على اتباع ما زينه لهم الشيطان، فتركونا حتى تولينا عنهم قليلاً، ثم صرخ صارخهم واحتملوا علينا من جهة اليمين والشمال، ونظرنا إلى ما حولنا من الجبال فإذا هي تسيل بالرجال، وكان غاية همنا حفظ الرقيق خشية أن يسبوا من هو على ديننا، فلما اتصل بنا أوايلهم يتذامرون ويتعادون كأنهم السباع الضارية فرمونا بالحراب من أيديهم ودفعوها دفعاً تعدى حتى تعداهم فأصابوا منا رجلاً ووقع في فرس من خيلنا حربتان، فرمت عليهم البنادق وبأيديهم أتراس متسعة تستر جميع أبدانهم فهم يظنون أنها تدفع عنهم رمي البندق، فوقعت رمية في أحدهم فخرقت ترسه وأصابته في شقه الأيسر حتى خرقته فألقته على جانبه وأثرت فيه تأثيراً هايلاً أرهبهم وأرعبهم، فأنكسرت سورتهم، وانفلتت شوكتهم، ومالوا عنا حتى لذنا بأكمة عالية، وجمعنا فيها أثقالنا، ثم أمرنا العسكر أن يقفوا بالبنادق على أطراف تلك الأكمة، وهم قد أحاطوا بنا من كل جانب، ولكن الله عز وجل ملأ قلوبهم هيبة، ورجع أمرهم بالإخفاق والخيبة، فلم يجسروا على الإقدام علينا والوصول إلينا وإلا فإنهم قد بلغوا نحو خمسمائة رجل أو يزيدون على ذلك سوى من جاء إليهم من آخر ذلك اليوم فإنهم بلغوا جيشاً عظيماً وعدداً كثيراً، فأرسلنا إليهم ذلك الرجل الذي كنا أرسلناه إليهم المرة الأولى، وقلنا له أعرف ما يريدونه منا فإن يكن المال فقل ما شئت وابذل لهم ما رأيت، وإن يكن النفوس فأخبرهم عنا أن الموت ليس باليسير، وإن الهالك منهم بعون الله العدد الكثير، فاتفق الرأي بيننا وبينهم على أن يأخذوا علينا عهداً ونأخذه على كبارهم كذلك بالأمان وعدم

العدوان، ثم نرجع معهم إلى بلدهم وقد كنا جاوزناها بميل ثم يقع الإصلاح هناك على تسليم شيء من المال، فرجعنا معهم إلى بلدهم، ونحن مع ذلك غير واثقين بعهدهم فإن الله عز وجل يقول في أمثالهم: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } وبتنا معهم تلك الليلة، وجاء إلينا كبارهم يخوضون معنا، حتى أصبح الله بالصباح، ونحن نحاورهم ونجاهد مشقة السهر مع خوف الغدر[98/ب]منهم فإنهم مع ذلك قد أحاطوا بنا من جميع الجوانب، وأشعلوا النار من جميع الجهات، فلما كان نهار اليوم المسفر عن تلك الليلة رجع جواب أمير مسوع، وخرج العسكر نحو مائة نفر فيها خمسون بندقاً،.
ولما وصل الرسول بالجواب، وأخبرنا العسكر من الأتراك قد خرجوا في أثره، بدد الله شملهم، وفرق جمعهم، ودفع عنا كيدهم ومكرهم، وكان ذلك من الفرج بعد الشدة، والحمد لله الذين خلصنا من كيدهم سالمين، ونجانا من القوم الظالمين، ثم إنا لما انفصلنا عنهم وهم مجتمعون ذلك الإجتماع ومطبقون نواحي تلك البقاع أرسل الله عليهم جيشاً من أعدائهم، وأحاطت بهم النقمة من بين أيديهم ومن ورائهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم كانت الدائرة على هؤلاء الباغين علينا، والغلبة لعدوهم عليهم، أنتهبوا أموالهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساؤهم، حتى لقد رأيناهن في سوق بندر مسوع يبيعونهن في عقب وصولنا إليه، وشاعت هذه القضية هنالك، وتحدث الناس من أهل الإسلام في مسوع أن هذه القضية من كرامات إمامنا -عليه السلام- ولا شك ذلك، ولا ريب، فإن حقه على الله أعظم من ذلك، وكم دفع الله عنا ببركته من المهاوي والمهالك.

ولما اتصلنا بجماعة العسكر الواصلين من مسوع، ووجدنا رسول الإمام الذي قدمناه قد خرج مع أولئك العسكر، فسر بوصولنا واستبشر، وحمد الله على ذلك فأكثر، وعلمنا أن الله سبحانه قد نجانا من شر الكافرين وكيد الكايدين، وأوجد الله سبحانه وتعالى في قلوبنا أنساً وطمأنينة، وأبدلها عما كانت فيه من القلق وقاراً وسكينة، وارتحلنا نحن وجماعة العسكر جميعاً في ذلك الحال إلى بندر مسوع، فسرنا بقية يومنا ذلك، وفي اليوم الثاني دخلنا بندر مسوع وقت انتصاف النهار، فتلقانا النايب فيه بأحسن الكرامة، وأسنى ما نحب من البشاشة التي هي دليل رعاية العهد وعنوان السلامة، وأقمنا هنالك ثمانية أيام نهيء ما نحتاج إليه في سفر البحر، وبعد انقضاء تلك الأيام ركبنا في ثلاث سفن متوجهين إلى ساحل بندر (اللحية) فوصلنا إلى جزيرة (دهلك) وتحيرنا فيه قدر أربعة أيام لعدم استواء الريح، ثم بعد ذلك تيسرت الريح المناسبة، فتوجهت الجلاب قاطعة عرض البحر من جهة المغرب إلى جهة المشرق، وعزم ربان السفينة على السفر ليلاً ونهاراً مع الإقتداء بالنجوم التي يهتد بها في ظلمات البر والبحر فسافرنا ذلك اليوم والليلة التي تليه واليوم الثاني إلى وقت العصر، ثم طلع علينا من أمامنا من جهة اللحية سحاب متراكم وثار[99/أ] مع ذلك الريح العاصف المهيج موج البحر المتلاطم، فما زال يقرب منا فإذا البحر قد اضطربت أمواجه، وماجت جوانبه وأثباجه، وأمطرت السماء بما شاء الله أن تمطر، فاجتمع هول المطر مع هول ذلك الريح الذي صرنا معه إلى أعظم خطر، وأهل الجلبة يعالجون أعمالهم، ويتفقدون أحوالهم، وهم ينتظرون

انفراج الشدة في أقرب مدة، فطال عليهم ذلك حتى ضعفت قواهم وتفاقم الأمر، وعظم الحادث، وجارت الألسنة بالدعاء إلى الله عز وجل، والتوسل إليه بكل ذي حق عليه أن يفرج عنا ذلك الهول الأهول، ودام علينا ذلك المطر تلك الليلة مع اليوم التالي لها مع الليلة التي تليه، فكان دوامه ليلتين ويوماً، وكان معنا في هذا السفينة زورق صغير، فرسب في البحر لما امتلأ ماء فجذب السفينة لما كان مربوطاً إليها، وقد كان ربان السفينة وثب منها إلى هذا الزورق ولا ندري بمراده من ذلك، فلما رسب الزورق في البحر تعلق الربان بجانب السفينة وصرخ بصوته إلى أصحابه يستنقذونه فلم يجبه أحد لما نزل بهم من الهول، وأصابهم من ذلك الحادث الذي سلبهم الحركة، وأخرسهم عن القول، فوثب إلى ذلك الربان رجل من أصحابنا فتناوله إليه وأطلعه، وقد أشرفت السفينة على الغرق بسبب جذب ذلك الزورق، فأخذ ذلك الرجل من أصحابنا سفينة وقطع حبل الزورق فانفصل عن السفينة وذهب في البحر.

ثم إن الربان أمر بإلقاء الأحمال من الأثقال التي في السفينة، فألقوا في البحر ما وقعت أيديهم فيه حتى حصل التخفيف، ثم إنا فزعنا مع ذلك إلى الدعاء والتوسل إلى العلي الأعلى، وقد بلغ بنا الحال إلى ما لا يعلمه إلا ذو العزة والجلال، فما برحنا نسأل الله عز وجل بحق محمد نبيه المرسل، وبحق إمامنا المتوكل على الله وساير أهل بيت رسول الله حتى انفرجت عنا الشدة وقد أيقنا بحلول البأس، وضاقت النفوس حتى كادت تخلد إلى اليأس، وأما السفينتان الأخريان، فإن الموج رما بهما إلى جزاير في البحر. وما يزال يحول بهما يميناً وشمالاً حتى لقد تأخرنا عن خروجنا أربعة أيام لا ندري ما هما فيه، والظاهر من الحال أن الريح كانت عندنا أشد؛ لأنا كنا قد تقدمناهما بمسافة كثيرة، وهما سفينتان صغيرتان لا شك أنهما لا تقويان على ما نزل بنا من ذلك، وإنما هي في حكم هذا الزورق الذي غرق في البحر، ولما فرج الله هذه الشدة وسرنا بعد ذلك في البحر يومين كاملين، ودخلنا مرسى اللحية حامدين الله عز وجل، معترفين أنه تبارك وتعالى[99/ب] قد شملنا بفضله فأجزل، وأسبل علينا نعمه فأكمل، فالحمد لله حمداً يصعد أوله ولا ينفد آخره، ويتواصل ويتجدد حتى يرضى ربنا كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولما وصلنا بندر اللحية أسرعنا برفع الخبر إلى مولانا أمير المؤمنين -أطال الله له الأيام والسنين- فكان ذلك لديه أعظم مسرة، وأشرف مبرة، ورجع إلينا جوابه مشتملاً على مقبول الدعوات، ناطقاً بما أجنه ضميره من التحنن الذي نجانا الله به من عظايم الآفات، وتوجهنا إلى حضرته الشريفة تجذبنا أيدي الأشواق، وتمد إليه ركايبنا الأعناق، مؤثرين زيارته على الأهل والأولاد، مسارعين إلى التملي بكريم غرته التي جعلها الله عز وجل قبلة للعباد، وأسعدها باليُمن والإسعاد، فكان وصولنا إليه -أيده الله تعالى- رابع شهر ربيع الأول وخمسين وألف سنة على تمام أحد وعشرين شهراً منذ فارقناه حتى وافيناه:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر

فاستبشر بنا -أيده الله تعالى- كما استبشرنا به، وأكرمنا بأفضل ما يكرم به الغايب عند إيابه، وتلقانا بما لا مزيد عليه من مكارم الأخلاق، وبما هو أهل من الشمايل المنطلقة بالفضايل على الإطلاق، وأحسن -أيده الله تعالى- في كرامة أولئك العسكر المصاحبين أتم الإحسان، وصنع إليهم من صنايع الفضل أحسن ما يريده الإنسان، وينطلق به اللسان، وما عند الله خير للأبرار، وثوابه تبارك وتعالى على مثل ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، وهاهنا ينتهي ما أردناه وينقضي ما أردناه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تدرك الإيرادات، ونصلي على نبيه وعلى آله أفضل الصلوات، ونسلم عليهم أجمعين من يومنا هذا إلى يوم الدين، ونستغفر الله العظيم من فرطات اللسان وهفوات الجنان لنا ولوالدينا ولجميع إخواننا من المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العل العظيم.
قال القاضي شرف الدين -أيده الله- في عنوان هذه النسخة ما لفظه: الحمد لله وحده، لما طلع مولانا السيد العلامة إمام الحفاظ، المتصرف بمعاني الألفاظ، ضياء الدين، صفوة العترة المطهرين، إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الجحافي-حفظه الله تعالى- على هذه الأوراق أشاد ذكرها بما راق وفاق، فقال -حفظه الله-:
اسم سرح طرفك في ذي الجنان .... ورد كوثر الطرف عذب المعاني
وشاهد بدايع هذا الزمان .... فيما حكاه بديع الزمان
[100/أ] تجد نزهة العين والقلب في .... محاسن يحكي ثغور الحسان
بلفظ يفوق حنان الجمان .... ومعنى ينيل بلوغ الأماني
وزادت محاسنها بهجة .... بما ضمنت في إمام الأوان
إمام تفرد بالمكرمات .... فليس له في معاليه ثاني
حمى الدين بالحجج البينات .... وبالمرهفات معاً والسنان
فدين الإله به في حمى .... وأهل الزمان به في أمان
انتهى.

قلت: لا أدري من أي الأمرين أعجب، أمن حرص الإمام -عليه السلام- والدعاء إلى سبيل الملك العلام، حتى طمع في إسلام أعظم ملك من ملوك الكفار الذي يأس منه ملوك الأقطار، من الروم والهند وغيرهم من الملوك الكبار، مع المشاهدة لأحوال من يدعي إلى ما ألف من الضلال، الذي لا دليل عليه إلاَّ تقليد أغتام الرجال، فإنك ترى الواحد منهم يزايل عن القول الباطل، والملك الضيق العاطل، الذي لا يتمارى في بطلانه عاقل، فما ذلك إلا لما جعل الله سبحانه في قلب هذا الإمام الطاهر، من الحنو والشفقة على دينه الظاهر، وما منحه سبحانه وتعالى من الفتوح المتواتر، والنصر القاهر، فذلت له لذلك الرقاب، وتسهلت له الصعاب، مصداق ذلك ما حكاه القاضي العدل المذكور -أيده الله- مما تراه في أخباره من ذكر عظمة الإسلام في ديار الكفر القمين، الذين وصفهم الله في كتابه المبين بأنهم كما قال ولا الضالين، وما جعل في قلوبهم من الهيبة والجلالة لزعيم الإسلام والمسلمين، وولد سيد النبيين والمرسلين-أيده الله- كما أيد به الدين، اللهم، آمين.

أم من عزيمة القاضي الحبر، والغرة الصدر -أيده الله- والمضي إلى ديار الجاهلية النائية، ومحال سلاطين النصرانية، فاقتحم الأخطار في طاعة الله بطاعة إمامه، وخاض البحار وجاب القفار، ليبلغ عن الله سبحانه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وخليفته -عليه السلام- بالغ أحكامه، فما أشبه حال المُرسِل والمُرسَل بحال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وحال من بعثه للبلاغ وأرسل، مما رواه أهل السير والآثار أنه صلى الله عليه وعلى آله الأطهار كتب دعوته إلى ملوك الأقاليم، فأخبرهم عن الله سبحانه بما[100/ب] أمره به وأمر رسله الذين من قبله بالبلاغ إلى كل جبل واقليم، فانتدب لذلك من انتدب، بعد أن دعاه إلى ذلك نبي الله وقرب، فساروا لما أمروا أفراداً وأزواجا، وقطعوا ظلمات الشرك بضياء الإسلام الذي جعله الله سراجاً وهاجا، وهذا من ذاك، والحمد لله رب العالمين.
نعم! ومما أخبرني مولانا أمر المؤمنين -حفظه الله وأيده- إنه وصل إليه فقيه عالم صالح ناسك مفلح اسمه [....] إنه خرج من مصر إلى الحبشة أو إنه سمع منهم وأحسبه قال: ومن غيرهم من النصارى عظم موقع وصول القاضي شرف الدين -أيده الله- إلى تلك البلاد، وقوة ورعه، واحتياطه، وصدق عزيمته، واثار الحسن في الإرشاد إلى عز الإسلام، والغنا عن الحطام، ما ملأ الأسماع سروراً، والقلوب حبوراً، والإسلام قوة وظهوراً، حتى كان هذا الفقيه يدعو للقاضي على سماع الإستمرار.

وأخبرني الولد الحسن -أسعده الله- أنه لقي بعد عوده من المدينة النبوية والزيارة لخير البرية ً فقيهين من أهل مصر على مذهب الشافعي -رحمه الله- في بندر جدة ركبا معه في البحر إلى اليمن، قال: فلم أر مثلهما في لزوم مراقبة الله، وتوظيف الأوقات لعبادته، وتلاوة كتابه، والمذاكرة في فنون من العلم، قال: وسألتهما عن سبب خروجهما اليمن، وعن مصر، فقال: إن في مصر علماً ولا نقول إنا العلم لمكان ما فيها من الجور والظلم انقطع، وإنما قل من الفقهاء من لم يكن في جور ظالم من الأتراك فيكون في ظله وبدارته، حتى إنه قد يوجد من الكفار من لم يحتج إلى ما يحتاجه الفقهاء من الجوار، قال: وسألتهما أين يريدان. فقالا: خروجنا اليمن للنظر إلى هذا الإمام ولا غرض غير ذلك فإنا لم نسمع في الأرض بأعدل منه ولا أعلم، أو كما قال.
وأخبرني مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- في عام سبع وستين وألف أنه وصله من فقهاء مصر الفقيه الذي ذكرناه من طريق الحبشة، وإنه وصله فقيه على صفته من مصر.

43 / 116
ع
En
A+
A-