وقال صلى الله عليه وسلم: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) الخير وغيره وبلى والله قد علم القائمون بذلك والحريصون عليه، وأنه التارك لفرضه، والمعيب دوننا تضييعه واختياره للمقام في دار تجب عليه الهجرة منها، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولله القايل: (رمتني بدائها وانسلت) لم تكن أنت الناهي عن الأمر بالمعروف، والآمر بالمنكر بما فعلته من نصرة مرتكبه، وصوبته من عظيم أخطائه، وأما نحن فكل من عرف السيرة ونظر في الأوامر والنواهي الصادرة من في رسايلنا وكتبنا وإرسال رسلنا علم أنه والحمد لله لم يقم أحد مثل قيامنا، وقيام سلفنا في عصرنا[110/ب] هذا فإنا بحمد الله أزلنا أعظم المنكرات، وأشدها ضرراً على الإسلام، وأمرنا بالصلاة في أوقاتها، وأمرنا بالزكاة وبعثنا السعاة لها، وأمرنا بالصيام وسعينا في الحج، ونشر الله على أيدينا فيه وفي طريقه، ومواضع شعاير الله ما لا يخفى، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، فقد أبلغنا الحجة والحمد لله، والدعاء كما فعل النبي ً فإنه ما بعث إلى اليمن كافة إلا رسولاً واحداً، وأخبره الله أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، حين يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وكل واحد يعلم أنه لا يستطيع أحد من الناس أن ينكر أنا قد بلغنا دعوة النبي ً في المسايل العلمية والعملية، وأمرنا بذلك في المجالس والخطب والرسايل ولا يخلو مجلس من مجالسنا من ذلك، وإنا قد

بعثنا بذلك في البلاد، وأمرنا به الولاة مرة بعد أخرى، ولكنه لما ترك فرضه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام في جهات ادعى في كلامه هذا أنه لا يؤمر فيها بمعروف ولا ينهى عن منكر، حرف الكلام عن مواضعه، ورمى بخطيئته غيره، وذلك ثمرة نقض الميثاق وتجنيه، كما قال الله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به فكان هو المرتكب لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولفعل السكون في البلد التي يجب عليه الإنتقال منها.
ثم لم يكتف بذلك حتى دعوه عن المعروف والأمر بالمنكر معنا بباطله لباطلهم، ومتعصباً بجهل لجاهليتهم، وقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتة الجاهلية )) . فحاصل أمره إنكار المعروف والأمر بالمنكر، عكس ما شرع الله ورسوله فكان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وروي في (جامع الأصول) عن علي -عليه السلام-أن رسول الله قال: ((كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ، ونهيتم عن المعروف، قالوا: وإن ذلك لكاين قال: نعم وأشد، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً أو المنكر معروفاً)) صدق خبر رسول ً وهو الصادق الأمين، فإنه لم يرد بدعوته هذه إلا إنكار المعروف، والأمر بالمنكر، وإنه ليس أعظم من حرب القبايل وترك النساء، وأحكام الطاغوت، ولم يكن رسولنا هذا الذي نقم عليه ما نقم إلاَّ رسولاً للأمر بالمعروف[111/أ] والنهي عن المنكر والتأديب عليه، فظن بجهله أن المنكر معروف والمعروف منكر، كما أخبر النبي ً بذلك.
فصل: وأعظم من هذا الجهل بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض المكلفين جميعاً لا يختص الإمام منه إلاَّ بالإرسال على المتقلبين وتأديب المتمردين، وأما ما عدى ذلك فإنه يجب عليه وعلى جميع المسلمين القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، ومن علموا أنه متمرد بينوه للإمام عليه السلام باسمه، وأخبروه بصفته فيتمكن حينئذٍ من الإستتابة له، وإقامة ما يجب من ذلك من حد وتعزير.

ذكر معنى ذلك الأخَوَان وساير أهل المذهب في كتبهم واتفق لفظ اكثرهم على لفظ (اللمع) حيث قال: وجملة الأمر إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان، فضرب يلزم الكافة بحسب الإمكان، وضرب يلزم الأئمة ومن يقوم مقامهم، فهو سماع الشهادات، وتنفيذ الأحكام، واستيفاء الحقوق ممن لزمته، ووضعها في أهلها، وإلزام من توجه عليه حق أن يخرج منه وتولية الأحكام ونصب القوام للإيتام الذين لا أوصياء لهم، والنظر في الوقوف، وإقامة الجماعات ومراعاة أحوال المساجد، وإقامة الحدود والتعزيرات وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام، وتجييش الجيوش، ومجاهدة الكفار والبغاة. انتهى.
هذا لفظ الأمير علي بن الحسين ونحوه في التقرير والبيان للسخامي وغيرهما.
قال في نهج البلاغة: ليس على الإمام إلاَّ ماحمل من أمر ربه الإبلاغ في الموعظة، والإجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقها، وإصدار السهمان على أهلها، فبادروا بالعمل من قبل (تصويح نبته) ومن قبل أن تشتغلوا بأنفسكم عن مستند العلم من غير أهله وأنهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي. انتهى.
وهذه القبايل التي تليه أولى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من التخطي لهم إلى خولان وغيرهم الذين ليسوا فيهم أكبر ما في غيرهم من ذلك، ثم ماذا صنع فيمن ولاه الآن وأطاعه، هل التفت إلى صلاتهم وصلاة نسائهم، واعتنى بما أدعاه من إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم، أو لم يلتفت إلى ذلك ولا ذكر به أحداً؟

فصل: ثم أخذ في تعداد ما زعم أنه نقم علينا فقال الثاني[111/ب] مسألة الأخذ من الرعية إلى آخره.
والثالث: إقطاع الأقارب والأنساب أموال الله إلى آخره.
والرابع: إن خراج اليمن والجزي ما يحصل من البنادر صارت دولة بين المذكورين إلى آخره.
قال: والخامس: ما أخذنا لآل يحيى بن يحيى من عهد الله أنهم قائمون لهم القيام التام إلى آخره.
والسادس: ما صارت عليه الأقارب عليه من التغلب على ما تحت أيديهم إلى آخره.
والسابع: ما صار عليه المسلمون من عدم الإلتفات إليهم والرعاية لحقهم.

والثامن: أنه صار يتولى الأعمال كثير من الرعية من لا يميز بين الطريقة السنية والنبوية، حتى صدر من الفقيه محمد بن جميل ما هو معروف، فهذه الأمور الثمانية جملة ما ينقمه، وظن أن زخارف ألفاظها وأكاذيب سباتها، وما أرتكب من البغي فيها بغير الحق يقيم باطله، أو يضل به من أراد الله هدايته، وكان معتصماً بالله وبكتابه، والله غالب على أمره، ومؤيد لدينه بالعلماء العاملين، وأهل البيت النبوي المتقين، الذين يريدون الإحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، ولزوم جماعتهم والرجوع في مثل هذا إليهم، حيث يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فنقول مستعينين بالله ومعتصمين به وسايلين له الهدى، وعايذين به من الشقاء، هذا جواب عما زعمت من الصواب، وهذا بيان الحق في ما زعمت عنه من الصدق، وهو من أكذب الخطاب الذي ذم الله فاعله، ومستمعه حيث يقول{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وحيث يقول{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ، لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي

الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
فصل: فأما الجواب عما غفل عنه من الإعتراض الثاني، وخفي عليه ما علَّمه العلماء حتى لزم من قوله الثلب على الأول من الأئمة.

والثاني: وهو ما يدعون ويأمرون به ويأخذونه من النفقة في سبيل الله التي أمر الله في كتابه على لسان رسوله، وجرت عليه عادة الأئمة الصالحين، ودعاة الحق وهداة المصلحين الذين هم[112/أ] نصحاء الدين، وعمود المسلمين، وأئمة المتقين، كان المنكر استكثر من الدين وأهله المجاهدين على حفظه، المثابرين على صيانة الإسلام وبيضته، وأخذ يسعى في إبطال هذا الباقي ونحو هذه اللُمَظَة اليسيرة في هذا القطر اليماني الذي لا يقوم أودها ويستقيم عوجها، ويثبت مائدها إلاَّ هذا الجند القايم عليه، والحرب الذي لا يزال حريصاً بالدعاء إليه، فحاول مما دسه من هذه المكيدة، وأظهره من هذه المقالة التي هي عنا بعيدة أي بعيدة، يريد بها إبطال الجهاد بالمال الذي أنزله الله في كتابه وأوجبه على لسان رسوله، وجرت عليه سيرة الأئمة الذين نرجو إن شاء الله أن نكون أفضل من اتبعها وأرشد من دعى إليها بوجوه واضحة، وأدلة قاطعة وبراهين لا يحرفها إلا قاسي القلب، وناكث العهد كما حكى ذلك أصدق الحديث وأفضله، وأحسن المقال وأكمله، وهو كتاب الله الذي لا ينطق إلا بالصواب، ومن حكم به فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، والنفقة في سبيل الله أصل الجهاد، وأعظم الأوتاد. ولم يذكر الجهاد بالنفقة إلا مقدماً على الجهاد بالنفس غالباً، وذكر الحظ عليها منفردة في غير موضع ترغيباً وترهيباً، والجهاد بالمال والنفس أصل الدين وسنامه، ورأس كل خير وإمامه، فلا تقوم الأركان ولا غيرها من خصال الإيمان إلا بما وزع الله به من أمر السلطان، ففي الحديث: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) ولا سلطان

إلا بطايفة على الحق ظاهرين، لا تشغلها المكاسب، تعتذر عن الإسستنفار، وتتبنى من المطالب، إما لقوة دينها وقيامها بمؤنة نفسها أو تحمل أولي الأمر على ذلك مع تحمل كفايتها أو تجمعها بين الصنفين، وإنصافها بالمعينين، وخير القرون في هذه الأمة وأبرها أصحاب رسول الله الذين هم رأس الأمة وصدرها، لم يستغنوا عن الإنفاق، ولم يكتفوا عن الإيزاع والارتفاق، فلم يقم أمر إلا بطائفة مرتفعة ومتفقة تجب على الإمام والمأموم، ومبادرة النبي ً إلى ذلك في السراء والضراء أمر معلوم من الدين لا يتمارى فيه ولا يخفى.
قال في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس، وأدله على الإخلاص؛ ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو، ومواساة فقراء المسلمين، ولهذا بايع النبي ً الأنصار في بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر[112/ب] بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إلى آخر ما ذكر في الهدي النبوي.

فصل: وبيان ذلك وتحقيقه أن تكليف الجهاد غير ساقط في كل وقت من الأوقات، سواء كان جهاد الكفار أم جهاد البغاة، أم جهاد رفع التظالم، أم جهاد الأعداء وبالعَدد والعُدد والقوة، كما بين ذلك فلا تقوم إلا بالجند، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وقال النبي ً: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) الخير.
وقال علي -عليه السلام- بعد أن ذكر الجند في عهد الأشتر : (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجند إلا بما يخرج الله إليهم من الخراج الذي يقومون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم) وهذه الآيات والأخبار هي معنى ما قاله في سراج الملوك، حيث قال: اتفق حكماء العرب والعجم على هذه الكلمات فقالوا: (الملك بناء، والجند أساسه، فإذا قوي الأساس دام البناء، وإن ضعف الأساس انهار البناء، فلا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) ، ويؤيد ذلك أن الله جعل للجند سهماً من الزكاة وأموال الفيء جميعها، وذلك كله من وراء ما أوجبه الله من الجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن والسنة، فهم الذين فرض الله لهم النصيب من الزكاة إذ لم يكونوا مصرفاً لجميعها وخصهم بنصيب من الخمس والفيء، ولم يجعل لغيرهم فيه حقاً كما في حديث مسلم، وأحمد، وابن ماجة، والترمذي، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه الذي قال فيه: ((ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم

48 / 116
ع
En
A+
A-