واستهلاك الأموال، وكان رسول اللهً إذا جهز جيشاً وافتقر إلى المال استقرض، قلنا: نقل الاستقراض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه بأن يخرجوا شيئاً من فضلات أموالهم، إلا أنهم كانوا يبادرون عند إيمائه إلى الامتثال مبادرة العطشان إلى الماء الزلال، ولسنا نكرر جواز الإستقراض ووجوب الإقتصار عليه إذا دعت المصلحة إليه، ولكن إذا كان الإمام -عليه السلام- لا يرتجي انصباب مال إلى بيت المال يزيد على مؤن العسكر ونفقات المرتزقة في الإستقبال، فعلام هذا الإتكال في الاستقراض مع خلو اليد وانقطاع الأمل في المال.

نعم! لو كان له مال غائب أو حاضر أو جهة معلومة تجزي مجزي الكائن الموثوق به فالإستقراض أولى، وينزل ذلك بمنزلة المسلم الواحد المضطر في مخمصة إلى الهلاك، فعلى الغني أن يسد رمقه ويبذل له من ماله ما يتدارك به حشاشته، فإن كان له مال غائب أو حاضر لم يلزمه التبرع، ولزمه الإقتراض، وإن كان فقيراً لا يملك نقيراً ولا قطميراً فلا نعرف خلافاً في وجوب سد مجاعته من غير اقتراض وكذلك إذا أصاب المسلمين قحط وجدب، وأشرف على الهلاك جمع، فعلى الأغنياء سد مجاعتهم، ويكون ذلك قرضاً على الكفاية، ويخرج بتركه الجميع، ويسقط بقيام البعض به التكليف، فذلك ليس على سبيل الإقتراض، فإن الفقراء عالة الأغنياء يتنزلون منهم منزلة الأولاد ولا يجوز للقريب أن ينفق على قريبه[118/أ] بالاقراض إلا إذا كان له مال غائب، وكذلك القول فيما نحن فيه، فهذا وجه المصلحة، وهو من القطعيات التي لا مرية في اتباعها، إذا ظهرت ولكن النظر تصويب المصلحة على الوجه الذي قدرناه، وأصل أخذ المال متفق عليه بين العلماء وإنما الإختلاف في وجوب تعيين الإستقراض، وفي ما ذكرناه من التفصيل ما يشفي الغليل إن شاء الله تعالى. إنتهى. وقد سوى في شرح الزيادات للعلامة المحقق يوسف بن أحمد بن عثمان -رحمة الله عليه- بين كلام الغزالي هذا الذي أردناه، وبين أئمتنا حيث قال في شرح قوله: وإذا كان لرجل فضل مال يلزمه انفاقه، هذا قول المؤيد بالله، وهو مروي عن الهادي ومحمد بن عبدالله، والناصر بن الهادي، والقاسم بن علي، والمنصور بالله، وذكره الغزالي في شفاء العليل، وإنما يجوز بشروط هي في تعليق اللمع.

انتهى.
فهذا كلام العلماء على اختلاف مذاهبهم متفق في هذه المسألة، وكما قاله صاحب الطبقات أبو جعفر البلخي من الحنفية، فإنه قال في مسألة ما يضرب السلطان على الرعية مصلحة تصير ديناً، واجباً حقاً مستحقاً، كالخراج وضربة المولى على عبده، ورسول الله ً أمر أهل المدينة أن يردوا الكفار بثلث ثمار المدينة،ثم نصفها، وكان ملكاً للناس، ومع ذلك قطع رأيه دونهم، هذا كلامه.
وقد مر ما ذكره من أن النبي ً أمر أصحابه بحفر الخندق حول المدينة، ووضع أجرة العملة على من قعد، وكذا أصحاب السلطان، وروي عن بعض علمائهم أنه قال: مشايخنا وكل ما يضرب الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق، ونصب الدروب وأبواب السكك.
وقال في الهدي النبوي في سياق غزوة تبوك: ثم إن رسول الله ً جد في سفره، وأمر الناس بالجهاد، وحظ أهل الغنى علىالنفقة، والحملات في سبيل الله، فحمل رجل من أهل الغنى وأحسنوا، وأنفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.

قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأجلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عيناً، وقال فيه أيضاً: وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه، بل جاء مقدماً على الجهاد بالنفس في كل موضع، إلا موضعاً واحداً وهذا يدل على أن الجهاد به أهم، وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي ً: ((من جهز غازياً فقد غزا )) فيجب على القادر عليه بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إلا لبذله، ولا ينتصر إلا بالعُدة والعدد، فإن لم يقدر[118/ب] أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة، وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى.
وقال أيضاً: إن العاجز بماله لا يُعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه.
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر ما أعطاه النبي ً لقريش والمؤلفة قلوبهم: وإن النبي ً لم يستأذن الغانمين في تلك العطية؛ لأنهم ملكوها بخوزها والإستيلاء عليها.

قال: فلو وضع الغنايم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة، والمصلحة والعدل ولما عميت أبصار ذوي الحكمة، قال له قايلهم: أعدل فإنك لم تعدل، وقال مشبهه: إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله، حتى قال: فإن قيل فإن دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدو، هل يسوغ له ذلك؟ قيل: الإمام نائب المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعيّن ذلك للدفع عن الإسلام والذب عن جوزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون ساغ له ذلك بل تعين عليه، وهل تجوز الشريعة غير هذا؟ فإنه وإن كان من الحرمان مفسدة فالمفسدة متوقعة من فوات تأليف هذا العدد أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدين والدنيا على هذين الأصلين، وبالله التوفيق. انتهى.

وقال في (شرح المنهاج في أصول الفقه) للسبكي : أما إذا خلت الأيدي، ولم يكن في مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولم يفرق العسكر واستغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى طريق التوزيع التخصيص بالأرض فلا حرج؛ لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران، دفع أشدهما، وما يؤديه كل واحد منهما قليل بإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه، وما لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة تحفظ نظام الأمور، وتقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة بدنه وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك جير حران يتوقع ما هو أكبر منه.
فصل: واعلم أن السبب في الجهل بهذه المسألة التي لا ينبغي لأحد جهلها، ولا يخفى عند محققي العلماء حكمها، هو الجهل، وماهيته اعتقاد أنه ليس إلا القتال وملاحمته وليس كذلك، ولكنه الدعاء إلى الدين، وسواء أكان بالقتال أم بغيره كجهاد المنافقين الذين أمر الله به نبيه ً حيث يقول{جَاهِدِ الْكُفَّارَ[119/أ] وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ومنه العُدد، بكثير العَدد والإيماء عليه بالمال والمدد ومنه ارتباط الخيل، واعداد القوة والذي يجب فيه بذل الاستطاعة، وانفاق ما أمكن ودخل تحت الطاقة، بصريح دليل قوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} .

والإمام ومن معه خليفة للنبي ومن معه، يغيظ الله بهم أعدائه، ويعز بهم أولياءه، ويجب على المسلمين انفاق أموالهم [فيما] يعز الله به الإيمان وأهله، ويذل الفُساق وأرباب النفاق، فهم في كل وقت مجاهدون، وعلى اعزاز كلمة الله ونصرته مثابرون، كما قال علي -عليه السلام- في عهده للأشتر: (واجعل لنفسك في ما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، واجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها إذا صلحت فيها النية، وسلمت من الرعية).
وقد روي عن النبي ً أنه قال: ((عامل الزكاة في جهاد)) ، فالجند هم الحُفاظ للشريعة وحدودها سواء قاتلوا على ذلك أو على بعض منه، أم اندفع ذلك بسبب وجودهم، وعظم هيبتهم، فالهيبة والإرهاب من أعظم ما ينصر الله به المؤمنين، ويخذل به الكافرين، ويدل على أنهم في كل وقت)).

كذلك قول النبي ً: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين )) فأخبرً أنهم على ذلك لا ينفكون عنه ولا يزولون، ولا يميلون ولا يتحولون، والإمام خليفة الرسول ً وكان حاله ً كما قال في الهدي النبوي: (فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان، والسيف واللسان) فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ويقدم ما قال علي بن أبي طالب -عليه السلام- في حديث الأشتر: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس يقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام [للجنود] إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم) فانظر ما أجمع هذه المقالة وما أبين هذه الدلالة، وصلوات الله وسلامه على أئمة الهدى الذين اهتدوا بهدي محمد ً وهديه، وساروا سيرته في رعايته للأمة ونصحه، وانظر إلى وصيه علي -عليه السلام- للأشتر (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)، حتى قال: (فربما حدث من الأمور ما إذا عولت[119/ب]عليهم من بعد ما احتملوا) إلى آخر ما قال، فأثبت -عليه السلام- المعونة في أرض الخراج زايداً على ما ضرب عليها من الأمور ما يحتمل ذلك كما ترى.

نعم! قد أطبق العقلاء واتفقوا على جعل جزء من أموالهم لمن يحرسها ويحميها ممن يخاف منه، وحماية الأديان وحفظ بيضة الإسلام، وشوكة الإمام الذي به نظام لا ينقص عن ذلك بل هو أولى قطعاً وأرجح عند أولي الدين والتُقى عقلاً وسمعاً.
فصل: فهذه الأدلة القطعية والبراهين العقلية والسمعية قد دلت على ذلك بأبين الدليل وأصرحه وشهدت على مُنكر ذلك في أنه أعظم الجهل وأقبحه، وكيف إذا أنضاف إلى ذلك ما ينوبه الإمام من التضمين لأهل الحقوق والمظالم، الذين لا يقسمون للنساء، ولا يتحرجون من أكل مال اليتامى، حتى حكم الإمام عز الدين -عليه السلام- في باب الوقف بأنه لا يصح وقف العوام ولا غيرهم، لما علم من مصير أملاكهم ببيت مال؛ لإلتباس أهلها بسبب ترك القسمة لمستحقها من النساء وغيرهم، هذا معنى كلامه، ولم يحضر عندي كتابه حال كتابة هذه المسألة.

وقال صاحب التذكرة في كتابه (التيسير في التفسير) ما حكايته: إن من له الولاية إذا أراد أخذ شيء من مال الرعية، وهو يعتقد أن ما في أيديهم لبيت المال لما شوهد من اختلاط الحلال بالحرام وغيره من الأسباب الموجبة لذلك فهاهنا له أن ياخذ حتى لا يبقى معهم إلاَّ قدر أقواتهم، وفي هذه الحالة ترتفع عنهم الواجبات المالية لعدم ملكهم لما تحت أيديهم من المال، وكيف إذا انضاف إلى ذلك الحكم على ما استولى عليه المجبرة، والمشبهة؟ وظهرت فيها كلمتهم، وكانت الشوكة لهم وسواء كانت عقيدة أهل تلك الجهة كعقيدتهم أم لا، فإن ظهور كلمة الكفر من غير جواز تصير إلى ذلك ما ذكرناه من ساير الوجوه حسب ما يراه الأصلح للمسلمين، كيف إذا انضم إلى ذلك ما ذكرناه من ساير الوجوه في الجواب عليك بصنعاء؟ ولكن ذكر الواضح الجلي والإستدلال عليه بالخفي مضر بالذكي من الناس والغبي{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } {وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } نعوذ بالله من الضلالة، ونسأله العصمة والهداية، ولم يزل الأئمة -عليهم السلام- وهم أولو العزم عاملين بذلك وسايرين به إلى يومنا هذا ولكن من جهل هديهم عاب علمهم وعملهم، ولن يضر الله شيئاً، وحسبنا الله وكفى.

51 / 116
ع
En
A+
A-