لنا أنها صخرة، فلما وصلنا إليها وجدناها حيواناً ميتاً يقال له: فرس البحر، الله أعلم ما عرض لها فأهلكها، وهي في الكبر والعظم ما لا أعرف له نظيراً في الحيوان، وهذا النهر لا يتمكن المار منه من قطعه إلا من أمكن مخصوصة، متسعة في عرضها يتبسط فيها الماء، ثم تكون مستوية لا ينحدر فيها الماء؛ لأنه مع الإنحدار تكون له قوة، فإذا كان المكان على هذه الصفة سلك فيه المار والماء يتصل بركاب الفرس السامي، ومقدار العرض في قياس مائة ذراع، وهذا النهر ينصب ماؤه في نيل مصر، على ما حكاه لنا بعض أهل الحبشة، فسبحان الملك القدير الذي أظهر لنا عظيم قدرته، وأرانا عجايب حكمته وصنعته.

ثم إنا بعد تمام سبع مراحل اتصلنا ببلاد (الفلاشة) أولها واد عظيم تحت جبل عال في نهاية السمو، وغاية العلو، اسم الوادي (أُغنة) -بنون قبلها غين معجمة ساكنة قبلها همزة مضمومة- والجبل (سمين) مصغراً، وهو أعظم جبال الحبشة، ولو أقول أعظم جبال الأرض لم يكن بعيداً؛ لأنه يوجد في كل طريق من طرق الحبشة، وهو شديد البرد لا يعرف مثله في شدة البرودة، لا يبرح الماء جامداً فيه شتاءً وصيفاً، وهذه البلاد عهدة ولايتها على بعض وزراء الملك، وأهل الإختصاص بحضرته، رجل منهم اسمه (دموه) وله وكلاء ونواب في البلاد، وأمَّا هو فلا يفارق حضرة الملك، وهذه القبيلة التي يسمونها (الفلاشة) قبيلة كبيرة، من أعظم قبايل الحبشة، وهم على دين اليهودية وشريعة التوراة، وكانوا من قبل خارجين عن طاعة الملك لإختلاف دينهم، وهم أهل نجدة، وشوكة عظيمة، وبسالة، فما زال الملك يغزوهم ويحاربهم ويضايقهم من جميع أطراف بلاده لإحاطة بلاد النصارى بهم، حتى غلبهم واستنزلهم من حصونهم، ودخلوا في طاعته، ودانوا له بمقالته، وجعل ولاية بلادهم إلى ولاية هذا الوزير، ودخل أكثرهم في النصرانية، ولم يبق إلا اليسير، غير أن الملك لم يعترضهم في أمر الدين، وإنما يطلب منهم الطاعة له، واستمر سيرنا في هذه البلاد حتى اتصلنا ببلاد (الأمحرة) الذين هم عشيرة الملك وكرسي مملكته، وأهل نصرته، وكان سيرنا في بلاد (الأمحرة) قدر اثنتي عشر مرحلة، وبعد تمام اثنتي عشرة وصلنا قرية قريبة من مدينة الملك أهلها كلهم مسلمون وفيها مسجد، ومكتب لتعليم صبيانهم القرآن، فاستأنسنا بذلك غاية الأنس، وسررنا بهم أكمل

المسرة، بحيث أنه سرى عنا ما ثقل على قلوبنا مما قد قاسينا من سوء مخالطة[87/ب] الكفار والنظر إليهم، وإلى منكراتهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى يسر لي خاصة تجنب طعاماتهم المصنوعة، كما كنت أعد من الدقيق الذي يطحنه المسلمون، وأما بقية المصاحبين فإنهم اضطروا إلى أكل طعامهم المصنوع، وللضرورة أحكام.
ولما وصلنا هذه القرية المختصة بالمسلمين جاء رجل إلى الحاج سالم بن عبدالرحيم رسول الملك الذي نحن في صحبته، يخبره أن رجلين من أصحابه قد اتصلوا بوزراء الملك، وألقيا كلاماً إليهم، معناه أن الحاج سالم قد جاء في صحبته بهذا الرجل العربي وهو من أهل شريعة دين الإسلام، ويريد أن يدخل الملك في دينهم، ويغير دينكم، ويمحوا شريعتكم، وأمرنا هذا الرجل النذير بافتقاد مامعنا من كتب الإمام -عليه السلام- لئلا يكون فيها شيء مما يصدق ذلك الحديث، فجاء الحاج سالم إليَّ مبهوتاً من ذلك خايفاً مرعوباً، وقال لي: انظر في كتاب الإمام -عليه السلام- وتحقق ألفاظه، فإن وجدت فيه ما تخشى عاقبته أصلحته وحولت عبارته، وقلت فيه ما شئت فإنهم قوم لا يفقهون، فأعدت نظراً في الكتاب وهو غير مختوم، فإذا فيه من الكلام ما يجد له عذراً وإن كان فيه نحو قوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} إلى آخر الآية، فكنا هيأنا لمثل ذلك عذراً إن جرى فيه المناقشة على أن قلوبنا مع ذلك ساكنة شديدة، لم نجد فيه قلقاً ولا اضطراباً، فكتمنا ذلك في نفوسنا، وأسررناه في ضمائرنا، ثم

تقدمنا ذلك اليوم إلى محل يتصل بمدينة الملك ويعد من جوانبها ووقفنا هنالك، وهؤلاء النصارى على عموم ليس فيهم شيء من المرؤة ومكارم الأخلاق التي لا يمنعها شؤم الكفر ولا تخلت ملة من الملل من الإتفاق على أنها من صفات المحامد وخصال الأماجد، أمَّا هؤلاء القوم فرأيناهم في اللؤم وشدة البخل كأنهم جميعاً أخلاق رجل واحد، إلا أن تكون عليهم يد غالبة وسلطان قاهر، فمن جملة لؤمهم أنا بتنا في هذه القرية طاوين من الطعام، ولم ندخل أماكنهم إلا بالقهر لهم والغلبة عليهم، ثم إنا بعثنا إلى الملك رسولاً يخبره بوصولنا إلى ذلك المحل ويستأذنه بقدومنا عليه فأبطأ الرسول[88/أ] ولم يرجع إلينا الجواب إلا في آخر اليوم الثاني لبعد منال الملك وصعوبة الإتصال به وسوء معاملة وزرائه وأعوانه.

ولما رجع إلينا جواب الملك يأمرنا بالدخول إلى المدينة والمبيت في بعض بيوت الوزراء رجل اسمه (حواريا) فدخلنا بقية ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة المباركة، سلخ شهر صفر المظفر عام ثمان وخمسين وألف سنة، فمررنا في أزقة المدينة وقد اجتمع فيها من جموع النصارى الذكور والإناث على قواعدهم في عدم حجاب النساء ما لا يعلم قدره إلا الله، ولا يحصي عددهم سواه، وذلك لما توفرت دواعيهم واشتدت رغبتهم إلى نظر هؤلاء العرب الوافدين، وكونهم شكلاً غربباً وأمراً عندهم عجيباً، فانتهينا إلى بيت ذلك الوزير الذي أمر الملك بالنزول تلك الليلة فيه، ووصلت إلينا الضيافات من بيت الملك ثم من وزرائه طعاماً مصنوعاً وعسلاَ كثيراً وبقراً وغنماً، كل رجل بما تسنى لديه وبحسب حاله، وخلطوا في هذه الضيافة من دنان الخمر العظيمة، يحسبونه من كمال الضيافة، وما يتحفون من الأضياف أشراف التحافة، فأشار إليهم الحاج سالم بن عبدالرحيم رسول الملك أن يرفعوا ذلك، وبين لهم حكمه في دين الإسلام، الذي شرفنا الله به وأيدنا بعزه، فسارعوا برفعه فوراً.

ثم لما كان صبح تلك الليلة المسفر عنها أمر إلينا الملك يستدعي وصولنا إليه، فتقدمنا إلى قلعة الملك، وأشرفنا على دار عالية، وبنية سامية، من أعجب المباني الباهرة، وأحسن العجائب الفاخرة، مبنية بالحجارة والنورة، وليس في المدينة؛ بل ولا في أرض الحبشة غيرها، فهي من أكمل منظر وأجمل صورة، وساير البيوت في تلك الديار جميعها إنما هي عشاش من نبات الأرض، والباني لهذه الدار رجل من أهل الهند، فصفة تفصيلها على أساليب أرضه، وهذه القلعة التي تختص بيوت الملك في جانب المدينة وأعلى محل فيها، وهي تشتمل على دور عديدة وساحات مديدة، وحول هذه الدار مبان أخر أرضية متسعة الأطراف في الطول والعرض والسمو سعة ما رأته العين في شيء من المباني، وهذه الأماكن معدة لقعود الملك فيها، وفي كل مكان منها ينبغي أن يهيأ به من الفرش الرومية المنوعة، ومطارح الهند التي هي بالذهب ملمعة، والأسرة الفاخرة، التي هي بالحلي والجواهر مرصعة، فناهيك بتلك المقاعد زينة للناظر، واستدراجاً لذلك الملك الكافر.

ولما وصلنا إلى الملك[88/ب]وقد انتظم مجلسه في تلك الدار، وتهيأ أهل الحضرة من الوزراء وغيرهم وأعظم أبهة، حيث لبسوا مطارف الديباج المطرزة بالذهب ومطارف الحرير التي يقضي منها الناظر إليها بغريب الصنعة ونهاية العجب، وجعلوا في أوساطهم مناطق الذهب المحلاة بالفصوص الفاخرة، ونفيس الجواهر التي هي لهم في الدنيا ولنا إن شاء الله في الآخرة، ثم أخذوا في أيديهم السيوف السنارية المحلاة كذلك بعين الذهب الخالص، وتعجلوا بهذه النعمة التي هي إلى الزوال أسرع من الظل القالص، ثم انتظموا بذلك المجلس قياماً أحسن نظام مع تمام صورهم، لما خلقهم الله تعالى عليه من بسطة الأجسام، وألوانهم مع ذلك غير مشوهة بالسواد الفاحم، ورؤوسهم مكشوفة عن الشعر الجعيد الناعم، وفي أيديهم أساورة الذهب، وفي آذانهم الأقراط المتلألئة كإشتعال اللهب، وعلى الجملة فما رأيت من صفات الملك غير هذه الأمور المنعوته وما سوى ذلك من الكمال فعراه مبتوكة مبتوتة، فلما رأينا تلك الهيئة وذلك الإنتظام، وقد كان في النفس شيء من ذلك الكلام، الذي قدمنا ذكره، فخطر بالبال أن هؤلاء الوزراء يريدون بهذا الإجتماع، معرفة حقيقة ما نقل إليهم، وقد يمكن أنهم يريدون الإطلاع على كتاب الإمام -عليه السلام- الذي في صحبتنا؛ لأن هؤلاء الوزراء لهم اليد القوية على الملك، والتصرف النافذ على كل حال، ولما نظرنا إلى الملك وجدناه وقد نزل عن سريره وقعد على الأرض إكراماً لنا، وإعظاماً لإمامنا، وقادته التي يعرف عليها أنه لا ينزل عن سريره لوفود وافد، إلا أن يكون في أعلى مراتب الفخامة، ومستحقاً أنواع

الكرامة، ثم إن كل وافد لا يقعد بين يديه إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن كانت منزلته كذلك، فلما استقر بنا المجلس أقبل علينا الملك، وقد أعد ترجماناً شريفاً يقول إنه من آل الحسين بن علي-رضوان الله عليهما- من أرض بخارى، وهو ملازم حضرة الملك، قد سلب الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وسلك في مساخط الرحمن، فهو شيطانهم المريد: {إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وهذا الشريف يعرف لسان العرب أحسن المعرفة، ويعبر عنه أوفى العبارة، فاستقام بين يدي الملك يعبر عنا وعنه، وسألنا عن الأحوال، فأخفا السؤال، وبالغ في التحقيق عن الإمام -عليه السلام- وأولاد إخوانه بأبلغ الإستفصال، ثم إنه بدأنا بالسؤال عن كتاب الإمام الذي في أيدينا، واستدعاه منا بمسمع من أهل حضرته، فتأكد من ذلك الظن حيث ابتدأنا بذلك، فأجبنا عليه إن معنا[89/أ] كتاباً وصحبته هدية من الإمام -عليه السلام- إلى الملك ولإيصاله الهدية مجلس آخر غير هذا، كما هي القاعدة المعروفة، فأجاب علينا الشريف الترجمان قبل أن يبلغ الملك قواعد هؤلاء القوم غير ما عرفتموه، وهي أن الوافد مثل وفودكم هذا يقدم هديته بين يديه حال قدومه، فقلناه له: بلغ الملك ما قلناه، واعتذر لنا في ما جهلناه، فبلغ الشريف ما عرفناه به وقبل عذرنا، ثم قال لنا بعد ذلك: في أي محل تريدون النزول في منازل النصارى أم في منازل المسلمين، وهناك حافة للمسلمين مخصوصة، محصورة في جانب من المدينة، فقلنا له: منازل المسلمين أولى بنا، والكل في جواركم وحماكم، فأمر معنا ذلك الشريف ينزلنا في بيوت تصلح لنا،

ففعل الشريف ذلك، وبقينا تلك الليلة، وافتقدنا كتاب الملك وأسماء الهدية فيه وأعيانها، ثم استأذنا على الملك في اليوم الثاني للوصول إليه بالهدية، فأذن، وتوجهنا إليه بها ووجدنا حضرته كما كانت بالأمس فدفعنا إليه الكتاب، فقرأه الشريف الترجمان جهراً يسمعه أهل الحضرة، وعبر عنه بلسانهم الذي يعرفونه، ثم سلمنا تلك الهدية بأعيانها شيئاً فشيئاً، حتى أتينا على آخرها، ولما فرغنا من تسليمها، سألنا الملك أن يجعل لنا من أصحابه وأعوانه، ومن يتولى رفع حوائجنا إليه مما يعرض لنا فاستحسن ذلك، وعينه على الوزير المقدم ذكره المسمى (حواريا) ثم انصرفنا من حضرة الملك، وقد أمر ذلك الوزير أن يجري علينا من النفقة وتوابعها ما يقوم بكفايتنا، وألزمه أن يحسن التعاهد لنا لأحوالنا، فأجرى علينا من الملك في كل شهر ثلاثين حملاً من الحنطة، وأربعين رأساً من الغنم، وأربع رؤوس من البقر، وعشرين جرة من العسل، وست جرار من السمن، واستمر ذلك مرتباً في كل شهر.

ولما كان بعد مضي ستة أيام من حين وصولنا، طلب الملك وصولنا إليه، وأمرنا نقلل من الجماعة المصاحبين، ففهمنا أنه يريد ذلك الموقف الذي يكون فيه كشف السر الذي إليه يساق الحديث، فتوجهنا إليه وصحبنا من جماعتنا غير أنهم بعد وصولهم حضرة الملك خرجوا من عندنا، ووقفوا في حجرة الدار، ولم يبق في حضرة الملك من وزرائه غير ثلاثة منهم من كبارهم، لم يخرجوا من حضرته وبقية الوزارء والأعيان متوارون عنا يسيراً، وهم يتطلعون إلى سماع ما يقال من الحديث، وليس هناك احتراس على حفظ الأسرار، وصيانتها عن الإعلان والإظهار، وأمر الملك الحاج سالماً رسوله المقدم ذكره أن يترجم عنه وعنا في ذلك الموقف، وأفاض إلينا من مكنون سره، وأعلن بما كان أضمره حتى أتى على آخره[89/ب] والمراد منا هو استيداع ذلك الحديث وحفظه عن الإذاعة، والحرص عليه من الإضاعة، حتى نبلغه عن صفته إلى مولانا أمير المؤمنين-أطال الله له الأيام والسنين- وجوابه ليس مطلوباً منا كما ذلك معروف من سياق مبادئ الأخبار، غير أنا جاريناه في ذلك المقام بما يليق بالحال من ترويج الكلام، وتلقي ذلك الحديث بالإكرام التام، وختمنا ذلك المجلس بأخذ الحقيقة من الملك لما سألناه عن ذلك الحديث، أهو الذي استدعى وصولنا إليه من أجله؟ فقال: نعم! هو هذا بعينه، وهو أمر عظيم لا يصونه إلا مثلكم، فقلنا: هل بقي في نفوسكم شيء؟ فهذا الموقف الحسن ما تستقضي فيه الأخبار، وتباح فيه مستودعات الأسرار؟ فقال: هو هذا، ولم يبق غيره مما نريد نحن وصولكم إلينا من أجله، فانصرفنا من مجلسه ذلك وأخذنا نتصفح أحواله، وهل نجد سبيلاً

39 / 116
ع
En
A+
A-