انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وإن يحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك!! . انتهى. هـ.
وحسبنا وما علمنا من النيات وصلاحها، ونصح الأمة في دينها، وقد قال الله: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } وليست الولاية والإمامة كما بلغنا عنك مثل حق الزوجة يتجدد ويسقط، بل هي أعظم من أن تقاس على ذلك، وليس الدليل على أحقية الأنهض، وأولويته كما زعمت من المصالح المرسلة، بل دليل ثبوتها للأنهض، والأفضل معلوم من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

أمَّا الكتاب فإن الله سبحانه جعل الدليل على ربوبيته وتفَّرده بالوحدانية دون غيره من الشركاء الذين اتخذهم المشركون آلهة، وبطلان قولهم القياس على الشاهد فينا، فقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ، فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ[108/ب]، وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} الآيات إلى قوله{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فبين سبحانه أن الشاهد الذي تدركه العقول، وأن القايم بالقدرة على الأشياء الآمر بالعدل أحق ممن لم يكن كذلك وليس بعد الله بيان، وبين إن الهادي إلى الحق بأي طريق قدر عليها أولى وأحق ممن ليس كذلك، وجعل سبحانه ذلك دليلاً على وحدانيته، وأن لا شريك له في الملك وليس كمثله شيء، وهو على كل شيء قدير، وغير ذلك بما هو بهذا

المعنى كثير من القرآن الكريم، بهذا دليل صريح من القرآن، إن الأنهض والأقدر على القيام بالمقدور أولى، ويزيد ذلك تبياناً قوله تعالى، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فجعل الإصطفاء مع الزيادة (وجهاً لا حقيقة) ، والأولوية على من يكن فيه تلك الزيادة، ومما يدل على أن القيام بأمور المسليمن والنهضة بها، والفضل فيها هي الموجبة للحق، والولاية قول الله تعالى في تولية الرجال على النساء:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فبين سبحانه أن القوامين هم الرجال، ثم لم يكتف بتبيان ذلك حتى بين علمه ووجهه، فقال: بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، ونزيد ذلك تبياناً ووضوحاً جعل الله التولية الضعف وعدم الإستطاعة بقوله تعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .

وممايدل على ذلك إن الإمامة خلافة النبوة، ولما كان نبينا ً أفضل الأنبياء وأقومهم عند الله بما كلف به، بين الله سبحانه في كتابه الكريم أن من فضله -عليه السلام- أنه لو اجتمع به أحد الأنبياء قبله لسلَّموا له، وآمنوا به ونصروه، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، فإذا كان هذا حكم الله في حق الأنبياء -صلوات الله عليهم- الذين هم معصومون لا يأتيهم الباطل، فأولى وأحرى أن يكون في الأئمة كذلك لأنهم خلف الأنبياء وفروعهم، وكانت طريقتهم قولاً من جميعهم، وقولاً وعملاً من بعضهم، ولم يفعل أحد منهم من زمن علي بن أبي طالب إلى زمننا هذا شيئاً من التقلب والتخلف والنكث[109/أ] فكيف به مرة بعد أخرى، بل كثير منهم الذين عاهدوا الظلمة والفساق كالحسن بن علي بن أبي طالب -عليه السلام- وغيره من أولاد البطنين عاهدوا من له حكم الكفر عندهم، وحرفوا لعهدهم واستقاموا على وعدهم، وليس الحلف والنكث من شعار المؤمنين: ((يطبع المؤمن على كل خلق ليس فيه الخيانة والكذب )) ، وقال له سيد المرسلين، بل ولا يرضاه كثير من الفاسقين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به )) رواه البخاري ومسلم.

وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان)) .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به )) .
وروي أيضاً في صحيحه كما نقله ابن حجر عنه، عن النبي ً أنه قال: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) . قال ابن حجر ما معناه: وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وأما ما يدل من السنة على أن الأنهض أحق بالولاية، وأولى فنحو قول النبيً فيما رواه في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني، قال فضرب بيده على منكبي وقال: ((يا أبا ذر إنك لضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). وفي رواية قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمر على اثنين، ولا تولين مال يتيم. فإذا كان هذا في العمالة التي هي فرع من فروع الإمامة والقياس الجلي يقضي بذلك في الأمة، وقد قال بعض العلماء هو أقوى من النص.

وروى السيد الإمام أبو طالب -رضي الله عنه- في أماليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أعان بباطل ليبطل بباطله حقاً فقد برء من ذمة الله وذمة رسوله ، ومن مشى إلى سلطان الله في الأرض ليذله وسلطان الله في الأرض كتاب الله وسنة نبيه أذل الله رقبته يوم القيامة مع ما ذخر الله له من الخزي، ومن استعمل عاملاً وهو يعلم أن في المسلمين أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين، ومن تولى شيئاً من حوائج الناس لم ينظر الله إليه من حاجته حتى يقضي حوائجهم، ويؤدي حقوقهم)) .
وقال علي -عليه السلام- في بعض خطبه: أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم وأعملهم بأمر الله فيه، وفي نسخه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب أستعتب فإن أبى وقتل.
وأما الإجماع فرواه الأئمة الأعلام كالسيد أبي طالب في (الدعامة) [109/ب] وغيره، وقد تقدم ذلك وكفى بالإجماع دليلاً، وخلاف ممن خالف بعد ذلك لا يقدح في الإجماع السابق، الذي رواه العدل.

قال الإمام يحيى -عليه السلام- ومعنى الإفضلية هنا كونه أفضل في الشروط المعتبرة، ويمكن معرفة ذلك لا كونه أكثر ذنوباً إذ لا سبيل إلى معرفته إلا بالسمع، ثم أخذ يذكر ما نقمه، ويعدد ما ذكره من الإعتراضات في سيرتنا التي هي سيرة سلفنا وأهلنا، ولم ينقم منا ومنهم إلاَّ القيام بحق الله لما تعين فرضه علينا، وإحياء شريعة رسول الله لما جاءنا، وما أزلناه من البدع، ومحوناه من الطاغوت المخترع، وأمرنا به الخلق من المعروف، ونهيناهم عنه من المنكر، وما أعطاهم الله على أيدينا من النعم، وصرفه عنهم بمنعنا من الأعداء والنقم{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وما أشبه هذا الإعتراض بما أُعترض به على الإمام المهدي أحمد بن الحسين -عليه السلام- وما أحقه بجوابه حيث قال: ولما كان الأئمة هم الهداة إلى الدين، والدعاة إلى الحق الواجب، أوجب الله طاعتهم على الخلق ونصرتهم على أهل الحق، وقضى على المنهاج الذي هم عليه، وهو إحياء السنة، وإماتة البدعة، ندعوا إلى ذلك ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فأحيي الله بنا ما درس من الدين، وأمات بنا ما كان حياً من جحد الجاحدين، وعتو العاتين، حتى علت كلمة الحق وعظم سلطانه، وخمدت نار الباطل وتضعضعت أركانه، نرجو بذلك ما أعد الله لناصر الحق من الثواب الجزيل.

فلما صارت هكذا استبطأ كثيراً من ضلال هذه الأمة، ورافضي الأئمة بقايا هذه الطريقة المحمودة، وراموا بعشيرة هذه السنة المأثورة المشهودة، جرياً على ما مضى عليه سلفهم الرافض لأئمة الهدى من وقت إمامنا المنصور بالله -عليه السلام-يطعنون على الأئمة ما يجهلون حكمه، يرمون بذلك الترؤس في الدنيا والفساد على من أمرهم الله بإتباع أمره، وكنا نتصور أنهم يذكرون نعمة الله عليهم، فكم من ذليل منهم عز سلطاننا، وكم من فقير غنى، وكم من خامل أنبهنا ذكره، وكم من غي أظهرنا أمره، فجحدوا هذه الأشياء، وأعجبهم ما هم فيه من التقلب في نعم الله تعالى، فنفروا أشراً وبطراً، وهم أبناء الدنيا يعلم ذلك من خبر أحوالهم، وعرف أقوالهم وأفعالهم، وانتهى بهم التمادي في التمرد والضلال إلى أنهم أوهموا الناس أموراً يرومون بها الدنيا، كما تفعله الباطنية، وبثو فيهم دعاة لهم[110/أ] من تأليب أعداء المسلمين يريدون أن يجعلوا من الباطل حقاً وليس كذلك، بل الحق الإنصياع للحق من الباطل. انتهى.

فصل: ولم يعد في اعتراضه إلا ما لا يخفى الحكم عليه عند أولي العلم والتقوى، ومن اختاره الله لحفظ علم الهدى بالبهت والتجاري على الكذب من ناقله، وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون، وقد قبَّح الله ورسوله الكذب في كل أمر وقبح ذلك الفعل، ومن جعل مستندة الكذب فقد آوى إلى أصل منهارة، وأراد أن يبطل الحق بزخارف الأخبار، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

فصل: فمن ذلك الذي ذكره وهو أولها في رسالته، أنه قال: تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه لم يعلم أن الله رفع بنا وبسلفنا رضوان [الله عليهم] منار الإسلام، وأحيا بنا وبهم شرايعه، وفضلنا على كثير من خلقه بما جعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أيدينا، فإن الدليل على ذلك المشاهد والمشاهد معلوم بالضرورة، ولو كان كما قال، فمن هذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في ساير الأقطار، فإنها على ثلاثة أقسام، قسم تحت أيدي الأتراك والظلمة لا ينكر أمرها، وقسم قبايل لا يد عليهم لأحد ولا ينكر أيضاً أمرها، والقسم الثالث ما تحت أيدينا، ولا رابع لهذه الأقسام في زماننا هذا فإذا أخلى عن الأولين قطعاً، ثم خلى عن الثالث لم يبق من هو قايم بذلك، والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} .

47 / 116
ع
En
A+
A-