الذين أمر الله عليهم، فأنفق بعض أغنياء المهاجرين كل ماله، وبعضهم جمهور ماله، وبعضهم شطره، وبعضهم أعطى جهده، وشاطر الأنصار أموالهم، ومدحهم الله وأثنى في غير موضع من القرآن ومن ذلك قوله: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فحصر الفلاح على من وقي شح نفسه بماله .
قال علي -عليه السلام-: فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعزالدين، وسُبل الأمان، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجند إلا بما يخرج لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم. انتهى.
فكيف حال من سعى في قطع سنام الدين الذي جعله الله التجارة المنجية من العذاب الأليم؟ حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ولا عذر لك في التحريف غداً، ولا أقبح من الكذب افتراء ومن أظلم ممن افترا على الله الكذب، وبدَّل كلام الله، ونهى عن شريعة الله، وإن زعمت أن ذلك إنما تجب من الحقوق والزكوات، وأنها تقوم بذلك فإن كنت جاهلاً فليس لك في الجهل عذر، لأن الله قد أخذ على الجاهل أن يتعلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون َ} {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ولكنك ظننت نفسك عالماً، ولم تزاحم العلماء، وسررت بنفسك لما حرثت في الخلاء فظننت زرعك يافعاً قبل آوانه، واعتقدت أن خيال النايم كعيانه، وأن الكلام عند طغام العوام كالكلام عند العلماء الأعلام، ورأيت كلامك عند الجهال والعوام[115/ب] أحسن مرأى، وهو كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذاجاه لم يجده شيئاً، على أن هذا حالكم من أوضح الأحكام عند أولي الهداية، ومن أجلى ما يفهم من القرآن والسنة لولا العماية، وفرض الإنفاق في سبيل الله غير فرض الزكاة يجب الإنفاق في العسر واليسر وبحسب الحاجة، وثوابه أعظم الثواب، وعقاب الإخلال به
من أعظم العقاب، والزكاة واجبة النصاب، وغير لازمة في كل من الأسباب، دل عليها السمع.
قال الهادي -عليه السلام-: ونحن نقول وكل ذي فهم وبصيرة من العلماء أن الإمام المحق العادل المستحق له أن يأخذ من المسلمين العفو من أموالهم اليسير الذي لا يضرهم، ويرده على صلاحهم وصلاح بلدهم، يدفع به العدو الفاجر عن أموالهم وحرثهم، ودمائهم أحبوا أم كرهوا، أطاعوا أم أبوا، ثم يقول إن ذلك من حسن النظر بهم الذي لا يجوز له عند الله غيره، إلا أن يجد منه بداً أو عن أخذه منه مندفعاً، وإن لم يكن إلا انقضاض عسكرهم، وهلاك المجاهدين الذين معه، أو أخذ ما يأخذ من الرعية؛ لأنه إن قصَّر في ذلك أُنقص العكسر وافترقت الجماعة، وذل الإمام والمؤمنون، وهلكت الرعية والمستضعفون، وقوى عليهم الأعداء الفاجرون، وملكهم الجبابرة الطاغون، فأخذوا الأموال، وقتلوا الرجال، وأهلكوا الأطفال، واصطلموا الأموال، ومات الحق وظهر الباطل والفسق، هذا ما لا يحل لإمام الحق أن يفعله، حتى قال -عليه السلام-: وإذا كان كذلك فأخذوا جزءاً من أموال المسلمين فرض عليه في ذلك الوقت، فإن قصر فقد شرك مهلكهم في مهلكتهم، ثم ساق -عليه السلام- كلاماً طويلاً استدل فيه بأن العقل دل على ذلك، وضرب له أمثلة ضرورية عقلية، وسيأتي كلام غيره من العلماء مثل ذلك، وهل سبيل مقالك هذا وإنكارك لفرض قد أكده القرآن إلا سبيل ما دعا إليه مسيلمة، من إسقاط الفروض التي جاء بها محمد ً طمعاً أن ينال بكذبه ما يريده من الرئاسة، وظناً أن ذلك يوهن الحق ويؤيد الضلالة، وكفى بالله وآياته حجة عليك، وحسبي الله ومن
أتبعني، وهو نعم المولى ونعم النصير.
فصل: وليست هذه المقالة مجهولة عند العلماء، ولا مغفول عن ذكرها عند الفضلاء، بل قد أوضحوا فيه الدليل، وأزاحوا به الأباطيل.
قال في التقرير: أما الإستعانة بمال المسلمين، فقال محمد بن عبدالله بذلك، وذكر لفظه في المسألة التي قال: وذكر[116/أ] المنصور بالله أنه تجوز أخذ المعونة من أموال المسلمين لجهاد أعداء الله رب العالمين، وروي ذلك عن الهادي -عليه السلام-، وقال: إنه نص عليه في جوابه لمن اعترض عليه في أخذ المعونة من أهل صنعاء، وذكر في التقرير لفظ الهادي -عليه السلام- بطوله.
قال: وروى المنصور بالله أن القاسم أخذ المعونة من البلاد التي استقرت عليها ولايته غير مرة -يعني القاسم بن علي- لأن القاسم بن إبراهيم -عليه السلام- لم تستقر ولايته في بلد فيما علمنا والله اعلم، وذكر جواز ذلك الناصر بن الهادي في تفسير سورة براءة، وإلى جواز أخذ المعونة أشار المؤيد بالله، فإنه قال: من كان معه فضل مال فإنه يلزمه انفاقه في الجهاد، ويكون مأثوماً بتركه، وقد ذُكر عن المنصور بالله في (هداية المسترشدين) ما لفظه: وكذلك ما فرقناه على العشر من الشاة ديناراً بعد زكوتها، ومن المائة الشاة جعلنا ذلك معونة برأي كبار البلاد وصلاحهم، وشاورنا أهل العلم، وأستقرينا الأثر النبوي، فشاه ذلك لكل وجه، وقد فعل الهادي -عليه السلام- مثل ذلك بصنعاء، ونُقد عليه في ذلك، فأجاب عليه بكتابه المعروف المشهور في (مسائل الطبري) وجعلنا على الظاهر وبلاد بكيل، وبني معمر، قدر خمسة آلاف دينار في كل سنة، ما دامت للغزو شوكة في صنعاء، وقال فيها أيضاً، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ففي المال أولى، وما كان للنبي فهو للإمام إلا ما خصه الدليل على أن لولي اليتيم أن يدفع قسطاً من ماله للدفاع عن سايره، ففي أمر الدين أولى؛ لأن المال يترك للدين، والدين لا يترك للمال، ولا ينكر ذلك من سير آبائنا -عليهم السلام- إلا جاهل، وقال أيضاً: وأما الضرائب وقبالات الأسواق والجلايب وإكراه أهل الذرايع، وأخذ أكثر من الزكاة، فيجوز للإمام من ذلك ما يسد به الثغور، ويصلح به الجمهور، وعليه الإجتهاد مع توفيق الله، وقد كتب
رسول الله ً يوم الخندق لعتبة بن حصن ومن تابعه من غطفان بثلث ثمار المدينة من غير مشورة أهلها، فلما عرَّفوه بحالهم وقوتهم أعطاهم الكتاب فمزقوه، وجوازه للإمام أولى، لأن ما كان للنبي فهو للإمام بعده إلا ما خصه الدليل وقوله تعالى{إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } يحمل على الجهاد بالنفس والمال، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اجعل مالك دون دمك ، فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ونفسك دون دينك))، وقال عز من قائل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[116/ب] ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فجعل تعالى الإيمان به مقروناً بالجهاد بالنفس والمال وتوعد على ترك ذلك، وذلك حكم الواجب بلا شك، وقد خرج المهاجرون من أموالهم ودورهم، وكذلك الأنصار شاطروهم في المال والدار والنسوان، في من له امرأتان، وما أسلفه النبيً فهو دليل على جواز الإفتراض يستدل به. انتهى.
وقال أيضاً: وأما أمر الخرصي فأمرنا فيها بالخمس، فعشر هو الواجب وعشر معونة في الجهاد، وأردنا ذلك من قبل الإشراف ومن لا تحل له الزكاة.
وقال الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام- ما لفظه: وصاحب هذه الرسالة إما أن يكون قائلاً بإمامة المنصور بالله، أو غير قائل بها فنحن آخذون عليه ما أخذ ومتخذون من الولاة فوق ما اتخذ، وإن لم يكن قائلاً بها فهو -عليه السلام- لنا قدوة، ولنا به أسوة، كذلك من مضى من أئمة الهدى، فإنا ما سلكنا إلا منهاجهم، ولا قفونا إلا أدراجهم، وهلم إيضاح الدلالة على هذه المقالة، وهذا إمام الأئمة وواسطة عقد العترة الطاهرين الهادي إلى الحق -عليه السلام- أخذ من أهل صنعاء عند خروج ابن الفضل الملحد ربع أموالهم أفرازاً ومقاسمة ليدفع به كيد عدوهم، وذكر -عليه السلام- أن الإمام يجب عليه أن يطلب المعونة من المسلمين عند خوفه على الإسلام، ومتى ترك ذلك كان مُخلاً بواجب.
انتهى لفظ الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام- وما أحق المعترض علينا أن نقول في جوابه كما قال.
وقال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام- ما لفظه: الفصل التاسع أعرفكم أن الله تبارك وتعالى كما طلب منكم الجهاد بالأنفس وبذل المهج التي هي أعز الأشياء في سبيل الله، فقد طلب منكم بذل الأموال في سبيل الله وجعلها توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فقال تعالى{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } حتى قال -عليه السلام-: فقد صار الجهاد بالأموال في هذا الزمان والحاجة إليه أعظم ما ننصر به الدين، إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال الإمام الحسن بن عزالدين في القسطاس ما لفظه: وكما إذا خشي على أموال المسلمين من البغاة ونحوهم، فيجوز لمن له الولاية على المسلمين أن يشاطرهم في أموالهم ليدفع بهم من يريد أخذ الكل.
وقال الغزالي: بعد أن ذكر أن للإمام المطاع المتفقر إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك[117/أ] بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته علىالأغنياء ما يراه كافياً لهم -أي الجند في الحال- ثم قال بعد كلام طويل ذكره في هذا المعنى ما لفظه: ثم الكلام الشافي للغليل أن السايل إن أنكر وجه المصلحة في ما ذكرناه ورأيناه وقلنا إن لم يفعل الإمام ذلك تبدد الجند وانحل النظام، وبطلت شوكة الإمام، وسقطت أبهة الإسلام، وتعرضت ديارنا لهجوم الكفار، واستيلائهم وأخذهم النفوس والأموال، ولو تُرك الأمر فلا ينقضي إلا قدر يسير، وتصير أموال المسلمين طمعاً للكفار، وأجسادهم درية للرماح، وهدفاً للنبال، ويثور بين الخلق من التغالب والتواثب ما تضيع فيه الأموال، وتُعطل معه النفوس، وتُهتك معه الحرم، ونظام ذلك شوكة الإمام بعدته، وما يحذر إلمامه من الدواهي بالمسلمين، إذا انقطعت عنهم شوكة الجند مستحقر بالإضافة إليها أموالهم، فإذا رددنا بين هذا الضرر العظيم وبين تكليف الخلق حماية أنفسهم بفضلات اموالهم فلا يتمارى في تعيين هذا الجانب إذ لا شك في حماية النفوس والحرم وأكثر الأموال بفضلات الأموال وهذا مما تعلم قطعاً من كل مقطوعي الشارع في حماية الدين والدنيا، قبل أن يلتفت إلى الشواهد المعينة من أصول الشرع، وساق كلامه حتى قال: ثم خاصة هذه المصالح القطعية أنها لا تعدم قط شواهد
من الشرع كثيرة، فأبعدها من الشهادة ظاهراً، وهي أقربها تحقيقاً، هو أن الأب في حق طفله مأمور برعاية الأحسن، وأنه ليصرف ماله إلى وجوهٍ من النفقات والمؤن في العمارات، وإخراج الماء من القنوات، وهو في كل ذلك ينظر له في ماله لا في حاله فكل ما يراه سبباً لزيادة ماله أو لحراسة في المال جاز له تحصيل المال في مصلحته ومصلحة حفظه للإسلام وكافة المسلمين (لا يتقاصر) عن مصلحة الطفل ولا يضر الإمام الذي هو خليفة الله في أرضه ويتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في طفله، فكيف نستخير منصف إنكار ذلك مع الإعتراف بظهور هذه المصلحة، وإن أنكر منكر وجه المصلحة فعلينا تصويرها، والحكم بالتحريم عند انتفاء المصلحة.
وأما الشواهد الظاهرة القريبة من هذا الجنس إن الكفار لو وطئوا أطراف دار الإسلام، يجب على كافة الرعايا أن يطيروا إليهم بأجنحة الجد، فإذا دعاهم الإمام إلى ذلك وجب عليهم الإجابة، وفيه اتعاب النفوس، وانفاق المال، وليس ذلك إلا لحماية الدين، ورعاية مصلحة المسلمين، فهذا في هذه الصورة قطعي وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ما إذا لم يهجم الكفار وكنا نحذر هجومهم ونتوقع[117/ب] ابتعاثهم ولو استشعر الإمام من شوكة الإسلام وهناً وضعفاً وتفرقاً، فالواجب على كافة الخلق إمدادهم، كيف ولو لم نبث جنود الإسلام في بلاد الكفار لانبثوا في ديارنا عن قرب، ولطال ما قيل: (الروم إذا لم تُغز غزت) ومهما سقطت شوكة الإسلام كان ذلك متوقعاً على قرب من الأيام، كيف والجهاد في كل سنة واجب على كافة الخلق، وإنما سقوطه باستغلال أقوام من المرتزقة به فكيف يتمارى في وجوب بذل المال في مثل ذلك وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ضرباً للتمثيل انبساط ظل الإسلام على أقاصي الغرب والشرق وإطباق الدين أطراف الأرض ذات الطول والعرض، حتى لم يبق من الكفار نافخ نار ولا طالب ثأر، فلا يؤمن هيجان الفتن بين المسلمين، وثوران المحن في نزعات المارقين، وهذا الداء العضال وفيه تستهلك النفوس والأموال، ولا كافي لأمثالها إلا سطوة الإمام، ولا كافٍ عن فسادها إلا قهر الوالي المستظهر بجند الإسلام، ولو اتفق شيء من ذلك لأفتقر أهل الدنيا إلى نصب حُراس، ونقض أكياس على آخرهم، ثم لا يغنيهم ذلك فهذه مصلحة ملايمة قطعية، لايتمادى منصف في وجوب اتباعها، فإن قيل في الإستقراض غنية عن المصادرة،