فلما لم يجد بُداً من لقاء الفقيه بدر الدين، حشد قوماً وتلقاه للضيافة إلى موضع يسمى الشراة وقدم[103/ب] العسكر إلى الجمعة موضع هناك، وأقاموا نحو الشهر والمفاسد تكثر، فعاد الفقيه إلى الشراة وهو المحل الأول فتلقاه الشيخ المذكور، وطلب تفرق العسكر للضيافة، فأجابه الفقيه بدر الدين إلى ذلك بشرط أن يكونوا قريباً منه لخشية ما وقع، وهذا الشيخ قد أطمع قبايله وحلفائه في حط ما هو عليهم من حق الله سبحانه وتعالى، وهون عليهم أمر العسكر فلم يفعلوا فيهم معروفاً، وطال على العسكر عدم الإنصاف لهم فحصل ما بين جماعة منهم وبعض القبايل اختلاف على شيء يسير طلبه العسكر علفاً لدوابهم فقتلوا من العسكر نفراً أو نفرين وبلغ الفقيه بدرالدين، فأخذ حذره على من بقي عنده (من العكسر وحفظ من كان عنده) من أهل البلاد ليستخرج بهم العسكر المختارين فحال بينه وبينهم القبايل، وقد قتلوا من أهل البلاد أنفاراً، بأن رماهم العسكر المختارون وتكاثرت عليهم القبايل وقتلوا أولئك المختارين من العسكر وكانوا ثمانية عشر نفراً فأمر الفقيه بدر الدين بقتل من عنده من المحبوسين، وخرج العسكر المنصور، فاقتطعوا جماعة من القبايل فقتلوا منهم نحواً من أربعين نفراً، وسار الفقيه بدر الدين في أصحابه إلى موضع يسمى الشراة، ودخلوا البيوت وتحصنوا فيها وقد أخذوا ما يحتاجون إليه من الأقوات، ثم إنها أقبلت عليهم جموع القبايل فحاصروهم فكادوا يهلكون من الجوع، ولم يكن عند مولانا أحمد كثرة عسكر لاستدراكهم، فاحتال على يد السيد أحمد في ايصال المدد إليهم دقيقاً وطعاماً وإداماً فوصلهم على

مشقة ومخاطرة، وبلغ الإمام -عليه السلام- ذلك، فأمر النقيب المجاهد سرور بن عبدالله فيمن حضر من العسكر المنصور، وكان [قد] وصل في ذلك اليوم أو قبله بيوم، أو يومين من سفر الحج الميمون وكان إليه النوبة في ذلك العام فكانوا أكثر من خمسمائة، وأمره بالمدد ثم إن الإمام -عليه السلام- طلب العسكر من جميع جهات شهارة المحمية، ثم طلب العساكر الإمامية من جميع الجهات، وطلب مولانا أحمد أيضاً الغارة فيمن أطاعه من الشام، فحصل من ذلك استخراج العسكر، والفقيه بدر الدين، وأتم القبايل على الخلاف وسار الشيخ يحيى بن روكان إلى السيد إبراهيم إلى باقم مع غيره من أهل الفساد، ورجع السيد إبراهيم إلى حال أشر من الأول وخرج معهم من باقم، وجدد دعوة حاصلها تفريق المسلمين، ونكث بيعة المؤمنين، وظهر لمن كان في شك من أمره أن دعوته الأولى والأخرى الطمع والحسد والميل مع الهوى والدنيا، والله المستعان.
وقال: الآن وجدت الناصر، وفرق الدعاة، ونصب الولاة[104/أ] والقضاة، وخرج إلى بوصان ثم مداك وعُرو وأرسل مع ابن روكان من أطاعه إلى بلاد خولان، وفسدت بلاد صعدة جميعها، واستوحش الناس، وبقي مولانا أحمد -أيده الله- في ساقين وقد انقطع فيما بين ساقين، وكذلك النقيب سرور ومن معه صاروا في موضع يسمى وشحة في حكم المحتارين.

وأخبر الفقيه علي بن عشوان الصماري، أن بعض العسكر كان يصلي فرماه من غضب الله عليه فقتله وهو كذلك وسلط الله على ذلك القاتل البرص القاطع الذي كان به عبرة للناظرين، والسيد إبراهيم يتردد في أطراف بني جماعة، وما يقرب بلاد آل أبي الخطاب وخاف وعاد [إلى] باقم من أعمال قراض، وكان الإمام
-عليه السلام- قد أرسل مولانا الحسين بن أمير المؤمنين -أيده الله- إلى بلاد وادعة الظاهر، وجانب بني صريم وتقدم أيضاً إلى محروس ظفار للزيارة، ثم ذيبين، وأصلح الله به أموراً منها في وادعة قتلى وغارات بأن قبض على أهل الفساد، وتقدم إلى قُبة خِيار ، وقد كادوا يتفانون من أيام الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- بحيث إنه توفي في الحبس والعسكر عليهم فتزايد فيما بينهم الشر مع الإشتغال عنهم، وقتلوا من بعضهم ثمانية عشر نفراً في بلد واحدة، وأتوا على أكثر أعنابهم قطعاً وإفساداً، فهدم دور أكثرهم عن أمر الإمام -عليه السلام- واستقاموا بعدها.
ولما حدث في بلاد صعدة ما تقدم من عظم الفساد، أمره الإمام -عليه السلام- بالوصول إليه إلى معمور (أقر) وقد اجتمع العسكر، فكانوا أكثر من خمسة آلاف، وأمره بدخول بلاد صعدة وأصحبه عدة من العيون وذلك في شهر ربيع الآخر عام إحدى وستين وألف[مارس 1661م] وقد كثرت الرسالات من السيد إبراهيم مما سيجي قريباً إن شاء الله ومن الإمام -عليه السلام- من الجوانب عليها.

ولما استقر مولانا الحسين -أيده الله- في صعدة استأمن من إليه كثير من القبايل فقبلهم، وأحسن إليهم، ووصل إلى مولانا أحمد -أيده الله- من خولان كذلك، وإلى النقيب المجاهد سرور كذلك، وإلى الفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي كذلك، وقد جعل الإمام -عليه السلام- تدبير الجميع إلى مولانا الحسين -أيده الله- وصار السيد إبراهيم في باقم، من أعمال آل أبي الخطاب ظناً منه أن العسكر الإمامية لا تصل إليه على ما سبق من الدول الأول أن عساكرها لاتصل هذا الموضع.

[ذكر غزوة باقم]
ذكر غزوة باقم ونواحيه، والقبض على أولاد السيد إبراهيم. ولما لم ينجح في المذكور حسن الدعاء، ولا في الجهات التي صار إليها في إطفاء النايرة، أمر مولانا الحسين -أيده الله- السيد ابن المجاهد بن[104/ب] أحمد بن عبدالله المحرابي، والسيد عبدالله بن مهدي بن حيدرة الغرباني في عسكر مختارين، ومن قبل مولانا أحمد -أيده الله- الفقيه بدر الدين محمد بن علي بن جميل، والفقيه جمال الدين علي بن صلاح الجملولي، والنقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري في عسكر كذلك وسروا ليلاً ونهاراً، وكان ما بين صعدة وباقم نحو ثلاث مراحل ، فهرب السيد إبراهيم وصار في من بقي معه إلى جُنبه بلد هنالك، واستولى العسكر المنصور على تلك المواضع، وغنم الناس كثيراً، وقتل العسكر من القبايل أنفاراً، واستشهد من العسكر نفراً أو نفران.
ولما صار السيد إبراهيم في جنبه وقد ألَّب من القبايل ألفافاً، وأرسل أولاده إلى جهات ما تتصل ببلاد المرقدين، وقد تقدم صفتهم ودخول بلادهم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام-.

[ذكر غزو جنبة وما يواليها]
ثم إن من تقدم من الرؤوساء اجتمعوا لغزو المذكور أيضاً إلى ذلك المحل الذي هو فيه اقتضاباً في وقت واحد. فلما تراى لهم المحل الذي هو فيه أرسل الله سبحانه وتعالى مطراً غزيراً فحجز ما بين الفريقين، وانهزم السيد إبراهيم ومن معه وأحرب بعض أصحابه فقتل منهم العسكر نحو عشرة أنفار، ومن العسكر نفرين أيضاً واستولى جنود الحق على مخيمهم، وقد طاروا على وجوههم، وخرج السيد إبراهيم إلى بلاد سنحان، وبقى فيه أياماً والعسكر المنصور في جُنبه، ولم يكن معهم من المدد إلا ما غنموه.
وقد تقدم أن فيهم النقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري، وله معرفة بأحوال أهل الشام، ولهم به كذلك فراسلهم ولقوه بخطاب حاصله أن أعطوا رهاين في الطاعة، وعقد لهم مع أمراء العسكر الإمامي صلحاً، وعادوا بالرهاين إلى باقم، وأقاموا فيه شهرين، وكان السيد محمد بن أحمد بن محمد بن عزالدين بن أخي السيد إبراهيم بالقرب من المكالف وأولاد السيد المذكور، وأظهر التوبة ووصل إلى مولانا (الحسين) -أيده الله- إلى صعدة، وكذلك أولاد السيد إبراهيم ارجعوهم إلى صعدة، ووصل السيد محمد بن أحمد المذكور إلى الإمام -عليه السلام- فعظمه وأكرمه وعفى عنه.

ثم إن الإمام -عليه السلام- تابع الرسل إلى مولانا أحمد، ومولانا الحسين -أيدهما الله تعالى- وأمر العسكر الإمامي بأمرهم بلحوق السيد إبراهيم حيث كان ولى إلى بلاد مكة وغيرها، وقد خرج السيد إبراهيم إلى بلاد قحطان ودخل الحرجة يريد الإنتصار بهم، فبعدوا عنه كثيراً، فأظهر أنه يرضيهم وتزوج منهم، فلم يجيبوه إلى غير حفظ نفسه، وأن أمرهم وطاعتهم للإمام -عليه السلام- بحالها، وأرسل مع ذلك عاملاً[105/أ] للحقوق إلى بلاد قحطان، فالتفت الناس إلى عامل الإمام -عليه السلام- أكثر من السيد المذكور.

[إبراهيم المؤيدي يقدم الولاء والطاعة بعد تمرده]
ولما عرف السيد إبراهيم أن أولاده قد صاروا في صعدة والجنود الإمامية في أثره، وعرف ميل قحطان إلى الإمام -عليه السلام- كاتب إلى مولانا الحسين -أيده الله- وطلب منه أنه يرسل إليه القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، والقاضي الفاضل أحمد بن صالح الهبل وغيرهما ولقيهم إلى باقم، وقد وصله من الإمام من المكاتبة ما سكَّن روعته، وسكنت إليه نفسه ثم استدعى مولانا الحسين -أيده الله- للغاية إلى ضحيان قريب العِشَّة وقد بسط مولانا الحسين -أيده الله- له خصوصاً، وأهل الشام عموماً الأمان والإحسان الكثير والإمتنان.
ولما اجتمع به في الموضع قرر معه التوبة من هذه الأحداث والإعتذار إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى المسلمين ثم إلى مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- وذلك في بقية من شهر رمضان المعظم[سنة أحد وستين وألف] [سبتمبر 1650م]وكان نسخة كتابه بالتوبة مما تقدم، ونسخة كتب الإمام -عليه السلام- في ذلك كثيرة نذكر منها جواباً للإمام -عليه السلام- هو أوفاها وأوسعها، وهو المسمى شفاء الصدور[في الرد] عن أقوال الزور:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والحمد لله الذي هدانا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين وملأ قلوبنا إيماناً ونوراً، فعرفنا بفضله الهدى، وسلك بنا سبيل أهل التقوى، وعلمنا وله الحمد من العلم ما لم يعلمه غيرنا ففضلنا عليه، وأورثنا من علم الكتاب والسنة ما جعلنا به سابقين، ونجانا بفضله وله الحمد عن أن نكون من القوم الظالمين حيث يقول في محكم كتابه الكريم {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فأعطانا من فضله علماً نستنبط به الأحكام، ونفرق به بين الحلال والحرام، واختصنا بذلك، وجعل لنا الفضل على من لم يكن كذلك فإذا ردوا إلينا ما أمر الله برده إلى مثلنا في نحو قوله {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} علمناه بفضله، وبينا الحق فيه بواضح دليله، فله أسلمنا، وبه آمنا، وعليه توكلنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى[105/ب] وبيان الشرع والكتاب، وأتاه الحكمة وفصل الخطابً الذين أشار إليهم بقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } الذين يجاهدون في الله حق

جهاده وإذا أصابهم البغي فهم ينتصرون.
وأنه لما كان من أمر أهل البغي الذي ابتلي بهم أئمة الحق، وقرناء الكتاب والصدق في زمننا هذا مثل ما كان من غيرهم من الذين مرقوا من الدين فإنهم لم ينقرضوا كما أخبر بذلك محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، فيما رواه عنه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) رواه الترمذي في صحيح مسلم عن عرفجة بن شريح الأشجعي، قال: رأيت النبي ً على المنبر يخطب الناس، فقال: ((إنها ستكون من بعدي هنات وهنات ، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد كان من كان فاقتلوه، فإن الله مع الجماعة وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض)) رواه أسامة بن شريك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه )) .

45 / 116
ع
En
A+
A-