٍ كبير من العلماء والفقهاء ، والذين كان لهم اليد الطولى في هذه النهضة، ومما أضفى من أهمية على المخطوطة كذلك هو اهتمام مؤرخنا بذكر أحوال العالم الخارجي عبر ما كان يصل إليه من معلومات أو رسائل. فعلى سبيل المثال يذكر وبشكل موسع الأحداث والصراعات التي نشبت بين الأشراف في مكة والحجاز نتيجة لخلافات أسرية حول السلطة. كما أنه ذهب لأبعد من ذلك فسجل وقائع رحلة العلامة الحيمي (ت 1071هـ/1660م) المشهورة إلى الحبشة كاملة، يضاف إلى ذلك تدوينه للرحلات التي قام بها بعض الرحالة الذين قدموا إلى اليمن أمثال الرحالة أحمد بن أحمد القيرواني ، والذي رصد مؤرخنا وصفه لما شاهده خلال زيارته للعديد من البلدان.
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن المستشرق البريطاني الكبير الراحل سرجنت (ت 1993م)-وهو أحد كبار المختصين المعاصرين- قد أوضح في كتابه (صنعاء: مدينة إسلامية عربية) أهمية المخطوطة بقوله: (إنها تُمثل قطعة كتابية جيدة وبارزة، بالنظر إلى مدى تغطيتها للأحداث، واختياراتها، وعرض مادتها، ونادراً ما تقارن بالتواريخ العربية لأي فترة) .
يتضح لنا مما سبق ذكره، الأهمية التاريخية لموضوع دراستنا. وحتى تتبلور موضوعات المخطوطة بشكل أوسع فسأفرد بالإيضاح كل ما أشرنا إليه من المواضيع الأساسية كلاً على حدة.
(ب): محتويات المخطوطة
1- الأوضاع السياسية
أ- السياسة الداخلية
يمثل عصر الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد مرحلة سياسية هامة في التاريخ اليمني الحديث، حيث برز كشخصية تاريخية يمنية مهمة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد منعطفاً تاريخياً هاماً تمثل في: (التداعي البطئ والطويل للإمبراطورية العثمانية...والتوسع الأوربي إلى كل جزء من المحيط الهندي) .
فكان أن مهد خروج العثمانيين الأول من اليمن عام (1405هـ/1635م) للخطوة الأولى نحو إقامة دولة مركزية، حيث تولدت هذه الفكرة في أول أمرها في ذهن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بن محمد، وازدادت معالمها وضوحاً إبان حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، الذي خلف أخاه المؤيد بعد وفاته عام (1054هـ/1644م).
وقد ذكر مؤرخنا الصعوبات التي واجهت المتوكل على الله في بداية عهده بالحكم، والمتمثلة في تلك الدعوات التي زاحمت المتوكل في دعوى الإمامة ، والتي حسمت في نهاية الأمر عبر مُناظرة -مع غيره ممن دعا لنفسه بالإمامة- في التاسع من شوال سنة (1054هـ/1644م) احتواها (مجلس عام لجميع أهل العلم وأهل الفضل) . حيث أفضى إلى تأكيد المجتمعين لأحقية الإمام المتوكل بالإمامة، لتوافر جميع شروطها فيه.
ثم عمد الإمام المتوكل بعد أن وطد دعائم حكمه، إلى اتخاذ ضوران عاصمة له، لوقوعها في جانب آنس الحصين، والذي يصعب السيطرة عليه، إضافة إلى كونها مركزاً سياسياً وقتئذٍ. ولكي يثبت سلطته-كما يذكر الجرموزي في سيرته- شرع الإمام في إخماد عددٍ من حركات التمرد والعصيان في أكثر من منطقة، كما حدث مع الشيخ يحيى بن روكان، في بلاد خولان .كذا ما جرى في شرعب سنة (1059هـ/1649م) حين رفض أهلها تسليم ما يخص الدولة من واجبات . والحوادث غير هذه كثيرة.
وقد قام الجرموزي بإعطاء صورة متكاملة عن الكيفية التي درج عليها الإمام في تعامله مع مدبري حركة العصيان تلك، فيذكر لنا أن الإمام بعد أن قبض على الشيخ بن روكان-الآنف الذكر- عفا عنه وحذره من أن يعود لمثل ذلك، بقوله: (أذن له بعد أن أعطاه كثيراً، وأحسن إليه إحساناً غفيراً) .ولم تكن تلك الإجراءات نتيجة لضعف الدولة في السيطرة على الأوضاع، وإنما كان ذلك لضرورة حتمتها هذه الأوضاع، تمثلت بالحاجة إلى كسب هؤلاء حتى لا يتكرر ذلك في قبائل أخرى. هذا إلى جانب أن فعلاً من هذا القبيل يترك الأثر الطيب في نفوسهم-أي المذنبين- ونفوس العامة على حدٍ سواء، مما ينعكس أثره إيجابياً بالإمتثال والطاعة للدولة. يضاف إلى ذلك أن الإمام اتبع سياسة الترهيب مع رؤساء القبائل، وذلك من خلال ما جسدته رسائله التي كان يوجهها إليهم للدخول في طاعته، والإنضواء تحت الدولة الأولى، وأبرز مثال على ذلك رسالته التي أرسلها للرصاص-حين تقدمت القوات الإمامية لمقاتلة لإنهاء تمرده- والتي رصدها مؤرخنا على هذا النحو، فيقول: (إنك إذا لم تطع الله سبحانه وتعالى بطاعة إمام الزمان، فأرفع الحُرم والأطفال ومن لا حاجة إليه في القتال، فإني أبرئ الله مضرة تلحقهم بسببك...) .
ويورد لنا مؤرخنا نموذجاً آخر من أشكال التمردات، تمثل في موقف الطائفة الإسماعيلية (المكارمة)، وهي أقلية توزعت بين همدان المجاورة لصنعاء، ويام نجران في الشمال منها، وحراز غرباً، وقد شكلت بمواقفها العدائية للأئمة-على مر تاريخ الأئمة في اليمن- مصدر إزعاج وإقلاق للدولة وأمنها. فيذكر الجرموزي أنها بدأت تنشط وبشكل كبير في تلك المناطق . وقد كان أن عالج الإمام هذه المسألة باستخدامه وسائل التهديد والوعيد لمن ينخرط (في هذا المذهب) ...بل وأعظم من ذلك أنه (استباح دمه وماله) .
ويوضح الجرموزي في سيرته السياسة التي اتبعها الإمام مع الأهالي، وما أولاه من إهتمام بأمور معيشتهم، حيث يذكر أنه كان يتفقد: (المظالم التي بين القبائل عموماً، وبين أهل كل بلدٍ خصوصاً وأقام القضاة للفصل) في قضايا الناس.
هذا فضلاً عن تتبعه-أي الجرموزي- للزيارات التي يقوم بها الإمام للعديد من المناطق لتفقد أحوال الرعية والنظر في شكاويهم والبت فيها، حيث تمكن الإمام بنهج سياسته هذه من خلق جوٍ من الشعور بالأمان والطمأنينة بين الأهالي، خاصة بعد ما عاشوه من قلق وخوف، وعدم إستقرار أثناء التواجد العثماني، لما مارسه ضدهم من ظلم، وما جلبته عليهم الحروب من ويلات ومآسي.
ورسم مؤرخنا وبدقة متناهية صورة واضحة للسياسة التي أتبعها الإمام كخطوة أولى لمد نفوذه إلى مدن ومناطق عدن ولحج وأبين والشعيب ويافع وبني أرض، وبلاد الرصاص وبلاد العولقي والفضلي ، بغرض ضمها في إطار الدولة الواحدة. وقد لجأ الجرموزي بتقديم هذه الصورة عن سياسة الإمام في المرحلة الأولى، إلى رصد الوقائع والأحداث والمعارك -على نحو مفصل- التي خاضتها قوات الإمام بقيادة أحمد بن الحسن بن القاسم مع قبائل تلك المدن والمناطق.
كما بين وبشكل أوسع العملية النهائية، والهادفة إلى توحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية واحدة، امتدت سطوتها فسيطرت على حضرموت ، وما جاورها من مشرق اليمن وجنوبه، وشكلت بذلك مورداً اقتصادياً هاماً، كونها حلقة وصل بالتجارة الخارجية، ولإحتوائها على عدد من الموانئ-كالمكلا والشحر- يضاف إلى ذاك تأمين حدود الدولة الجديدة مع جيرانها في الجانب الآخر.
وأثبت لنا مؤرخنا-في هذا الخصوص- عدداً من الرسائل التي جرى تبادلها بين الإمام والسلطان بدر بن عمر الكثيري، قبل وبعد السيطرة -على حضرموت وظفار والشحر.
أما بالنسبة إلى الناحية الإدراية فلم يُفصَّل مؤرخنا أي إستحداث لأية أنظمة إدارية في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، إلا أنه من الواضح أن أمور الدولة وتسيير مصالح الأمة لم تكن تخرج عن دائرة السلطة للإمام وحده، يساعده في ذلك ولاة المدن وحكام النواحي الذين أوكل إليهم-الإمام- إدارة شؤنها، وهؤلاء كانوا على اتصال مباشر بالإمام، وكان ارتباطهم به عبر ما يصلهم من أوامره وتوجيهاته- عبر رسائله إليهم- يحثهم فيها على رعاية مصالح الناس وتسير شؤن حياتهم .
ويذكر مؤرخنا في هذا الشأن أيضاً ما كان يقوم به الإمام من جولات تفقدية في العديد من المناطق للإطلاع عن قرب على أحوال الأهالي. ويذكر الجرموزي-منها- زيارته لصنعاء حيث مكث فيها أربعة أشهر في عام (1072هـ/1661م)، تفقد في مقامه (قانون صنعاء ، وغيّر أموراً أنكرها، ودقق في معرفة المنكرات حتى لا يكاد يُخفي شيء...) .
ولكي يضمن ولاء الأهالي للدولة، سعى الإمام إلى تعيين ولاة وحكام من أقربائه وخاصته، حيث أبقى- كما يذكر الجرموزي- أخيه أحمد بن القاسم على صعدة- وكان والياً عليها منذ تعيين أخيه الإمام المؤيد له- ثم عين عليها بعد وفاته-أي أحمد- ابنه الحسين بن أحمد.
وبالنسبة لما كان يسمى باليمن الأسفل -إب وتعز- فقد ولى عليها ابن أخيه محمد بن الحسن، وأمر أن (يستعمل على بلاد يافع السيد المجاهد شرف الدين بن المطهر...) ، وعيّن (على بلاد الرصاص ودثينة وما والاها الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل...) .
وإذا ما انتقلنا للحديث عن التقسيمات الإدارية فسنجد أن مؤرخنا لم يتطرق إلى ذلك في سيرته، حيث لم يذكر أي إجراء يتعلق بهذا الجانب ولو ضمناً، وهو ما يمكن تفسيره من أن الإمام المتوكل على الله إسماعيل قد أبقى على التقسيمات الإدارية العثمانية السابقة.
وللحديث عن الجيش يمكن القول أن السيرة -كما لمسنا من مطالعتنا لها- لم تشر إلى قيام جيش منظم بالمعنى الصحيح-كما هو في عصرنا الحالي- حيث كان غالب الجيش عبارة عن فرق من القبائل، ممن كان يهمها كسب المغانم كما هي العادة أثناء الحروب، وسنرى أن تلك الفرق لم تكن مستقرةً في أماكن أعدت خصيصاً لهذا الغرض-معسكرات- وإنما كانت القبائل إذا ما دّعت الضرورة تلبي-كما يقول الجرموزي- نداء الحرب عند سماعها (النفير) .
ويتضح من خلال السيرة أن الإمام كان هو السلطة المطلقة على الجيش-يقابله في عصرنا الحاضر القائد العام للقوات المسلحة- وأسند مهمة قيادة وتنظيم وصرف رواتب الجنود إلى أبني أخيه أحمد بن الحسن ، ومحمد بن الحسن ، ويساعدهما عدد من القادة ممن يعيّنهم الإمام.