قال -عليه السلام-: وعرفت أنه من أهل العلم، فأمرت له بمكان قريب من الفقيه الأول، قال: فلما حاذى الآخر منزل الأول مال إليه باختياره وصاحب المنزل الأول تلقاه أيضاً، ولا يعرف أحدهما الآخر، وقال الأول: يكون هذا عندي في منزلي، وقال[101/أ] الآخر: كذلك ثم تساءلا، فإذا الآخر ابن الأول، وأنه خرج إلى اليمن يسأل عنه، قال: فتعانقا وبكيا، أظن أن الابن هو الذي ذكره الولد الحسين بن الإمام -عليه السلام- أغفل ذكر الولد المذكور؛ لأنه -عليه السلام- أراد بحديثه أن الأرحام تتواصل وتتعارف في ما أجرى الله من العادة، فلا يبعد أنهما من ذكرهما الولد الحسين والله اعلم.
ومما أخبرني -أيده الله- بأن قال: إن الفقيه المصري لا أدري أهو الأول منهما أو الآخر، سألني أن أكتب له عقيدة واضحة، قال: فحضرني ذلك وجعلته كتاباً أكبر من العقيدة المشروحة بالكتاب المسمى (البراهين الصريحة في شرح العقيدة الصحيحة) وسماه -عليه السلام- ولم أقف عليه.
ذكر معاودة ملك الحبشة بالهدية إلى الإمام -عليه السلام-، في عام اثنين وستين وألف فإنه أعاد على مولانا -أيده الله- المكاتبة ولم أقف على لفظ كتابه، وإنما ينقل عن خط سيدنا القاضي الصدر العلامة الحبر شيخ الإسلام، أحمد بن سعد الدين -أيده الله- جواب الإمام -عليه السلام- عليه وهو:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى، إلى السلطان الملك المعظم، عمدة سلاطين الأمة العيسوية التي هي أقرب الناس مودة للذين آمنوا من الأمة المحمدية، المرجو من الله أن يجمعنا وإياه على كلمة سواء أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به أحدا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، سجد فاسلداس بن السلطان سجدسينوس سلام الله على من اتبع الهدى، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ختم به النبيين، وصدق به المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل بيته الطاهرين، وأن عيسى بن مريم روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وأقول كما قال رب العزة معلماً لنا في كتابه الذي أنزله، ووحيه الذي فصله أن يقول لأهل الكتاب{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، ونرجو أن تكونوا إن شاء الله ممن قال[101/ب] عز وجل فيهم من سلفكم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .

وإنه وصل إلينا كتابكم بالإعتذار في تأخير رسل الهدية عن رسولنا القاضي حسن -أحسن الله إليه- بما ذكرتم من الأسباب، وإنا لم نختار إرسال القاضي المذكور إليكم لاستمداد شيء من الهدايا الدنيوية التي هي أحقر من أن تذكر، وأهون من أن تؤثر، فإنه يقوم بأمرها أدنى حامل، وأقل راحل، وإنما اخترناه ليحمل عنا إليكم الهدية الدينية، والدعوة الإسلامية المحمدية حين أنسنا منكم القبول، واستدعيتم منا وصول الرسول؛ ليكون وصولنا على أمر الله، وتعارفنا على كلمة الله التي يقول الله عز وجل معلماً لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وبقوله عزوجل {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ

بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
فهذه هي الهدية التي قصدناها، والبغية التي أردناها، والغاية التي سعينا إليها، والذخيرة التي حثثنا عليها، ونرجو إن شاء الله من فضل الله أن تكونوا قابلين وبها عاملين، وبسيفها على الأعداء صائلين، ولنا سلف في مثلك جدنا رسول الله ، ولك سلف في مثلها أصحبة النجاشي -رحمة الله عليه- كتب إليه جدنا رسول اللهً:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، بسلم أنت فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى[102/أ] بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فأقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى.

ولما وصل الرسول بكتاب رسول الله، قال: ما أضخمه إني عليَّ القول وعليك الإستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا بالثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولن نخف على شيء إلا أمناه، وقد أخذنا عليك الحجة من قبلك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور في ذلك الموقع الجز والمفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد فرق النبي ً إلى الناس فرجاك بما لم ترجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، الخير سالف، وأجره ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر، ثم كتب النجاشي-رحمه الله- جواب النبيً:
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحبه، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمته وبركاته، الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله في ما ذكرت في أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً، وإنه كما ذكرت، وقد عرفت بما بعثت به إلينا وقد مر بنا ابن عمك وأصحابه وشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين،

وإذا كان الأمر كذلك فحق علينا أن ندعوك إلى ما دعا إليه سلفنا، وحق عليك أن تجيب إلى ما أجاب إليه سلفك إن شاء الله، فإن ذلك منا ومنك أنفس الهدايا وأعظن العفايا، وفي مثله يقول ربنا عز وجل{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} هذا وهديتكم هذه التي صحبة رسولكم وصلت إلينا كما ذكرتم في كتبكم، وهي خمسون رأساً من الرقيق الأحمر والأصفر والأخضر، وعشرة رؤوس من السود، وبلغة أخرى بسرج ذهب وعدتها وعذارتها نحاس وقبلناها وصدر في حفظ الله مع رسلكم تقفون عليه إن شاء الله في البيان الصادر طي هذا[102/ب] الكتاب إن شاء الله إلى التوصل على الغرض المطلوب، والأمر المحبوب، ومن الإجتماع إن شاء الله على كلمة الله، والإتحاد في أمر الله، والقول كما علمنا الله عز وجل في قوله {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. انتهى] .

[أخبار بلاد صعدة]
رجعنا إلى أخبار بلاد صعدة، قد ذكرنا خروج مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- من صعدة المحروسة بالله، وتسلم السيد إبراهيم بن محمد المرة الأولى وبقاؤه في باقم من أعمال بني الخطاب واعتذاره عن الوصول إلى الإمام -عليه السلام- بما تقدم، فلما رجع مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- من صعدة لم تزل المفاسد بين القبايل، فأخذ الإمام -عليه السلام- يتولى إصلاحها ويرسل على أهل كل قضية بما حسم فسادها، وقد قل العسكر عند مولانا، أحمد بن أمير المؤمنين -أيده الله- وتفرقوا، والإمام -عليه السلام- يردهم مرة بالترغيب، ومرة بالترهيب فلم يؤثر، وأرسل عسكراً مرة أخرى، فصلح الحال، واستقامت الأمور.

وقد تقدم ولاية السيد الفاضل العالم المجاهد، أحمد بن الهادي بن هارون الهادي -أسعده الله- في بلاد خولان، وإن الإمام -عليه السلام- قرره عليها، وناط أعماله إلى مولانا أحمد، وجعل في الشام من بلاد بني جُماعة الفقيه، الكامل جمال الدين علي بن صلاح الجملولي كذلك، جعل في رازح السيد الأعلم الأكرم وجيه الدين المهدي بن الهادي المعروف بالهادي النوعة الهادوي كذلك. ثم أبدله بالقاضي الأعلم محمد بن علي بن جعفر الخولاني ، وكان قد حصل في أيام الإختلاف المذكورة أولاً قتول بين القبايل وإحن مع دخول متقدمة، وأن الصدور بينهم لذلك غير سليمة ولا يزال العسكر من عند الإمام -عليه السلام- فمرة إلى بلاد أمْلَح من نواحي المشرق، ومرة إلى نجران وجهاته، وأخرى إلى سحار وإلى عمار وإلى بلاد العر وبني جماعة وإلى بلاد خولان وفي أخبارها طول كبير، وذلك في عام سبع وخمسين وتسع وخمسين، وستين وألف[1647م-1650م].

[تمرد إبراهيم المؤيدي للمرة الثالثة]
قصة نكث السيد إبراهيم في المرة الثالثة ومن صار إليه، ودخول مولانا الحسين[103/أ] بن أمير المؤمنين المؤيد -أطال الله بقاه- بلاد صعدة.
وذلك إن السيد الفاضل أحمد بن الهادي بن هارون، شديد العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثير التحري في الأخذ والصرف والإعطاء، وقد كبرت نفوس الكبراء لما يرون من انقياد قبايلهم لهم لحاجتهم إليهم مع الخصومات المتقدم ذكرها، ومع ذلك يرون من الإمام -عليه السلام- الإحسان إليهم والتأليف ولسوابق أهل السبق منهم مع الرفق بهم فازدادوا تكبراً وتصوروا ذلك ضعفاً في الدولة الإمامية فازدادوا شراً وبطراً وتعمدوا السيد أحمد بالأذية، حتى أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- يشكوهم مراراً، ويستعفي من الولاية عليهم كراراً ، فلم يقبل منه الإمام -عليه السلام- وعرف أن ذلك من كبرائهم طمعاً في الإستبداد والتصرف في البلاد، فخرج مولانا أحمد -أيده الله تعالى- من صعدة المحروسة بالله إلى ساقَيْن بمطالعة الإمام -عليه السلام- في عسكركثير، وقد أظهر قوة، وقوَّم من اعوجاجهم ما أمكن، وكان الإمام جهز الفقيه المجاهد بدر الدين محمد بن علي بن جميل في زهاء أربعمائة نفر من العسكر المنصور لأعمال معينة من انصاف المظلومين، مما تكرر ذكره من القتلى والأموال وأخذ المحدثين وعقوبتهم.

وكان أكثر من ينتصب للفساد بلاد خولان، وأذية السيد أحمد بن هارون، الشيخ يحيى بن محمد بن روكان الحي ثم البحري، وقد تقدم في سيرة مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- أن أخاه الشيخ قاسم الذي انتصب للفساد في صدر خلافته حصل منه وفيه ما تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وإلى آل روكان رياسة أكثر بلاد خولان.
وكان قد وصل هذا الشيخ يحيى إلى مولانا أحمد وأظهر الطاعة والبراءة من السيد أحمد، وكانوا قد أهملوا جانب مولانا محمد وأحدثوا في محطته أحداثاً.
منها: أنهم عقروا من خيله في الليل، فاجتمع لهذه الأسباب أن الإمام -عليه السلام- عين على الشيخ المذكور وبلاده آداباً، فلما وصل الفقيه محمد -أبقاه الله- فتوحش وخاطب إلى مولانا أحمد أنه يسلم ما عليه، ولا يدخل العسكر بلاده، وعرف مولانا أحمد -أطال الله بقاه- أن العسكر إذا لم يدخلوا بلاده ناظرهم غيرهم، فأمر الفقيه بدر بن محمد بالتقدم إلى بلد المذكور وقد طيب نفسه.

44 / 116
ع
En
A+
A-