إلى الخوض في ذلك الأمر الذي هو غاية الأمل، وقصارى الأرب، فلم نجد في تلك الدار لذلك النداء عريباً، ولا من يكون له مجيباً، فكنا نحن وإياه كما قيل: إنك في واد، ولكم بين مريد ومراد، فأعرضنا عنه صفحاً، وسدلنا دونه ثوباً، وطوينا عنه كشحاً، ثم إنه وصل إلينا عقيب وصولنا حضرة الملك رسول من بعض تجار اليمن بجهة مسوع يرفع ما نريده من أخبار اليمن، وأحوال إمامنا، وانتظام أمور سادتنا -أيدهم الله بعزيز نصره- فسرنا ذلك غاية المسرة، وحمدنا الله عز وجل على تلك الأخبار الصالحة التي هي للعين قرة، ثم أنَّا سارعنا بتحقيق الأخبار إلى مولانا أمير المؤمنين -أطال الله له الأيام والسنين- ورأينا من أهم الأمور، وأولى ما يزحزح به حرج الصدور، تعريف مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بأنا نريد الخروج من مسوع وأنه-حفظه الله تعالى- يكتب إلى باشا الأتراك هنالك من يستأمن لنا منه، وأن العود من هذه الطريق التي دخلنا منها غير ممكن ولا سبيل إليه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ففصلنا إلى مولانا -أيده الله تعالى- كتاباً جازماً بذلك.
ثم كان من ألطاف الله الخفية، وعنايته التي طالما أدركنا بها ولله الحمد كل بغية وأمنية، أن وصل إلى حضرة الملك من قبل باشا الأتراك من جهة سواكن موجهاً صحبته بهدية، وهذا الرسول رجل عربي اللسان من أهل سواكن، اسمه الأمير عبدالوهاب، حسن الأخلاق، كامل الصفات، جميل العشرة، سني المحاضرة، كريم الطباع، له نسك أهل الصلاح، يحفظ القرآن غيباً حفظاً جيداً، وعناية تامة، وله مع هذا مشاركة في كتب السير والآداب، وعلى الجملة فإنه من نعم الله تعالى علينا[90/ا] حيث روَّح عنا بأدبه، وانكشف عنا غيابات الكروب بسببه، وأجرى الله لنا على يديه منافع كثيرة، ونعماً جليلة.
ولما رأينا حسن عشرته وخلوص مودته، وظهور صدقه وأمانته، أسررنا إليه ما نريده من الخروج من جهة مسوع، وأنا قد رفعنا ذلك إلى مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بالنصر المبين، ولا ندري ما يستحسن من ذلك، ونحن نخشى أن يخطر بباله -أيده الله تعالى- أن العود في هذه الطريق التي دخلنا منها متيسر، أو مع احتمال بعض مشقة لا تخلو عنها حال المسافر في الغالب، وإلا فالمعلوم بالضرورة أنه لو يرى ما قد رأيناه ويشاهد منها ما شاهدناه لم يرضها لنا على كل حال، ونحن نريد تمام هذا الرأي على يديك، وتفويض الأمر فيه إليك، فابذل فيه العناية، وأحسن في تدبيره السعاية:
إن أراد الصديق نفع صديقٍ .... فهو أدرى في نفسه كيف يسعى
فأحسن في الجواب وكشف برايق عبارته عن وجه الصواب، وقال: بعد أن سمعت منك هذا الحديث فقد عزمت أن أعطيك عجري وبجري، أعلم أني ما دخلت هذه الهدية إلى الملك إلا متوصلاً بها الإحاطة بأخباركم فإن محمد باشا صاحب سواكن، لما بلغه دخولكم من جهة بيلول أقعده ذلك وأقامه، وأقلقه وطرد منامه، فتوصل إلى حقيقة إدراك هذه الأخبار بما تراه من وصولنا بهذه الهدية، المضمر في طيها استكشاف هذه الخبية، وهذا الأمر الذي استدعيتموه ممكن حصوله، على أحسن الوجوه بفضل الله وإحسانه، ومنه وإمكانه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والخيرة لله العزيز الحكيم.
واتفق الرأي بيننا وبينه على أخذ الملك في ذلك، وقد عرفنا من مراده أن يدرك أنه لا يحب المرور من جانب الأتراك، لما يلقاه من أهل الحبشة من جورهم وتحكمهم في أموالهم، وسوء معاملتهم، فلذلك إن الملك يحب فتح هذه الطريق من جانب بيلول، وربما كان ضميره المستكن من هذه المواصلة بينه وبين إمامنا-صلوات الله عليه وسلامه- فإنه يعلم أنه لا يتم له فتح هذه الطريق إلا بقوة وعناية، من وجوه عدة، من جملتها معاودة الرسل من قبل الإمام -عليه السلام- في هذه الطريق؛ فإنهم مع قوتهم بمعونة الله تعالى واستصحابهم البنادق يسير معهم كثير من أهل التجارة، دخولاً وخروجاً، فتسهل أوعارها، وتقلل أخطارها، وكان رسولنا إلى الملك لاستئذانه في ذلك، الشريف بن محمد بن موسى البخاري، المقدم ذكره، ولما عرفه بذلك أجاب، الملك في ذلك المقام بالإسعاد إلى ذلك المراد، وكان جوابه هذا[90/ب] صادراً على بديهية الرأي، ولم يبعد أن يكون في تلك الحال متغيراً بكسره، وعلى غير ثبات من أمره، لما ظهر لنا منه بعد ذلك من الندم الشديد على رضاه، والأسف على ذلك الرأي الذي أنفذه وأمضاه.
ولما رجع إلينا جوابه بالمطابقة والموافقة، سارع الأمير عبدالوهاب إلى محمد باشا بكتاب يذكر به مثل ما عرفناه به، وأرسل به رسولاً من فوره، ثم إنه تجدد بعد ذلك اختلاف رأي الملك علينا، وقال: مروركم من جانب الأتراك لا سبيل إليه، ولا يمكن أن يكون ذلك، فإنهم أعداؤنا وأعداؤكم ولا أمانة لهم، فقلنا له: أما عدواتهم فلا ننكرها، وأما الغدر منهم فلا نظن ذلك فيهم، فإن الغدر مذموم في كل ملة وفي حكم كل شريعة، ألا ترى أنا دخلنا بلادكم، ووصلنا إليكم بمجرد كتاب منكم، وأنتم مخالفون لنا في الدين والملة، فأنتم على دين النصرانية ونحن على دين الإسلام، فلو أنا ما وثقنا بقولكم وما وصلنا إليكم، وما رأينا عاقبة ذلك إلا وفاء وكرامة، وعافية وسلامة، وأمَّا الأتراك فهم -على ديننا وملتنا وكتابهم كتابنا، ونبيهم نبينا، فكيف أن لا نقبل منهم الأمان، ونجعله أعظم حجة بيننا وبينهم، وليس المراد للملك إلا الرجوع في طريق بيلول لتلك الأغراض التي يريدها فقط، فما برحت المراجعة بيننا وبينه دايرة، والأقوال مختلفة، وهو يتوسل علينا بكثير من الناس، ويلقي إلى أصحابنا شيئاً من ذلك الحديث سراً وجهراً، ويخوفهم من السلوك في جانب الأتراك بكل مخافة، والملك في ما أعتقد غير محيط علمه بصفات هذه الطريق التي يحاولها من جانب بيلول، وإلا فلو يعرفها حق المعرفة ما أظنه يستحسنها مع وجود غيرها، فلما طال الحديث بيننا وبينه على ذلك، وعرف أنا باقون على تلك النية غير منقلبين عنها، لم يجد بداً من إسعافنا إليها، غير أنه طلب منا شاهداً نكتبه يكون في يده يقضي ببراءته من هذا الرأي،
وأن عاقبته من سلامة أو ندامة لنا وعلينا، فوضعنا له شاهداً، وقبضه منا وقد أشهدنا فيه على أنفسنا وأعطاه ذلك الرسول الذي وصل إلى الإمام، ودخلنا في صحبته؛ لأن الملك عازم على عوده إلى حضرة الإمام -عليه السلام- ثم بعد ذلك خلى سبيلنا في سلوك هذه الطريق التي كانت عاقبتها ولله الحمد أحمد، والرأي في سلوكها هو الرأي الأسعد، وقد أطردنا الحديث على هذا النسق، وبقي لنا أشياء لاغنا عن ذكرها، مما يتعلق بأيام إقامتنا، وقد قدمنا ما ذكر ما أمر به من أمور النفقة المرتبة في كل شهر، على نظر ذلك الوزير المسمى (حواريا) مع مشاركة ساير الوزراء في تلك الأعمال، ومشارفتهم عليها كما هي قواعدهم المعروفة في جميع[91/أ] الأحوال، فإن التصرف والتدبير الذي هو في الحقيقة من التدبير إنما هو في أيديهم، وجار على مرادهم، وآرائهم متطابقة في الإستواء على اتباع الأهواء، لا تظهر فيهم المنازعة، ولا تقع فيهم المدافعة، أعمالهم مبنية على الجور وأكل الرشا، يتعاملون بذلك ظاهراً، ويشطرونها على أهل الحاجات شاهراً، لا يستترون بها، ولا يستحيون منها، وكانوا لهذه الصفات الدنية فيهم يريدون التباطؤ بقضاء أغراضنا وإبلاغ حوائجنا، ليضطرونا إلى الولوج في هذه المخازي، والدخول في هذه النقايص، فتقاصرت عنا آمالهم، ولم تبلغ إليها أعمالهم، لما رأوا من علو منزلتنا عند الملك، والإتصال به في أي وقت نريده، فنافسونا على ذلك، وأدركنا منهم العداوة والبغضاء، والمكايدة والمعاندة، ومما اتهمناهم به أمر الحريق الذي وقع معنا هنالك، فإن فاعله إنما أراد هلاكنا بالنار غير أن الله سبحانه
وتعالى أبقى علينا ستره، وأبطل على الساعي بذلك كيده ومكره، وكيفية الحال في هذا الحريق، أنا لم نشعر في بعض الليالي وقد هدأت العيون بمراقدها، وأخذت الجنوب مضاجعها، إلا وقد اشتعلت النار في جانب العشة التي أنا فيها مع شدة رياح العاصفة، وزعازع منها قاصفة، فأسرعت في الإشتعال، وأتلفت جميع ما لدينا من الآلات وساير الأثقال، ولم نتمكن بعد ظهور النار إلا من النجاة بالنفوس، فالحمد الله الذي نجانا من ذلك البؤس، وكان من أهم ما أهمنا من ذلك حريق الكتب التي كنا استصحبناها، فإنه ذهب منها شيء بالكلية وبعضها بقي منه بقية، وبعضها وقع فيه شين وتناقص عن حالته السليمة السوية، إلا نفس المصحفين الذين كانا في تلك العشة، فإنا وجدناهما سليمين لم يصبهما شيء أصلاً، وإنما وقع في إحداهما شين يسير، في جلده فقط وذلك من فضل الله وكرامة كتاب الله، ووقع معنا من هذا الحريق روعة عظيمة، وفزع كبير، رأينا سلامتنا منه والله الحمد نعمة عظمى، ومنه طلع نجمها في فلك السعادة الأسمى:
إذا سلمت رؤوس الرجال من الردى .... فما المال إلا مثل قص الأظافر
اللهم إنا نعوذ بعظيم عفوك، ونلوذ بخفي لطفك، من عذابك الذي لا يدفعه إلا رضاك، ونار عقابك التي أعددتها لمن خالفك وعصاك، فإنه لا طاقة لنا على عذابك ولا حول ولا قوة إلا بك. ولما بلغت هذه القصة إلى الملك أقامه ذلك وأقعده، وأبرق بسببها على الناس وأرعد، حتى أن الوزراء ما زالوا يخفونها عليه، ويهونونها لديه فغفل عن شأنها، وأعرضوا عن الإحتفال بها[91/ب] وأما نحن فلم نعبأ برفع مثل ذلك إلى الملك وقلنا له حين سألنا عنها ليس في مثل هذا بأس، ولم نظهر له التوجع من أحد من الناس، وإنما استعنا على ذلك بالله عز وجل، وبحسن الصبر، وإعمال الحذر، ومصاحبة الحزم، وإحسان النظر، واشتغلنا بمعالجة الملك في حصول الإذن منه لنا في العود إلى ديارنا، والإقبال على أعمال سفرنا، فما برح يطاولنا في الوعود، ويروح في المماطلة ويعود، حتى مضت علينا تسعة شهور كاملة، إلاَّ أنه عرض من الأعذار للملك في تحيرنا دخول أيام الخريف، وما يعتاد فيها من توالي الأمطار، واتصال ذلك في جميع ساعات الليل والنهار، فيستمر مطبقاً أربعة أشهر لا ينقشع سحابه، ولا ينقطع في تلك الشهر على تلك الديار ودقه وانصبابه، حتى أنهم ليعدون كثيراً من ذخاير النفقات، وما يتبعها من القوانين المصروفات، قدركفاية أيام الإطباق لما يحصل من احتباس الناس، وانقطاع الأسواق، ولقد رأينا تلك الديار مع هذه الأمطار يظهر للعيون بأعجب ما يراه الراؤن من حسن خضرتها، وكمال نضارتها، سهلها وجبلها، وجميع أرجائها وجوانبها، وتزهر مع ذلك بأنواع الزهور البرية، بلون الخضرة الزبرجدية، والحمرة الوردية، والصفرة
العسجدية، وقد يأخذون من هذه الزهور المذكورة ويتخذون منها صبغاً عجيباً يحبسونه بشيء من الممسكات ثم يصبغون به في الثياب وفي شيء من البسط يشبه الرومية، فيكون صبغاً رايقاً، ولوناً مناسباً لايقاً، ومع اتصال تلك الأمطار، وتواليها على عموم تلك الأقطار، لا تتيسر مواد الأسفار، ولا يأمن الإنسان من الوقوع في الأخطار، فأقمنا تلك الأيام كالقبض على جمر الغضا، والصبر على سفح اللظى:
رضيت قسراً وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضاء
ومن عجايب ما نذكره، أنه قد يتفق في هذه الديار الخريف في نزول نار من السماء، يرونها كالدخان العظيم المجتمع في جو السماء، يركمه الرياح بعضه على بعض ثم ينزل مجتمعاً، وهم يرونه بأعينهم حتى يقع على الأرض، فإن أصاب بيوتاً أحرقها، وإن وقع على نفوس أهلكها، وهذا لم نشاهده عياناً، وإنما رواه لنا بعض جماعتنا المصاحبين كان مترحاً في البادية، فوقع ذلك في تلك المحلة التي كان فيها، ولما روى لنا ذلك سألنا عنه كثيراً من أهل تلك الديار، فأخبرونا أن ذلك شيء معروف، وأمر ظاهر مشكوف، فسبحان الملك القدير، المخوف بآياته، المظهر لعباده[92/أ] ما أراهم من دلايل نقماته وسطواته: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } ولما انقضت أيام الخريف، رجعنا إلى مذاكرة الملك، ومطالبته في شأن السفر، والحث له على الوفاء الذي هو أطيب ما تضمنته السير، وأفضل ما ذكره في طي الذكر، فرجع إلى تلك المماطلات الكذبية، والمواعيد العرقوبية، وغالب أحوالهم أنهم يعدون الكذب شعاراً ودثاراً، ويتعاملون به ولا يرونه عاراً وبواراً، ونحن في خلال هذه الإقامة، نطلب من نجتمع به من أهل شريعتهم وقراء كتابهم، فلم نجد أحداً ممن يعرف بذلك، إلا من كان منهم تسمى باسم الرهبانية والأغلب عليهم عدم الإطلاع على أحكام شريعتهم، وإنما طريقتهم الزهادة، والعبادة والميل إلى الخلوة، واجتناب الأنكحة، فأما هؤلاء فكثير جاءنا منهم، وكنا نخوض معهم في أشياء من علوم الشريعة، فلم نجد عندهم ما يعرف به كونهم من أهل علمهم، فإن محاورة العالم لا تخفى، وقد كان بلغ إلينا خبر رجل عظيم من