إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فالظاهرة كالظلم وشرب الخمر، والربى والسعي في الأرض بالفساد، وما جرى مجرى ذلك، والحمل على الواجبات، وما يلزم الكافة من ذلك كله للإمام ألزم؛ لأنه أحدهم ولأنه أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم ما يجري على المسلمين، ولا يكونوا لهم في الغنيمة الفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين)).
قال المنصور بالله -عليه السلام- (الهداية): وحكم بوادي صنعاء حكم أعراب المسلمين، على عهد رسول الله ، وليس لهم حكم الهجرة، ولا حكم الكفار، وعلى المسلمين نصرهم إن احتاجوا إلاَّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق. انتهى.
وشهد لذلك قوله تعالى في سورة الحشر:{َمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ } إلى قوله{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وإذا ثبت ذلك وجبت النفقة على مستطيعها لهؤلاء القايمين[113/أ] بأمر الجهاد والمعدين له كواجب على الذين طلبوا من ذي القرنين -عليه السلام- المعونة له بالقوة وزبر الحديد والقطر الذي هو النحاس، وبعد أن بلغ بهم الحال إلى أن يجعلوا له -عليه السلام- خرجاً من أموالهم مستمراً، فقال -عليه السلام- أما الخراج الذي لا حاجة[إليه] في كف دفعه فقد مكنني الله خيراً منه، وأما ما لابد منه من دفعه فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، أتوني زبر الحديد أفرغ عليه قطرا -أي نحاساً-.
قال المنصور بالله: كره الرشوة، وقبل المعونة، كذلك فعل النبي ً أمر بحفر الخندق، ووضع أجرة العملة على من قعد، وكما في حديث أبي داود، وعن عبدالله بن عمر أنه قال: ((للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي )) ، وكما في الحديث المتفق عليه، عن زيد بن خالد، قال: قال رسول الله : ((من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)) .
وروي في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل فقال: ((ليبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما )) . ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى{ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
روى أبو داود عن أبي أيوب قال: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه -عليه السلام- وأظهر الإسلام، قلنا: فلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الخبر.
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } وهذا دليل على ما قاله المؤيد بالله -عليه السلام- فيما رواه عنه في التقرير حيث قال ما لفظه: وإلى جواز أخذ المعونة، أشار المؤيد بالله -عليه السلام- فإنه قال: من كان معه فضل مال فإنه يلزمه انفاقه في الجهاد، ويكون مأثوماً بتركه. انتهى.
ويؤكد ذلك ما رواه مسلم والترمذي عن أبي إمامة، قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك)) الخبر.
ويدل على وجوب الإنفاق أيضاً قول الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولما سمعت اليهود طلب القرض في الجهاد، قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، فنزل قوله تعالى{لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} الآية.
وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ [113/ب] وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} .
وقال بعض الصحابة: هذا في المنفق وهو قاعد، وأما المنفق بماله وهو مجاهد فله أضعاف ذلك، واستدل بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وبقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } الشك مني وقال:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وقال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } الآية، وقال:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هذا حكم الباخل بذلك من نفسه، فكيف من بخل به في نفسه، وأمر بالبخل عنه، وعوق عنه وشاق بلسانه لما جاءه الأمر، وقد علم أن الله ذكر ذلك في كتابه، ولم يبق له عذر في الجهل حيث يقول سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ (يعني القسمة والمال) أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ
بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقد قال الله في البخلاء الذين يأمرون الناس بالبخل: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} إلى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِمْ عَلِيماً} ، وقال تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} الآيات. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} إلى قوله{لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ} وقد أمر الله بإطاعة أولي الأمر وامتثالهم (فيما لم) يصرح الله به الأمر به فكيف بما أمر الله به وأكده ورسوله وعلم من الدين ضرورة وأمر به أولي الأمر الذي أمر الله بطاعته في قوله{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ[114/أ] آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى{طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } معناه: طايعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين، وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاق عليهم كالإكراه، قال فيه: إن رؤساء المنافقين كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، وقد ذمهم الله بقبض أيديهم على الإنفاق حيث يقول: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} تعني عن الإنفاق منزلة التفسير، فأين هذا الوصف عن صفة الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ، ولم يعذر الله تعالى إلا الضعفاء عن الجهاد بأنفسهم دون أموالهم، وكذلك المرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون في قوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } إلى قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويدل على ما قلناه قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} .
وقال النبي ً: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا ما استطعتم )) .
وفي صحيح مسلم، عن أنس أن فتى من المسلمين قال: ((يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به، قال: إيت فلاناً فإنه كان تجهز فمرض، فأتاه فقال إن رسول الله ً يقرئك السلام، وقال: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئاً فوالله لا تحبسي منه شيئاً فبارك لك فيه)) وليست مشقة الإنفاق وكراهته من الأعراب حادثة، بل قد كان ذلك في حياة النبي ً، وأخبر الله عنهم بقوله{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فعلم الله حالهم، وأخبر بها ليعرف الفرق بينهم، وبين من قال فيهم: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} وأعراب[114/ب] زماننا هذا كأولئك سواء في هاتين الصفتين، وأدركنا منهم جميعاً هاتين النيتين فمنهم من جعل ما تؤخذ منه من المعاون وغيرها التي يجمعها الإنفاق في سبيل الله، والتعظيم لشعاير الله قربات عند الله، واتباعاً لسنته، وابتغاء لرضوان الله، وصلوات الرسول وخليفته إلا أنها قربة
لهم سيدخلهم الله في رحمته، وأغلب هؤلاء من حنكته التجارب، وخبر ما مضى من الزمان، وعرف المصالح والمفاسد، ومن أمر الجهاد وصفته أن ما عليه الإمام ومن معه من جند وطايفته لا يحلون عنه في وقت ولا ينفكون عنه في لمحة طرف، لما دفعه الله بهم من المنكرات، ولما أقام بهم الواجبات، وكف بوجودهم الفساد، وقمع بهيبتهم من أرباب الظلم والفساد، ودفع بهم من الأعداء، وأزال بهم وله الحمد عن الدين وأهله كل علة وداء، وتظنه من طالبه مآثما، وهؤلاء هم الأشقياء في الدين والدنيا؛ لأنهم كما قيل لا ما له أبقى، ولا ربه أرضى، وأعظم منه في الشقاء من أضله بجهله، وألقى إليه من شبهات غيه ما أمرض به قلبه، وغيره عليه من صالح النية، فحمل وزره مع وزر غيره، كما قال الله تعالى{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أحسبت أن الأعراب ليسوا كالأعراب، وأن الدين الذي نحن فيه غير الدين الذي كان عليه رسول الله ، الذي استغله المنافقون فسعوا في النهي عن تفويته، وأخبر الله عنهم بذلك بقوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا } وكأنك لم يقرع سمعك قول الله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} بل لو
عقلت وفهمت نعمة الله لرأيتها نعمة عامة للناس، واجبة الشكر لله على ما خفف عن كثير منهم من التكليف، بل عن كلهم وهو التكليف الذي قام به الجند الذين هم حزب الله وجنده الغالب بشيء يسير يبذلونه من أموالهم والإنفاق عليهم، وكان عليك أن تحث من سألك على الرضى بالنفقة في سبيل الله ليثابوا عليها، وأن لا ينعتنهم على صفة المنافقين الذين لا يقبل الله منهم نفقاتهم لكراهتهم لها فيكونوا كما قال الله تعالى{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}إلى قوله{وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} فإن هؤلاء الذين زعمت أنهم يلونك وأنت ساكن بينهم، وأنه لا يؤمر فيهم بالمعروف ولا يُنهي عن منكر، ولا ينفقون نفقة صغيرة[115/أ] ولا كبيرة لا يخلو حالهم من أن يكفيهم مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، أو لا بد من جند يقوم بذلك، فإن كان الأول فما بالك لم تكتف في ذلك؟ وإن كان الثاني فإن كنت تعلم أنه يقوم بذلك ويفعلونه من غير جند ويتجندون بأنفسهم فما بالك أنت ومن أطاعك لا تفعلون ذلك؟ وإن كنت تعلم خلاف ذلك وأنه لا يقوم أحد يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر حق القيام إلاَّ بالجند منذ [عهد] رسول الله ً إلى يومنا هذا، وإن اختلفت الأجناد لاختلاف الزمان وأهله، فبعضهم ينفقون على أنفسهم وبعضهم ينفق عليهم غيرهم، بل لم يتم [ولا يتم] إمارة حق ولا باطل إلاَّ بجند ينفق عليهم، أو على بعضهم كما في أعظم الخلق وأشرفهم محمد ً وأصحابه