منهج المؤلف
عاصر المؤلف- كما سبق وأن أشرنا- ثلاثة أئمة، فترة زمنية هامة من التأريخ اليمني الحديث، كتب عنها كشاهد على ضوئه منهجه أثنا كتابته مؤلفاته.
ومن خلال دراستنا لمؤلفه (تحفة الأسماع) تبدو لنا معالم منهجه واضحة، فنجده يحدد في بداية كتابه الغرض من تأليفه، حيث يقول: (وقد دعاني محبة العترة النبوية كما أمرني رب البرية وجاءت الآثار المصطفوية ...) وإنه قد تناول قبل هذه السيرة سيرتي الإمام القاسم بن محمد ، وولده المؤيد بالله، ثم يبين الاختلاف الذي نشا عقب وفاة المؤيد الأمر الذي تمثل في ظهور أكثر من شخص يدعي أنه الأحق بالإمامة .
ثم يبين بعناية بالغة، وتفصيل دقيق، المنهج الذي سار عليه في تناوله مؤلفه سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، في شتى جوانبها الشخصية والحربية والسياسية، حيث يقول في مقدمة مؤلفه: ( فصل في ذكر نسبه، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وسجاياه، وصبره، ونفقته على الأمة، ودعوته، وكراماته، ونبذة من رسائله في الدعاء إلى الرشاد، ويسير مما امتدحه أهل العصر من العلماء والشعراء وعيون مما عاصره من العلماء...) ويفرد بالحديث بعد عرضه لموضوعات كتابه كل عنصر ذكره بشكل منفصل، فيقول: أما نسبه الشريف فهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، إسماعيل بن القاسم بن محمد ..) .
ويختلف نهج الجرموزي في تناوله للأحداث عن نهج من عاصره من المؤرخين ممن كتبوا عن الفترة، أمثال يحيى بن الحسين في مؤلفه ( بهجة الزمن) (والتي لا تخرج عن إطار المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية) بالتزامها بترتيب الأحداث على طريقة الحوليات حيث اتبع أسلوب السرد القصصي في كتاباته، إلى جانب اهتمامه -بالطبع- بالتوقيت الزمني ورصد الأحداث بتبيان تواريخها.
وبحكم موقعه بصفته واحداً من كبار مسؤولي الدولة، ولسعة اطلاعه وقربه من الأحداث، كان يستقي معلوماته من مصادرها المباشرة، أمثال كبار موظفي الدولة ومستشاري الإمام، وغيرهم من القادة العسكريين الذين عاينوا وقائع الأحداث عن قرب وتتبعوها عن كثب، فهو في موضع-على سبيل المثال- يدّون حديثاً دار بينه وبين الإمام، عند موت فاطمة بنت الحسن، زوج الإمام، في عام (1065هـ/1054م) فيقول: ومما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين-أيده الله- أنها جمعت حليها والفاخر من ثيابها وأرسلت بها إلى والدتها...لتقطع نفسها عن الداعي إلى لبس شيء من ذلك...) ، وفي موضع آخر يستقي معلوماته من المقربين للإمام والقائمين على خدمته، فنجده يقول: (وأخبرني بعض الخدم لمولانا الإمام وهو من الترك الذين لا يعرفون هذه المقاصد) .
وقد شكلت تلك الرسائل والتي كانت تصل إلى الجرموزي، سواءاً أكانت من لدن كبار المسؤلين في الدولة، أو من لدن من يستعين بهم الإمام في تسيير أمور البلاد -وهم بمثابة المستشارين في وقتنا الحاضر- مصدراً آخراً من مصادر توثيق أحداث كتابه، فنجده عند وصفه للصعوبات التي قابلها قادة القوات الإمامية أثناء سيطرتهم على حضرموت سنة (1072هـ/1661م) يقول: (أخبرني بعض الخواص مكاتبة أن الإمام -عليه السلام- قال: وقد شكا عليه مولانا الصفي أحمد بن الحسين ما لقي من المتاعب في هذا المخرج...) ولم يكتف المؤلف في رصده للأحداث على هذا النمط في استقصائه الأخبار، بل عمد أيضاً إلى شهود العيان ممن شهدوا وقائع الحدث الذي يرونه ساعة حدوثه، فوثق تلك المشاهد في كتابه، دليلاً على مصداقية الحدث ووقوعه الفعلي. فعلى سبيل المثال عند تناوله لما كان من أمر أحمد بن الحسن، وسيطرته على عدن في سنة (1055هـ/1644م) بهجومه على أميرها الحسن بن عبدالقادر، بغية بسط نفوذه وإحكام سيطرته على المدينة...، يسوق الجرموزي هذا الحدث عن شاهد عيان أثناء تواجده وقت وقوع الحدث، فيقول: (...وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا أحمد-حفظه الله- تقدم إلى بيت الأمير المذكور...) .
ومصدرٌ آخر أيضاً من مصادر تسجيل الأحداث، كان قد لجأ إليه الجرموزي، هو استقاؤه المعلومات عن طريق رسله الذين مثلوا حلقة الوصل بينه وبين الإمام في نقل قضايا ومتطلبات ناحيته عتمة، التي كان حاكماً عليها حينذاك، حيث يقول: (...مما أخبرني بعض المترددين من رسلي وقد وصف كثيراً من سعة صدره وضيافته...) .
وسنلمس في ثنايا الكتاب أسلوباً آخر لمؤرخنا يتمثل في رصده بعض أحداثه، وكأنه يكتب مذكراته، فهو مثلاً يسرد لنا حدثاً ما، وفجأة يتوقف تاركاً أكثر التفاصيل لنتائج ذلكم الحدث، لينقلنا إلى حدث آخر-كان قد شرحه من قبل- فيضيف أشياءً قد استجدت عن الحدث نفسه، وكان قد رصدها في مذكراته، غير أنه لم يدونها في كتابه، ومن ثم يعود إلى السرد التاريخي بعبارته التقليدية ، على مثل هذا النحو: (ولنرجع إلى أخبار صنعاء، وقد تقدم أن مولانا محمد بن الحسن...) أو: (رجعنا إلى أخبار صعدة، قد ذكرنا خروج مولانا أحمد بن الحسن...) .
ولم يكن الجرموزي يختلف عن سائر مؤرخي عصره فيما يتعلق بتوثيق المعلومات والأحداث، فنقل عن كتب المؤرخين المعاصرين له. وهو بذلك قد اعتمد على مصادر لروايات بعض الأحداث، كان القصد منها التثبت من صحتها، وذلك ما يتضح في كتابه (النبذة المشيرة) حيث وثق كثيراً من أحداثها مما استقاه من كتاب (روح الروح في ما جرى بعد المائة التاسعة من الفتن والفتوح) لمؤلفه المؤرخ: عيسى بن لطف الله ، كقوله: (قال عيسى بن لطف الله: إن قائفة قتلوا من محطة العجم فوق ستمائة...) .
وفي موضع آخر يورد-نقلاً عن كتاب (اللآلئ المضيئة في أخبار الأئمة الزيدية) - قوله: (...قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي: ومن كتبه -عليه السلام- جواباً عليَّ...) .
وفي مواضع أخرى كثيرة يكتفي الجرموزي بالإشارة إلى اسم المؤلف فقط، كما يرد في عبارته هذه: (ذكرها السيد أحمد في كتابه) أو هذه (قالها عيسى بن لطف الله).
ونود أن نوضح أن ما كان من أخذه عن هذه المصادر، قد اقتصر -على النقل الحرفي ليس أكثر، فلا هو علق عليها اثباتاً أو نفياً أو ترجيحاً ولا هو عابها منتقداً.
ونشير-في هذا الموضع- إلى أن الجرموزي قد أفرد اهتماماً خاصاً بتلك الرسائل التي كان الإمام المتوكل على الله إسماعيل يتبادلها مع قواده أو حكام الأقاليم، والتي كانت تحمل أوامره وتعليماته وتوجيهاته لتدبير شئون الدولة، وكذا تلك التي كان يرسلها إلى أمراء ورؤساء الدول الأجنبية. وهكذا قام المؤلف بإثبات نصوصها في كتابه، فمثّلت مادتها بذلك وثائق بالغة الأهمية عن هذا العصر وما اتصل به من ظروف محلية وعلاقات كانت قائمة-بين الدول- آنذاك.
من ذلك رسالة وجهها الإمام إلى السلطان بدر بن عمر الكثيري حاكم حضرموت، يأمره فيها بحل وثاق عمه واطلاقه من السجن وتوليته على ظفار، كي تستقر له الأمور في حضرموت. والجرموزي ينقل نص تلك الرسالة، فيقول: (... وامتثال ما أمرناكم به من استقلاله إن شاء الله بأعمال ظفار يأمر فيها -إن شاء الله- بالمعروف، والنهي عن المنكر...) وفي موضع آخر يورد رسالة بعث بها الإمام إلى شريف مكة، تتضمن عدداً من القضايا والمواضيع التي تهم الجانبين، فنجده يقول: (...الصنو السيد المقام ملك أهل البيت الكرام زيد بن محسن بن حسين بن أبي نمي بن بركات بارك الله عليه كما بارك على آبائه...) .
ومن منهجيته في الكتابة إهتمامه بما يرد بمطالع الرسائل ونهاياتها من البسملة والحمدله والشكر والثناء لله تعالى، يضاف إلى ذلك تسجيله للقصائد لولعه بالشعر الذي كان له فيه حظ وافر.
واهتم أيضاً بذكر عدد من الأعلام المعاصرين للإمام المتوكل من علماء وفقهاء وأدباء .
وأخيراً فإنا نلمس عند استقرائنا تاريخ الجرموزي، أن كتاباته تتسم بالتحيز الشديد للإمام المتوكل على الله إسماعيل، فما صادف اسم الإمام مرة-على طول السيرة- إلاَّ وأحاطه بألقاب التعظيم وهالات التقديس ، ولم يذكره مجرداً ولو مرة، كأن يقول مثلاً: (...أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين..المتوكل على الله..إسماعيل...) .
وقد كشف الجرموزي عن تحيزه هذا صراحة في مقدمة كتابه أثناء حديثه عن الغرض من تأليفه، حيث يقول: (ولقد دعاني محبة العترة النبوية...) . ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في تخصيصه لصفحات عديدة يذكر فيها كرامات الإمام المتوكل، وفضائله، وكرمه، وحميد صفاته، وتبرز هذه الحقيقة بشكل أوسع عند ذكره للعثمانيين- سواء في كتابه هذا أو في غيرها من كتبه- فتكاد عباراته لا تخلو من السب والشتم والتحقير لهم، حتى أنه لا يأت بذكرهم إلا مشفوعاً بعبارات الدعاء عليهم، كأن يقول: (أقماهم الله) أو: (مع الترك أخذهم الله) أو (لعنهم الله). غير أن ما أظهره المؤلف من تحيز شديد لا يقلل من أهمية الكتاب وقيمته.
لغته
اللغة أداة الكاتب التي يوصل من خلالها أفكاره ومشاعره وغير ذلك مما يهدف إلى إيصاله إلى قرائه، فهي جزء لا يتجزأ من شخصيته، ولذلك تبرز أهمية لغة المؤلف وأسلوبه في أنهما يكشفان عن هويته، ولذا وجب عليه الإلمام التام باللغة وتراكيبها وصياغتها.
ويتضح مما تقدم أهمية اللغة عنصراً أساسياً لقوام أي عمل كتابي وأي عيب في اللغة من ركاكة في التركيب أو تنافر في اختيار الألفاظ، إنما هو عيب في مادة التأليف. وقد لا يكون لهذا الأمر نصيب كبير في المخطوطات التي تعتبر خلاصة تراث الأمة وعصارة أفكارها وقيمها وكل ما ينظّم أمور حياتها آنذاك. إلاَّ أن هذا لا يمنع وجود مثل تلك العيوب اللغوية في هذا المخطوط أو ذاك.
فأين يقع المؤرخ الجرموزي من كل هذا؟ إنّ من يقرأ كتاباته يستشف إلماماً باللغة، ومقدرةً فائقةً على التصرف بألفاظها وتوظيفها في تحقيق ما يصبو إليه. وانعكس ذلك في رصانة أسلوبه وسلامة لغته وسلاسة عباراتها. ولقد كانت مؤلفاته مصدراً هاماً لدراسة عدد من الباحثين-أشرنا إليهم آنفاً- منهم المستشرق سيرجنت .
ونستثني بالقول أنه-أي الجرموزي- وغيره من المؤرخين يقعون أحياناً في مزالق اللغة، وهي ظاهرةٌ يمكن تفسيرها على نحو أنهم يهتمون بالمضمون والمعنى أكثر من اهتمامهم بالأسلوب، وقد أشرنا لمثل هذه الأخطاء في منهج النشر. ويمكننا أن نُجمل القول بأن الجرموزي عموماً ، كان كما ذكرنا، ذا اطلاع واسع باللغة واتسم برصانته اللغوية، فهو وإن كان مؤرخاً، إلا أننا نجده بين الحين والآخر، يذهب إلى استخدام أسلوب أدبي بديع، يمكن الإستدلال عليه من عبارة كهذه: (ولما سكن الليل همس بخفاف ركابه...) أو من قوله في موضع آخر: (...رسم له أعمالاً يمضيها وحدوداً يقيفها...) . وعبارات كهذه تكشف عن مؤلف لا يلم بتركيب لغته وعباراتها وحسب، وإنما يردف ذلك ولع بجماليات اللغة ومحسناتها البديعية من جناس وطباق ونحوهما، كما في العبارتين السابقتين.
ونجده أيضاً في عبارات أخرى يستخدم السجع، وهي عادة جرى عليها المؤلفون في ذلك العصر، كأن يقول: وخيلهم مع ذلك تبارى في أعنتها لم يمسها لغوب، ولا يُرَ عليها أثر الركود والنضوب...) .
ونجده في أماكن أخرى يستخدم أبياتاً شعرية جزيلة المعنى، وجرياً منه وراء تعميق فكرة يريدها، مثل قوله:
رقود جباء الخيل تكبو في الجوى
تغير إلى شرقٍ وغربٍ وتارةٍ ... وهن أبران فيه عوائد
تأم بقيضة الفراقد
وأما ما خطه قلمه من كلمات اللغة الدارجة فهي قليلة الاستخدام عنده، وهو بين الحين والآخر يورد بعض المصطلحات الغير العربية، منها ما هو مثل (جوامك) و(جبودي كرنبودي، أيشناء) .
أهمية المخطوطة ومحتوياتها
(أ): أهمية المخطوط
تعتبر المرحلة التي تناولتها المخطوطة من أهم المراحل التاريخية لليمن الحديث، كونها قد حددت الملامح والمعالم للسياسة اليمنية في القرن السابع عشر الميلادي بمافيه من مجريات الأحداث التي أفرزها الواقع السياسي خلال هذا القرن. حيث أطلت اليمن في هذه الحقبة التاريخية على العالم كدولة مستقلة عن الدولة العثمانية تحظى بمكانة مرموقة.
وجاء تناول المخطوطة لهذه الحقبة الزمنية من تاريخ اليمن الواحد متسماً بالوضوح والجلاء التامين، فأبرزت الميزات الهامة والفريدة لهذه الفترة والتي تمثلت في الحنكة السياسية والشخصية القوية للإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد الذي يعد -بحق- إحدى الشخصيات اليمنية الهامة في تاريخ البلاد، فقد استطاع أن يحدد موقع اليمن على الخارطة السياسية حين بدأ بتوحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية تحافظ على سيادته واستقلاله، خصوصاً بعد استقلاله عن الدولة العثمانية في عام (1045هـ/1635م) بينما كان معظم العالم العربي-ما عدا المغرب- يرزح في هذا الوقت تحت سيطرتها، الأمر الذي جعل من هذه الفترة نقطة تحول هامة رسمت بعمق ملامح اليمن المستقل.
وللحديث عن الأهمية التاريخية للمخطوطة، فإنه يمكن القول أنها قد اكتسبت أهميتها من أهمية الفترة التي أرخَّت-كما أشرت آنفاً- إلا أنه توجد هناك عدة جوانب أضفت عليها المزيد من الأهمية والفوائد الأخرى، ذلك أنها تناولت هذه الفترة الهامة، على نحو أوفى حيث غطت جميع أحداثها ومجريات الأمور فيها، في الوقت الذي لم يتطرق إليه المؤرخون المعاصرون لها أو ممن كتب عنها على النحو الذي تناولته هي، ولم تَعْدُ دراساتهم سوى إشارات سريعة لسرد حوادثها، ومن المؤرخين المعاصرين لتلك الحقبة: المؤرخ يحيى بن الحسين صاحب(بهجة الزمن في حوادث اليمن)، والمؤرخ عبدالله بن علي الوزير صاحب (طبق الحلوى وصحائف المن والسلوى) وهما رغم معاصرتهما للمرحلة إلا أنهما لم يتناولاها بالصورة التي تناولها بها مؤرخنا الجرموزي.